٥ثم قال: {من كان يرجو لقاء اللّه فإن أجل اللّه لآت وهو السميع العليم}. لما بين بقوله: أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو اللّه تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض، فقوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} (العنكبوت: ٢) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله {وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم} (العنكبوت: ٢، ٣) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} مع قوله: {من كان يرجو لقاء اللّه} فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر. المسألة الثانية: ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء اللّه أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر. المسألة الثالثة: قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله: {من كان يرجو لقاء اللّه} من كان يخاف اللّه وهو أيضا ضعيف، فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل اللّه ولا يفهم منه أخاف فضل اللّه، وإذا كان واردا لهذا لا يكون لغيره دفعا للاشتراك. المسألة الرابعة: يمكن أن يكون المراد بأجل اللّه الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر، فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلا بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل، أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال، وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء. المسألة الخامسة: قوله: {من كان يرجو} شرط وجزاؤه {فإن أجل اللّه لآت} والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء اللّه لا يكون أجل اللّه آتيا له، وهذا باطل فما الجواب عنه؟ نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب، يعني من كان يرجو لقاء اللّه فإن أجل اللّه لآت بثواب اللّه يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل اللّه آتيا على وجه يثاب هو. المسألة السادسة: قال: {وهو السميع العليم} ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما، وذلك لأنه سبق القول في قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا} وسبق الفعل بقوله: {وهم لا يفتنون} وبقوله: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} وبقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال: ممن كذب وأيضا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها: عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع، وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل اللّه لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، كما وصف في الخبر في وصف الجنة. |
﴿ ٥ ﴾