ÓõæÑóÉõ áõÞúãóÇäó ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ÃóÑúÈóÚñ æóËóáÇóËõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة لقمان عليه السلاممكية كلها إلا آيتين نزلنا بالمدينة وهما {ولو أن * ما فى الارض * من شجرة} الآيتين وإلا آية نزلت بالمدينة وهي {الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة} لأن الصلاة والزكاة نزلتا بالمدينة وهي ثلاث وقيل أربع وثلاثون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١انظر تفسير الآية:٢ ٢{الم تلك ءايات الكتاب الحكيم}. وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر ما قبلها هو أن اللّه تعالى لما قال: {ولقد ضربنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل} (الروم: ٥٨) إشارة إلى كونه معجزة وقال: {ولئن جئتهم بئاية} (الروم: ٥٨) إشارة إلى أنهم يكفرون بالآيات بين ذلك بقوله: {الم تلك ءايات الكتاب الحكيم} ولم يؤمنوا بها، وإلى هذا أشار بعد هذا بقوله: {وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا} (لقمان: ٧). ٣فقوله {هدى} أي بيانا وفرقانا، وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى: {الم * ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى} (البقرة: ١ و٢) وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا، كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه، ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع {الم تلك ءايات الكتاب الحكيم} لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال في سورة البقرة {ذالك الكتاب} (البقرة: ١) ولم يقل الحكيم، وههنا قال {الحكيم} فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال: {هدى ورحمة} وقال هناك {هدى للمتقين} (البقرة: ١) فقوله: {هدى} في مقابلة قوله: {الكتاب} وقوله: {ورحمة} في مقابلة قوله: {الحكيم} ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى: {فى عيشة راضية} (الحاقة: ٢١) أي ذات رضا. المسألة الثانية: قال هناك {للمتقين} وقال ههنا {للمحسنين} لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئا آخر قال: {للمتقين} أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب، وينظر فيه من غير عناد، ولما زاد ههنا رحمة قال: {للمحسنين} أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر، كما قال تعالى: {إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل: ١٢٨) ومن جانب الكفر كان متقيا وله الجنة، ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسنا وله الزيادة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦) ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال: {للمحسنين} لأن رحمة اللّه قريب من المحسنين. المسألة الثالثة: قال هناك {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة} (البقرة: ٣) ٤وقال ههنا {الذين يقيمون الصلواة} ولم يقل يؤمنون لما بينا أن المتقي هو التارك للكفر ويلزمه أن يكون مؤمنا والمحسن هو الآتي بحق الإيمان، ويلزمه أن لا يكون كافرا، فلما كان المتقي دالا على المؤمن في الالتزام صرح بالإيمان هناك تبيينا ولما كان المحسن دالا على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلواة} قد ذكرنا ما في الصلاة وإقامتها مرارا وما في الزكاة والقيام بها، وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد فإنها عبادة صورة وحقيقة واللّه تعالى تجب له العبادة ولا تجوز عليه العبادة، وترك التشبه لازم على العبد أيضا في أمور فلا يجلس عند جلوسه ولا يتكىء عند اتكائه، والزكاة تشبه بالسيد فإنها دفع حاجة الغير واللّه دافع الحاجات، والتشبه لازم على العبد أيضا في أمور، كما أن عبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. ٥أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٦{ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه ...}. لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول: أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني: هو أن الحديث إذا كان لهوا لا فائدة فيه كان أقبح الثالث: هو أن اللّهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "روحوا القلوب ساعة فساعة" رواه الديلمي عن أنس مرفوعا ويشهد له ما في مسلم "يا حنظلة ساعة وساعة" والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله: {ليضل عن سبيل اللّه} كان فعله أدخل في القبح. ثم قال تعالى: {بغير علم} عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل {أولئك لهم عذاب مهين} قوله: {مهين} إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى، فإنه لا يكرمه. فقوله: {عذاب مهين} إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مين. ٧{وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه} وقرأ: فبشره بعذاب أليم. أي يشتري الحديث الباطل، والحق الصراح يأتيه مجانا يعرض عنه، وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئا، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها، وهم ما كانوا يطلبونها، وإذا جاءتهم مجانا ما كانوا يسمعونها، ثم إن فيه أيضا مراتب الأولى: التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني: الاستكبار، ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنيا عن الحكمة حتى يستكبر عنها؟ وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله، فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند اللّه؟ الثالث: قوله تعالى: {كأن لم يسمعها} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع: قوله: {كأن فى أذنيه وقرأ:} أدخل في الإعراض. ثم قال تعالى: {فبشره بعذاب أليم} أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده، أو يقال إذا كان حاله هذا {فبشره بعذاب أليم}. ٨{إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم}. لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى، بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار، فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به، فإن من سمع شيئا وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ثم إن هذا له جنات النعيم ولذلك عذاب مهين وفيه لطائف: إحداها: توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب الثانية: تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالا للراحة إلى القلب، ولا يبين النقمة، وإنما ينبه عليها تنبيها الثالثة: قال عذاب، ولم يصرح بأنهم فيه خالدون، وإنما أشار إلى الخلود بقوله: {مهين} وصرح في الثواب بالخلود بقوله: ٩{خالدين فيها}، الرابعة: أكد ذلك بقوله: {وعد اللّه حقا} ولم يذكره هناك الخامسة: قال هناك لغيره {فبشره بعذاب} وقال ههنا بنفسه {وعد اللّه}، ثم لم يقل أبشركم به لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون، لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من اللّه، وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} (التوبة: ٢١) ولولا قوله: {منه} لما عظمت البشارة، ولو كانت {منه} مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله: {وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون} (فصلت: ٣٠) نقول البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها، بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى: {نزلا من غفور رحيم} والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده {وهو العزيز الحكيم} كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل، كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي، فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر. ١٠{خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم ...}. ثم قال تعالى: {خلق * السماوات * بغير عمد ترونها}. بين عزته وحكمته بقوله: {خلق * السماوات * بغير عمد} اختلف قول العلماء في السموات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين، والغزالي رحمه اللّه قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلا من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله، فضلا من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحا، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى: {كل فى فلك يسبحون} (الأنبياء: ٣٣) والفلك اسم لشيء مستدير، بل الواجب أن يقال بأن السموات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة اللّه لا موجودة بإيجاب وطبع، وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله: {بغير عمد} أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة اللّه تعالى وقال بعضهم المعنى أن السموات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكنا والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان، إذا علم هذا فالسموات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله: {ترونها} فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني: أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة اللّه وإرادته. ثم قال تعالى: {وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من}. أي جبالا راسية ثابتة {أن تميد} أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد، واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، ثم قال تعالى: {وبث فيها من كل دابة} أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب مأسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب، أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها، ثم قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء} هذه نعمة أخرى أنعمها اللّه على عباده، وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا، وقال خالد كذا وكذا وقال عمرو كذا ثم إن بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرر القول مرارا. وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما: أن خلق الأرض ثقيل، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة، لأن لها اختيار، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة اللّه تعالى، فقال: {وأنزلنا من السماء} الثاني: هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، متكثرة في كل مكان، فأسنده إلى نفسه صريحا ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته، وقوله تعالى: {فأنبتنا فيها من كل زوج} أي من كل جنس، وكل جنس فتحته زوجان، لأن النبات أما أن يكون شجرا، وأما أن يكون غير شجر، والذي هو الشجر أما أن يكون مثمرا، وأما أن يكون غير مثمر، والمثمر كذلك ينقسم قسمين، وقوله تعالى: {كريم} أي ذي كرم، لأنه يأتي كثيرا من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض. ١١قوله تعالى: {هذا خلق اللّه فأرونى ماذا خلق الذين من دونه} يعني اللّه خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق. ثم قال تعالى: {بل الظالمون فى ضلال مبين} أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال، وهذا لأن ترك الطريق والحيد عنه ضلال، ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال، فالمقصد هو اللّه تعالى، فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال، لكن من وجهه إلى اللّه قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة، ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب. وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلا، وإن دام في السفر، والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها أو الواضعون أنفسم في عبادة غير اللّه. ١٢قوله تعالى: {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر للّه} لما بين اللّه فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء بقوله: {هذا خلق اللّه فأرونى ماذا خلق الذين من دونه} وبين أن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى، وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهارا للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة، بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله: {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة اللّه تعالى، فنقول حصول العمل على وفق المعلوم، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا، ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم، وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة، لعدم علمه به أولا، ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {أن اشكر للّه} فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر اللّه إيتاء الحكمة بقوله: {أن اشكر للّه} وهو كذلك، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بإلهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة، وإن أهمل إلهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر اللّه أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي، ثم إن اللّه تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله: {ومن كفر فإن اللّه غنى حميد} أي اللّه غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه، وفي الآية مسائل ولطائف الأولى: فسر اللّه إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب: أن قوله تعالى: {أن اشكر للّه} أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف. المسألة الثانية: قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل، وفي الكفران ومن كفر فإن اللّه غني، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل أبدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود، كما قال: {رب أوزعنى أن أشكر نعمتك} (النمل: ١٩) وكما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (النحل: ١٨) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام فقال بصيغة الماضي. المسألة الثالثة: قال تعالى هنا: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر} بتقديم الشكر على الكفران، وقال في سورة الروم: {ومن كفر * فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون} (الروم: ٤٤) فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من اللّه يومئذ يصدعون} (الروم: ٤٣) وههنا الذكر للترغيب، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد، وقوله: {ومن عمل صالحا} يحقق ما ذكرنا أولا، لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل، وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال {ومن يشكر} بلفظ المستقبل وقوله: {ومن كفر فإن اللّه غنى} عن حمد الحامدين، حميد في ذاته من غير حمدهم، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامدا للّه تعالى. ١٣{وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم}. عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه وحين جعلناه واعظا لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملا في نفسه ومكملا لغيره فقوله: {أن اشكر} إشارة إلى الكمال وقوله: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه} إشارة إلى التكميل، وفي هذا لطيفة وهي أن اللّه ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معاد، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا، ثم إنه في الوعظ بدأ بإلهم وهو المنع من الإشراك وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} (الإسراء: ٧٠) في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه اللّه وسبيله، وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه، ولا يجوز أن يكون موضعه، وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمرا يكون ظلما من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو، ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق، وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير اللّه تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبودا أصلا. ١٤{ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير}. لما منعه من العبادة لغير اللّه والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة، بل هي واجبة لغير اللّه في بعض الصور مثل خدمة الأبوين، ثم بين السبب فقال: {حملته أمه} يعني للّه على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله لأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود، وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة اللّه سبب وجوده وفصاله في عامين، أي صارت بقدرته أيضا سبب بقائه، فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة، فإن الخدمة لها صورة العبادة، فإن قال قائل وصى اللّه بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله: {أن اشكر لى ولوالديك} لما كان اللّه تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من اللّه، فإن الوجود في الحقيقة من اللّه وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال: {أن اشكر لى ولوالديك} ثم بين الفرق وقال: {إلى المصير} يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة، فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي. ١٥{وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم ...}. يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة اللّه، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما، وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت، وقال ههنا {واتبع سبيل من أناب إلى}، يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك، واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك، فإنه مربي عقلك، كما أن الوالد مربي جسمك. ١٦{يابنى إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة ...}. لما قال: {فأنبئكم بما كنتم تعملون} وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال: {وما يشعركم أنها} أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصعر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفي على اللّه، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {فتكن} بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على اللّه لأن الفاء للاتصال بالتعقيب. المسألة الثانية: لو قيل الصخرة لا بد من أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا الكلام لكون ابن عمرو داخلا في أحد القسمين فكيف يفهم هذا، فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها: ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني: ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضمارا تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض والثالث: أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز، أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها، وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك ههنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيدا، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها أن يكون من وراء حجاب، فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيرا قريبا في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة، فأثبت اللّه الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله: {إنها إن تك مثقال حبة} إشارة إلى الصغر وقوله: {فتكن فى صخرة} إشارة إلى الحجاب وقوله: {أو فى * السماوات} إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله: {أو فى الارض} إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله: {يأت بها اللّه} أبلغ من قول القائل يعلمها اللّه لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله: {يأت بها اللّه} أي يظهرها اللّه للإشهاد وقوله: {إن اللّه لطيف} أي نافذ القدرة {خبير} أي عالم ببواطن الأمور. ١٧{يابنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ...}. لما منعه من الشرك وخوفه بعلم اللّه وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه اللّه مخلصا، وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت. ثم قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة اللّه فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم، فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال {يعظه يابنى لا تشرك} ثم قال: {لسنتنا تحويلا أقم الصلواة} فنقول هو كان يعمل من ابنه أنه معترف بوجود اللّه فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، فإن المشرك باللّه لا يكون نافيا للّه في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في معرفة اللّه اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه، فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم، وأما ههنا فأمر أمرا مطلقا والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى: {واصبر على ما أصابك} يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه، وقوله: {إن ذلك من عزم الامور} أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول، كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي. ١٨{ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الارض مرحا إن اللّه لا يحب كل مختال فخور}. لما أمره أمره بأن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما: التكبر على الغير بسبب كونه مكملا له والثاني: التبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه فقال: {ولا تصعر خدك للناس} تكبرا {ولا تمش فى الارض مرحا} تبخترا {إن اللّه لا يحب كل مختال} يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر {فخور} يعني من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه، وفي الآية لطيفة وهو أن اللّه تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال {أقم الصلواة} ثم قال: {وأمر بالمعروف} وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال: {ولا تصعر خدك} ثم قال: {ولا تمش فى الارض مرحا} لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملا لا يمكن أن يصير مكملا فقدم الكمال، وفي طرف النفي من يكون متكبرا على غيره متبخترا لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه، وأما من يكون متبخترا في نفسه لا يتكبر، ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر، لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه. ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل، لأن من لا يفطر لا يأكل، ويجوز أن يقال لا تأكل ولا تفطر، لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل، ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحدا. ١٩{واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير}. لما قال: {ولا تمش فى الارض مرحا} وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدا فقال: {واقصد فى مشيك} أي كن وسطا بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي؟ فنقول: نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام اللّه من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول: هو أن الإنسان لما كان شريفا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرا فأقدر اللّه الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيا إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا للّه، وقد أشار إليه بقوله: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل} أي أصلح ضميرك فإن اللّه خبير، بقي الأمران فقال: {واقصد فى مشيك واغضض من صوتك} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث: هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه. فقوله: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكا آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء. وقوله: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الارض مرحا} الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم. وقوله: {واقصد فى مشيك واغضض من صوتك} إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى: {إلى * أنكر الاصوات لصوت الحمير} وفيه مسائل: المسألة الأولى: لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي، نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك، وإلا فيوقفه بالنداء، فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن. وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار، ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي، وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى. المسألة الثانية: كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيرا ؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني. المسألة الثالثة: أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو؟ نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه، بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجىء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ، كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع، وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول، وأحمق من فلان من باب العيوب، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذا من نكر الشيء فهو منكر، وهذا أنكر منه، وعلى هذا فله معنى لطيف، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير. ٢٠{ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما فى السماوات ...}. لما استدل بقوله تعالى: {خلق * السماوات * بغير عمد} على الوحدانية، وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبدا محضا للزم قبوله، فضلا عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مرارا أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضا، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي. وذكر بعض النعم بقوله: {وأنزلنا من السماء ماء} (المؤمنون: ١٨) ذكر بعده عامة النعم فقال: {سخر لكم ما فى * السماوات} أي سخر لأجلكم ما في السموات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر اللّه وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة} وهي ما في الأعضاء من السلامة {وباطنة} وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائما، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله: {ما في السماوات وما في الارض} يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولا منقولا، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغا معقولا. ثم قال تعالى: {ومن الناس من يجادل فى اللّه} يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في اللّه ويثبت غيره، أما إلها أو منعما {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى: {يجادل} ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علما كما قال تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم} (النساء: ١١٣) والثاني: إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى: {علمه شديد القوى} (النجم: ٥) والثالث: إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى: {الم * ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة: ٢) وقال في هذه السورة: {هدى ورحمة للمحسنين} (لقمان: ٣) وقال في السجدة: {وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل} (الإسراء: ٢) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام، والنبي هداه من اللّه تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين، فقال تعالى: يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفا، ولا بهدى أرسلناه إليه وحيا ولا بكتاب يتلى عليه وعظا. ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب: {ولا كتاب منير} لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم، فقال: {ولا كتاب منير} فإن ذلك الكتاب مظلم، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك. ٢١قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءاباءنا} بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام اللّه، وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام اللّه تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام اللّه وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئا آخر وهو أنهم قالوا: {بل نتبع ما وجدنا عليه ءاباءنا} يعني نترك القول النازل من اللّه ونتبع الفعل، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزا، ويحتمل أن يكون حراما، وهم تعاطوه، ويحتمل أن يكون واجبا في اعتقادهم والقول بين الدلالة، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله، لكان الواجب الأخذ بالقول، فكيف والقول من اللّه والفعل من الجهال، ثم قال تعالى: {أو * لو كان * الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} استفهاما على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب واللّه يدعو إلى الثواب، وهم مع هذا يتبعون الشيطان. ٢٢ثم قال تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى اللّه وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى اللّه عاقبة الامور} لما بين حال المشرك والمجادل في اللّه بين حال المسلم المستسلم لأمر اللّه فقوله: {ومن يسلم وجهه إلى اللّه} إشارة إلى الإيمان وقوله: {وهو محسن} إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى: {من ءامن وعمل صالحا} وقوله: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال ههنا: {ومن يسلم وجهه إلى اللّه} وقال في سورة البقرة: {بلى من أسلم وجهه للّه} فعدى ههنا بإلى وهناك باللام، قال الزمخشري معنى قوله: {أسلم * للّه} أي جعل نفسه للّه سالما أي خالصا والوجه بمعنى النفس والذات، ومعنى قوله: {يسلم وجهه إلى اللّه} يسلم نفسه إلى اللّه كما يسلم واحد متاعا إلى غيره ولم يزد على هذا، ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم للّه أعلى درجة ممن يسلم إلى اللّه، لأن إلى للغاية واللام للاختصاص، يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبىء هذا عن عدم الوصول لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبىء عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول، إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (البقرة: ١١١) فقال اللّه ردا عليهم: {تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم} (البقرة: ١١١) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه للّه} أي أنتم مع أنكم تتركون اللّه للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمنا قليلا تدخلون (النار) ومن كان بكليته للّه لا يدخلها، هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم للّه ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا اللّه وقال: أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها، ثم بين كذبهم وقال: بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله: {فله أجره عند ربه} وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة. ثم قال تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أوثق العرى جانب اللّه لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له، ثم قال تعالى: {وإلى اللّه عاقبة الامور} يعني استمسك بعروة توصله إلى اللّه وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: {وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند اللّه} (البقرة: ١١٠). ٢٣{ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملو ا ...}. لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال: {ومن كفر فلا يحزنك} أي لا تحزن إذا كفر كافر فإن من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن، بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل، وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب، فقال فلا يحزنك كفره، فإن المرجع إلي فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله: {إن اللّه عليم بذات الصدور} أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم، وذات الصدور هي المهلك، ٢٤ثم إن اللّه تعالى فصل ما ذكرنا وقال: {نمتعهم قليلا} أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله: {ثم نضطرهم} أي نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذابا غليظا فيضطرون إلى عذاب النار فرارا من الملائكة الغلاظ الشداد الذين يعذبونهم بمقامع من نار، وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا الرسل ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء، وهو يتحقق بقوله تعالى: {فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا}. ٢٥{ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون}. الآية متعلقة بما قبلها من وجهين أحدهما: أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله للّه، لأن خالق السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات والأرض، وكون الحمد كله للّه يقتضي أن لا يعبد غيره، لكنهم لا يعلمون هذا والثاني: أن اللّه تعالى لما سلى قلب النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم} أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا، قال وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السموات والأرض من اللّه، وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك {فقل الحمد للّه} على ظهور صدقك وكذب مكذبيك {بل أكثرهم لا يعلمون} أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالا للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية كما يقول القائل فلأن يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاء ومنعا فكذلك ههنا قال لا يعلمون أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله للّه، والثاني أبلغ لأن قول القائل: فلان لا علم له بكذا، دون قوله فلان لا علم له، وكذا قوله فلان: لا ينفع زيدا ولا يضره، دون قوله: فلان لا يضر ولا ينفع. ٢٦{للّه ما فى السماوات والارض إن اللّه هو الغنى الحميد}. ذكر بما يلزم منه، وهو أنه يكون له ما فيهما والأمر كذلك عقلا وشرعا، أما عقلا فلأن ما في السموات المخلوقة مخلوق وإضافة خلقه إلى من منه خلق السموات والأرض لازم عقلا لأنها ممكنة، والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة أو بواسطة كما يقوله غيرهم، وكيفما فرض فكله من اللّه لأن سبب السبب سبب، وأما شرعا فلأن من يملك أرضا وحصل منها شيء ما يكون ذلك لمالك الأرض فكذلك كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات والأرض وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله للّه. ثم قوله تعالى: {إن اللّه هو الغنى الحميد} فيه معان لطيفة أحدها: أن الكل للّه وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وفيها منافع فهي لكم خلقها فهو غني لعدم حاجته حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها وثانيها: أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله للّه ولا تصلح العبادة إلا للّه افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر، والكافر لم يحمد اللّه والمؤمن حمده فقال إنه عني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين، وحميد في نفسه فيتبين به إصابة المؤمنين وتكمل بحمده الحامدون وثالثها: هو أن السموات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت للّه ومخلوقة له فالكل محتاجون فلا غني إلا اللّه فهو الغني المطلق وكل محتاج فهو حامد، لاحتياجه إلى من يدفع حاجته فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني المطلق فهو الحميد، وعلى هذا (يكون) الحميد بمعنى المحمود، واللّه إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف، أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة، والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى، ويحتمل كونه عابدا شاكرا له. ٢٧{ولو أنما فى الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه إن اللّه عزيز حكيم}. لما قال تعالى: {للّه ما فى * السماوات والارض} وكان ذلك موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وما في الأرض فيهما، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال: {ولو أن * ما فى الارض * من شجرة أقلام} ويكتب بها والأبحر مداد لا تفني عجائب صنع اللّه، وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة، ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز. يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك، ويقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن اللّه تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمرا عجيبا وصنعا غريبا لوجوده من غير أب، فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا اللّه ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره، فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام اللّه تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية، وقيل أيضا إنها نزلت في واحد قال للنبي عليه السلام إنك تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء: ٨٥) وتقول: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (البقرة: ٢٦٩) فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد، وبالنسبة إلى اللّه وعلومه قليل، وقيل أيضا إنها نزلت ردا على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد، فقال إنه كلام اللّه وهو لا ينفد. وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير، لأنها تدل على أن المراد الكلام، فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا، لأنه إذا صلح جوابا لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا، لأن كلام اللّه عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله، وإذا قلنا بأن عجائب اللّه لا نهاية لها دخل فيها كلامه، لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقا، لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب، وأما الكلمات فهي من صفات اللّه تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب، ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر اللّه، فإنه بأمر الرسول كتب كذلك، وأمر الرسول من أمر اللّه وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه، ثم إن الآية فيها لطائف الأولى: قال: {ولو أن ما فى الارض من شجرة أقلام} وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير، يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاما الثانية: قوله والبحر يمده تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس وكل بحر مداد، ثم قوله: {يمده من بعده سبعة أبحر} إشارة إلى بحار غير موجودة، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله: {سبعة} ليس لانحصارها في سبعة، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد، لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، والذي يدل عليه وجوه الأول: هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان، لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال، لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام، ولأن الكواكب السيارة سبعة وكان المنجمون ينسبون إليها أمورا، فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني: هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدىء من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر، ثم المئات من العشرات والألوف من المئات، إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة، لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط، ولهذا يقال أقل ما يكون الإسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف، فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى السبعة القسم الأكثر، فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة، ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة، والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيرا للأمر على المكلف اكتفاء بالقسم الأول، إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام: "المؤمن يأكل في معى والكافر يأكل في سبعة أمعاء" إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها، ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير، ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها، والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واوا، يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف، . ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة: لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما: هو أن قوله: {ولو أن ما فى الارض من شجرة أقلام} بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر: {والبحر يمده سبعة أبحر} إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني: هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافد والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد. ثم قال تعالى: {أن اللّه عزيز حكيم} لما ذكر أن ملكوته كثيرا أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: {إنه عزيز حكيم} أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مدادا لما نفد ما في علمه وقدرته. ٢٨ثم قال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا. ثم قال تعالى: {إن اللّه سميع بصير} سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذا كونه قادرا على البعث ومحيطا بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل. ٢٩{ألم تر أن اللّه يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل ...}. يحتمل أن يقال: إن وجه الترتيب هو أن اللّه تعالى لما قال: {ألم تر أن اللّه سخر لكم ما فى * السماوات وما في الارض} على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله: {يولج اليل فى النهار} وقوله: {وسخر الشمس والقمر} إشارة إلى ما في السموات، وقوله بعد هذا: {ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت اللّه} إشارة إلى ما في الأرض. ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن اللّه تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول: {وما يهلكنا إلا الدهر} (الجاثية: ٢٤) والدهر هو الليالي والأيام، قال اللّه تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة اللّه تعالى فقال: {ألم تر أن اللّه يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل} ثم إن قائلا لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى: {وسخر الشمس والقمر} يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من اللّه فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى اللّه تعالى، فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا باللّه وقدرته، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما: أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل، وذلك لأن الليل إذا كان مثلا اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجودا في زمان كان فيه النهار وثانيهما: أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجودا في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لا بد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفا. إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: {يولج اليل فى النهار} أي يوجده في وقت كان فيه النهار واللّه تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى: {وجعلنا اليل والنهار ءايتين} (الإسراء: ١٢) وقوله: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: ١) وقوله: {واختلاف اليل والنهار} (الجاثية: ٥) ومن جنسه قوله: {خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الجاثية: ٥) وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمي والصمم ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لا بد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء ويترتب عليه مقتضاه لا تطلب النفس له سببا، لأن من يرى المتعيش في السوق، لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سببا، كمن يرى ملكا في السوق يقول لم دخل، فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيرا، وإذا كان كذلك قدم اللّه تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالبا سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر. المسألة الثانية: قال: {يولج} بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} (ي س: ٣٩). المسألة الثالثة: قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار، وههنا كذلك، لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب، والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيبا. المسألة الرابعة: ما تعلق قوله تعالى: {وأن اللّه بما تعملون خبير} بما تقدم؟ نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف اللّه لا يخفى على اللّه. المسألة الخامسة: قوله تعالى: {ألم تر} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليه الأكثرون، وكأنه ترك الخطاب مع غيره، لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم، ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني: أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحدا فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى اللّه مصيرك، فمن نصيرك، ولماذا تقصيرك. فقوله: {ألم تر} يكون خطابا من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح. ٣٠{ذلك بأن اللّه هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن اللّه هو العلى الكبير}. ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله: {إن اللّه هو الغنى الحميد} (لقمان: ٢٦) وقوله: {أن اللّه عزيز حكيم} (البقرة: ٢٢٠) وقوله: {إن اللّه سميع بصير} (المجادلة: ١) وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله: {ما نفدت كلمات اللّه} (لقمان: ٢٧) وبقوله: {يولج اليل فى النهار} وعلى الجملة فقوله: {هو الغنى} إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنيا لا يكون عرضا محتاجا إلى الجوهر في القوام، ولا جسما محتاجا إلى الحيز في الدوام، ولا شيئا من الممكنات المحتاجة إلى الموجد، وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحا وتضمنا، فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن اللّه هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت اللّه وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت، فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظرا إليه واللّه له الثبوت والوجود نظرا إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تاما لا نقص فيه. ثم اعلم أن الحكماء قالوا اللّه تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام (فالناقص) ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى (والمكتفي) وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال (والتام) ما حصل له كل ما جاز له، وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص اللّه منها لهم شيئا كما قال جبريل عليه السلام "لو دنوت أنملة لاحترقت" لقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: ١٦٤) (وفوق التمام) هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن اللّه تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال، فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله: {هو الحق} إشارة إلى التمام وقوله: {وأن اللّه هو العلى الكبير} أي فوق التمام وقوله: {وهو العلى} أي في صفاته وقوله: {الكبير} أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسما في مكان لأنه يكون حينئذ جسدا مقدرا بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرا بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير من مطلقا أكبر من كل ما يتصور. ٣١ثم قال تعالى: {ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت اللّه ليريكم من * ءاياته} لما ذكر آية سماوية بقوله: {ألم تر أن اللّه يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر} (لقمان: ٢٩) وأشار إلى السبب والمسبب ذكر آية أرضية، وأشار إلى السبب والمسبب فقوله: {الفلك تجرى} إشارة إلى المسبب وقوله: {بنعمت اللّه} إشارة إلى السبب أي إلى الريح التي هي بأمر اللّه {ليريكم من ءاياته} يعنى يريكم بإجرائها بنعمته {من ءاياته} أي بعض آياته، ثم قال تعالى: {إن فى ذالك لآيات لكل صبار شكور} صبار في الشدة شكور في الرخاء، وذلك لأن المؤمن متذكر عند الشدة والبلاء عند النعم والآلاء فيصبر إذا أصابته نقمة ويشكر إذا أتته نعمة وورد في كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" إشارة إلى أن التكاليف أفعال وتروك والتروك صبر عن المألوف كما قال عليه الصلاة والسلام "الصوم صبر والأفعال شكر على المعروف". ٣٢{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا اللّه مخلصين له الدين ...}. لما ذكر اللّه أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا، فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من اللّه ودعاه مخلصا أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه، فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله: {فمنهم مقتصد} وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله: {وما يجحد بئاياتنا إلا كل ختار كفور} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: {موج كالظلل} وحد الموج وجمع الظلل، وقيل في معناه كالجبال، وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج، ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة. المسألة الثانية: قال في العنكبوت {فإذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه} (العنكبوت: ٦٥) ثم قال: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} (العنكبوت: ٦٥) وقال ههنا {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} فنقول لما ذكر ههنا أمرا عظيما وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر. المسألة الثالثة:قوله: {وما يجحد بئاياتنا} في مقابلة قوله تعالى: {إن فى ذلك لايات} يعني يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظا، ومعنى والكفور في موازنة الشكور، أما لفظا فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار، فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى اللّه وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على العهد فينقضه، وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر. ٣٣{ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ...}. لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم اللّه فيه بين العباد، وذلك لأن الملك إذا كان واحدا ويعهد منه أنه لا يعلم شيئا ولا يستعرض عباده، لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف، ثم أكده بقوله: {لا يجزى والد عن ولده} وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه، ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى، وذكر الولد والوالد جميعا فيه لطيفة، وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد، ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كإلهانة، فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الإبن أن يدفع إلهانة عن والده ويحضر هو بدله، فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله: {لا يجزى والد عن ولده} في دفع الآلام {ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} في دفع إلهانة، وفي قوله: {لا يجزى} وقوله: {ولا مولود هو جاز} (لطيفة أخرى) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئا يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط، وكذلك من يحيك شيئا ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك، إذا علمت هذا فنقول الإبن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد {ولا مولود هو جاز}. ثم قال تعالى: {إن وعد اللّه حق} وهو يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون تحقيقا لليوم يعني اخشوا يوما هذا شأنه وهو كائن لوعد اللّه به ووعده حق والثاني: أن يكون تحقيقا لعدم الجزاء يعني: {لا يجزى والد عن ولده} لأن اللّه وعد بـ {ألا تزر وازرة وزر أخرى} (النجم: ٣٨) ووعد اللّه حق، فلا يجزي والأول أحسن وأظهر. ثم قال تعالى: {فلا تغرنكم الحيواة الدنيا} يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع (ذلك) اليوم المذكور بالوعد الحق. ثم قال تعالى: {ولا يغرنكم باللّه الغرور} يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا (بها) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثا، وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين. ٣٤{إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الارحام ...}. يقول بعض المفسرين إن اللّه تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك، لأن اللّه يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة، ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره، ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره، فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال اللّه: {واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده} وذكر أنه كائن بقوله: {إن وعد اللّه حق} كأن قائلا قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير اللّه ولكن هو كائن، ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مرارا على البعث أحدهما: إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من * قلبه *لمبلسين * فانظر إلى ءاثار رحمة اللّه كيف يحى الارض بعد موتها إن ذلك لمحى * الموتى} (الروم: ٤٩، ٥٠) وقال تعالى: {ويحى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون} (الروم: ١٩) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة واللّه قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال {وهو الذى ينزل الغيث} (الشورى: ٢٨) وقال: {يخرج الحى} (الروم: ١٩) وثانيهما: الخلق ابتداء كما قال: {وهو الذى * اللّه الخلق ثم يعيده} (الروم: ٢٧) وقال تعالى: {قل سيروا فى الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم اللّه ينشىء النشأة الاخرة} (العنكبوت: ٢٠) إلى غير ذلك فقال ههنا {ويعلم ما فى الارحام} إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة واللّه قادر عليها، وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام، قال لذلك الطالب علمه: يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها، فلك أشياء أهم منها لا تعلمها، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك، ولا تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون، فاللّه ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك، ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضا تهيىء أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعا إلى اللّه تعالى متوكلا على اللّه ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها، فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه، وهي الساعة، وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت اللّه على لسان أنبيائه. ثم قال تعالى: {إن اللّه عليم خبير} لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة، بقوله: {إن اللّه عنده علم الساعة} ذكر أن علمه غير مختص بها، بل هو عليم مطلقا بكل شيء، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء، واللّه أعلم بالصواب. |
﴿ ٠ ﴾