ÓõæÑóÉõ Õۤ ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ËóãóÇäò æóËóãóÇäõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة ص

ثمانون وثمان آيات مكية

_________________________________

١

{والقرءان ذى الذكر}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ولا بأس بإعادة بعض الوجوه

فالأول: أنه مفتاح أسماء اللّه تعالى التي أولها صاد، كقولنا صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد

والثاني: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن اللّه

الثالث: معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين، كما قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه} (النحل: ٨٨)

الرابع: معناه أن القررن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن، فدل ذلك على أن القرآن معجز

الخامس: أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها لاصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعلم بأوامره وانته عن نواهيه

السادس: أنه اسم السورة والتقدير هذه صاد،

فإن قيل ههنا إشكالان

أحدهما: أن قوله: {والقرءان ذى الذكر} قسم وأين المقسم عليه؟

والثاني: أن كلمة (بل) تقتضي رفع حكم ثبت قلبها، وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق، فأين هذا المعنى ههنا؟

والجواب: عن الأول من وجوه

الأول: أن يكون معنى صاد، بمعنى صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون صاد هو المقسم عليه، وقوله: {ص والقرءان ذى} هو

القسم الثاني: أن يكون المقسم عليه محذوفا، والتقدير سورة (ص والقرآن ذي الذكر) أنه لكلام معجز، لأنا بينا أن قوله {ص} تنبيه على التحدي

والثالث: أن يكون صاد اسما للسورة، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر، ولما كان المشهور، أن محمدا عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة، كان قوله هذه ص جاريا مجرى

٢

قوله: هذه هي السورة العجزة، ونظيره قوله هذا حاتم واللّه، أي هذا هو المشهور بالسخاء

والجواب: عن السؤال الثاني أن الحكم المذكور قبل كلمة {بل}

أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقا في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة {بل} ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب، واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قرأ الحسن صاد بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين، وقرأ: عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله كقولهم اللّه لأفعلن، وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر.

المسألة الثالثة: في قوله ذي الذكر وجهان

الأول: المراد ذي الشرف، قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤)

وقال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم} (الأنبياء: ١٠) ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس، كما يقولون له صيت

الثاني: ذي البيانين أي فيه قصص الأولين، والآخرين، وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ومجازه من قوله: {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} (القمر: ٢٢).

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة القررن ذي الذكر والذكر محدث بيان الأول:

قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤)

{وهذا ذكر مبارك} (الأنبياء: ٥٠)

{ص والقرءان ذى} (ص: ١)

{وما علمناه الشعر وما ينبغى له} (يس: ٦٩)

وبيان الثاني: قوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: ٢)

وقوله {ما يأتيهم من ذكر من * الرحمان محدث}

والجواب: أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثه.

أما قوله: {بل الذين * كفروا} فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق، والعزة ههنا التعظيم وما يعقتده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى: {وإذا قيل له اتق اللّه أخذته العزة بالإثم}

(البقرة: ٢٠٦) والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضيلة عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق، فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه، ومثله العاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة، وهي جانب الوادي، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر، ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلانا أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه واللّه أعلم،

٣

ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال: {كما * أهلكنا * قبلهم من قرن فنادوا} والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنياعند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا، وفيه وجوه

الأول: وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة

الثاني: نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب

الثالث: نادوا أي رفعوا أصواتهم، يقال فلان أندى صوتا من فلان أي ارفع صوتا، ثم قال: {ولات حين مناص} يعنيولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله: {فلما رأوا بأسنا * قالا * من} (غافر: ٨٤)

وقال: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون} (المؤمنون: ٦٤)

والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله: {ءالئن وقد عصيت قبل} (يونس: ٩١)

وقوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: ٨٥)

بقي ههنا أبحاث:

البحث الأول: في تحقيق الكلام في لفظ {لأت} الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد، وبسب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها،

أما الاسم

وأما الخبر ويمتنع بروزهما جميعا، وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان {وحين * مناص} منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالإبتداء أي ولات حين مناص كائن لهم.

البحث الثاني: الجمهور يقفون على التاء من قوله: {ولات} والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة، قال صاحب "الكشاف":

وأما قول أب يعبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.

البحث الثالث: المناص المنجا والغوث، يثال ناصه إذا أغاثه، واستناص طلب المناص، واللّه أعلم.

٤

{وعجبوا أن جآءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب}

ابم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} في قوله: {منهم}

وجهان

الأول: أنهم قالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة

والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة لا التنبيه على كمالجهالتهم، وذلك ونه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة، والتنفير عن الدنيا،

ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا من الكذب والتهمة؛ وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه، ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله، ونظيره قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} (المؤمنون: ٦٩) فقال: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} ومعناه أن محمدا كان من رهطهم وعشيرتهم وكان مساويا لهم في الأسباب الدنيوية فاستنكفروا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه، وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة اللّه وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة، وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد.

ثم قال تعالى: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} وإنما لم يقل وقالوا بل قال: {وقال الكافرون} إظهارا للتعجب ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة اللّه ويدعو إلى طاعة الشيطان ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة اللّه ويدعو إلى طاعة الشيطان وهو عندكم بالعكس من ذلك والكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم عن الكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم وعن الحشر والنشر وسائر الأشياء التي تثبت بدلائل العقول صحتها فكيف يكون كذابا، ثم إنه تعالى حكى جميع ما عولوا عليه في إثبات كونه كاذبا وهي ثلاثة أشياء

أحدها: ما يتعلق بالإلهيات

وثانيها: ما يتعلق بالنبوات

وثالثها: ما يتعلق بالمعاد،

أما لشبهة المتعلقة بالإلهيات فهي قولهم: {أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب} روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا وشق ذك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء يعنون المسلمين فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر أبو طالب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك، فقال صلى اللّه عليه وسلم ماذا يسألونني، قالوا ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال صلى اللّه عليه وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم؟ قالوا: نعم، قال تقولوا لا إله إلا اللّه، فقاموا وقالوا:

٥

{أجعل الالهة إلها واحدا * وأن هذا *لشىء عجاب} أي بليغ في التعجب وأقول منشأة التعجب من وجهين

الأول: هو أن القوم ما كانوا من أصحاب النظر والاستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلق العظيم قاسوا الغائب على الشاهد، فقالوا: لا بد في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفل كل واحد منهم بحفظ نوع آخر

الوجه الثاني: أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا جاهلين مبطلين، وذها الإنسان الواحد يكون محقا صادقا،

وأقول لعمري لو سلمنا إجراء حكم الشاهد على الغائب من غير ديل وحجة، لكانت الشبهة الألى لازمة، بطل أصل كلام المشهبة في الذابت وكلام المشبهة في الأفعال،

أما المشبهةفي الذات فهو أنهم يقولون لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسما ومختصا بحيز وجب ف يالغائب أن يكون كذلك،

أما المشبهة في الأفعال فهم المعتزلة الذين يقولون أن الأمر الفلاني فبيح منا، فوجب أن يكون قبيحا من اللّه، فثبت بما ذكرنا أنه إن صح كلام هؤلاء المشبهة في الذات وفي الأفعال لزم القطع بصحة شبهة هؤلاء المشركين، وحيث توافقنا على فسادها على فسادها علمنا أن عمدة المجسمة وكلام المعتزلة باطل فاسد.

وأما الشبهة الثانية فلعمري لو كان التقيد حقا لكانت هذه الشهبة لازمة وحيث كانت فاسدة علمنا أن التقليد باطل بقي ههنا أبحاث:

البحث الأولى: أن العجاب هو العجيب إلا أنه أبلغ من العجيب كقولهم طويل وطوال وعريض وعراض وكبير وكبار وقد يشدد للمبالغة كقوله تعالى: {ومكروا مكرا} (نوح: ٢٢).

الثاني: قال صاحب "الكشاف" قرىء عجاب بالتخفيف والتشديد فقال والتشديد أبلغ من التخفيف كقوله تعالى: {ومكروا مكرا كبارا}.

٦

ثم قال تعالى: {وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم} قد ذكرنا أن لملأ عبارة عن القوم الذين إذا حضروا في المجلس فإنه تمتلىء القلوب والعيون من مهابتهم وعظمتهم، قوله: {منهم} أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بن، بعد ما بكتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجواب العتيد قائلين بعضهم البعض {وانطلق الملا منهم أن امشوا}

وفيه مباحث:

البحث الأول: القراءة المشهورة (أن امشوا) وقرأ: ابن أبي عبلة امشوا بحذف أن، قال صاحب: "الكشاف" (أن) بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما يجري في المجلس المتقدم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول، وعن ابن عباس: وانطبق الملأ منهم يمشون.

البحث الثاني: معنى أن امشوا أنه قال بعضهم امشوا واصبروا، فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد، إن هذا لشيء يراد، وفيه ثلاثة أوجه

أحدهما: ظهور دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ليس له سبب ظاهر يثبت أن تزايد ظهوره، ليس إلا لأن اللّه يريده، وما أراد اللّه كونه فلا دافع له

وثانيها: أن الأمر كشيء من نوائب الدهر فلا انفكاك لنا منه

وثالثها: أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، قال الفقال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين، وإنما عرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.

٧

ثم قال: {ما سمعنا بهاذا فى * الملة الاخرة} والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد صلى اللّه عليه وسلم ما سمعناه في دين النصارى، أو يكون المراد بالمراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليهم، ثم قالوا: {إن هذا إلا اختلاق} افتعال وكذب، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد، فوجب أن يكون باطلا، ولو كان القول بالتقليد حقا لكان كلام هؤلاء المشركين حقاوحيث كان باطلا علمنا أن القول بالتقليد باطل.

٨

{أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب}

اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمدا لما كان مساويا لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذا الدرجة العالية والمنزلة الشريفة؟ وهو المراد من قولهم: {عليه الذكر من بيننا بل} فإنه استفهام على سبيل الإنكار، وحكى اللّه تعالى عن قوم صالح أنه قالوا مثل هذا القول فقالوا: {الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر * أشهر}

(القمر: ٢٥) وحكى اللّه تعالى عن قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم أيضا أنهم قالوا: {لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف: ٣١) وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة: أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشفر الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كادبة وسبب رواج هذا التغليظ عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل، فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه، فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه، فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه

الأول: قوله تعالى: {بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب}

وفيه وجهان

أحدهما: أن قوله: {بل هم فى شك من ذكرى} أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة

وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته، فهي دلائل قاطعة فلو تأملوا حق التأملفي الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال النبوة، ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركووا النظر والاستدلال،

فأما قوله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي، ولو ذاقوه لم يقع منهم "ءلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات

وثانيها: أن يكون المراد في قوله؛

{بل هم فى شك من ذكرى} هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مان يخوفهم من عذاب اللّه لو أصروا على الكفر، ثم أنهم أصروا على الكفر، ولم ينزل عليهم العذاب، فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه، وقالوا: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال: ٣٢) فقال: {بل هم * شك من ذكرى} معناه ما ذكرناه، وقوله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} معناه أن ذلك الشك إنما حصل بسبب عدم نزول العذاب

٩

والوجه الثاني: من الوجوه التي ذكرها اللّه تعالى في الجواب عن تلك الشبهة قوله تعالى: {أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب} وتقرير هذا الجواب أن منصب النبوة منصب عظيم ودرجة عالية والقادر على هبتها يجب أن يكون عزيزا أي كامل القدرة ووهابا أي عظيم الجود وذلك هو للّه سبحانه وتعالى، وإذا كان هو تعالى كامل القدرة وكامل الجود، لم يتوقف كونه واهبا لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا أو فقيرا، ولم يختلف ذلك أيضا بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه

١٠

والوجه الثالث: في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى: {أم لهم ملك * السماوات والارض *وما بينهما فليرتقوا * فى * الاسباب}

واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الكلام مغايرا للمراد من قوله: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} يعني أن هذه الأشياء أحد ذكرنا الخزائن أولا على عمومها أردفها بذكر {ملك السماوات والارض * وما بينهما} يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن اللّه، فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم، فبأن تكونوا عاجزين عن كل خزائن اللّه كان أولى، فهذاما أمكنني ذكره في الفرق بين الكلامين،

أما قوله تعالى: {فليرتقوا * فى * الاسباب} فالمعنى أنهم أن ادعوا أن لهم ملك السموات والأرض فعند هذا يقال لهم ارتقوا في الأسباب واصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يرتقوا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت اللّه وينزلوا الوحي على من يختارون، واعلم أن حكماء الإسلام استدلوا بقوله: {فليرتقوا * فى * الاسباب} على أن الأجرام الفلكية وما أودع اللّه فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن اللّه تعالى سمى الفلكيات أسبابا وذلك يدل على ما قلناه واللّه أعلم،

١١

أما قوله تعالى: {جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب}

ففيه مقامات من البحث

أحدهما: في تفسير هذه الألفاظ

والثاني: في كيفية تعلقها بما قبلها

أما المقام الأول: فقوله: {جند} مبتدأ وما للإيهام كقوله جئت لأمر ما، وعندي طعام ما، و {من الاحزاب} صفة لجند و {مهزوم} خبر المبتدأ

وأما قوله: {هنالك} فيجوز أن يكون صفة لجند أي جند ثابت هنالك، ويجوز أن يكون متعلقا بمهزوم معناه أن الجند من الأحزاب مهزوم هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرونفيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم

وأما المقام الثاني: فهو أنه تعالى لما ضعيفون، فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما، قال قتادة هنالك إشارة إلى يوم بدر فأخبر اللّه تعالى بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر،

وقيل يوم الخندق، والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة، وذلك لأن المنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة، فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح. واللّه أعلم.

١٢

{كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الجواب عن شبهة القوم أنهم أنما توانوا وتكاسلوا في النظر والاستدلال، لأجل أنهم لم ينزل بهم العذاب، بين تعالى في هذه الآية أن أقوام سائر الأنبياء هكذا كانوا ثم بالآخرة نزل ذلك العقاب، والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول في إخباره عن نزول العقاب عليهم، فذكر اللّه ستة أصناف منهم أولهم قوم نوح عليه السلام ولما كذبوا نوحا أهلكهم اللّه بالغرق والطوفان

والثاني: عاد قوم هود لما كذبوه أهلكهم اللّه بالريح

والثالث: فرعون لما كذب موسى أهلكه اللّه مع قومه بالغرق

وثالثها: ثمود قوم صالح لما كذبوه فأهلكوا بالصيحة

والخامس: قوم لوط كذبوه بالخسف

والسادس: أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كذبوه فأهلكوا بعذاب يوم الظلة، قالوا: وإنما وصف اللّه فرعون بكونه ذا الأوتاد لوجوه

الأول: أن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاده، ثم استعير لإثبات العز والملك قال الشاعر:

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل مالك ثابت الأوتاد قال القاضي حمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه لما وصف بتكذيب الرسل، فيجب فيما وصف به أن يكون تفخيما لأمر ملكه ليكون الزجر بما ورد من قبل اللّه تعالى عليه من الهلاكمع قوة أمره أبلغ

والثاني: أنه كان ينصب الخشب في الهواء وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا، ويتركه معلقا في الهواء إلى أن يموت

والثالث: أنه كان يمد المعذب بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات

وثالثها: قال قتادة كانت أوتادا وأرسانا وملاعب يلعب بها عنده

والخامس: أن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري إلهبة عظيمي النعم، وكانوا يكثرون من الأوتاد لأنهم يقرون أمره ويشدون مملكته كما يقوي الوتد البناء.

وأما الإيكة فهي الغيضة المتلتفة.

١٣

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ اْلأَحْزَابُ

ثم قال تعالى: {أولئك الاحزاب}

وفيه أقوال

الأول: أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم، فذلك نفعل بقومك، لأه تعالى بين بقوله: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} (ص: ١١) أن قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم جند من الأحزاب، أي من جنس الأحزاب المتقدمين، فلما ذكر أنه عامل الأحزاب المتقدمين بإلهلاك كان ذلك تخويفا شديدا لقوم محمد صلى اللّه عليه وسلم

الثاني: أن معنى قوله: {أولئك الاحزاب} مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة كما يقال فلان هو الرجل، والمعنى أن حال أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان هو الهلاك والبوار، فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين.

واعلم أن هؤلاء الأقوام إن صدقوا بهذه الأخبار فهو تحذير، وإن لم يصدقوا بها فهو تحذير أيضا، لأن آثار هذه الوقائع باقية وهو يفيد الظن القوي فيحذرون، ولأن ذكر ذلك على سبيل التكرير يوجب الحذر أيضا

١٤

ثم قال: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} أي كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب، لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين،

١٥

ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال: {وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق}

وفي تفسير هذه الصيحة قولان

الأول: أن يكون المراد عذابا يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة، كما يقال صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر:

صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا الشدتها على الأذقان

ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم، ونظيره قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} (يونس: ١٠٢) الآية

والقول الثاني: أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور، كما قال تعالى في سورة يس: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون} (يس: ٤٩) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة، فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم، كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره،

ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال: {ما لها من فواق} قرأ حمزة والكسائي {فواق} بضم الفاء، والباقون بفتحها، قال الكسائي والفراءوأبو عبيدة والأخفش: هما لغتان من فواق الناقة.

وهو ما بين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع، يقال أفاق من مرضه، أي رجع إلى الصحة، فالزمان الحاصل بين الحلبتين لعود اللبن إلى الضرع يمسى فواقا بالفتح وبالضم، كقولك قصاص الشعر وقصاصه، قال الواحدي: والفواق والفواق إسمان من الأفاقة، والأفاقة معناها الرجوع والسكون كأفاقة المريض، إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن إلى الضرع،

وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: "يأمر اللّه إسرافيل فينفخ نفخة الفزع، قال فيمدها ويطولها" وهي التي يقول: {ما لها من فواق} ثم قال الواحدي: وهذا يحتمل معنيين

أحدهما: ما لها سكون

والثاني: ما لها رجوع، والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون، ويقال لكل من بقي على حالة واحدة، إنه لا يفيق منه ولا يستفيق، واللّه أعلم.

قوله تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود * ذا الايد إنه أواب}.

اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص: ٤) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة

أولها: تتعلق بالإلهيات، وهو قوله: {أجعل الالهة إلها واحدا}

والثانية: تتعلق بالنبوات، وهو قوله: {عليه الذكر من بيننا بل} (ص: ٨)

١٦

والثالثة: تتعلق بالمعادة، وهو قوله تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر

فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته، والقط والقطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط، ولما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعد المؤمنين بالجنة، قالوا على

سبيل الاستهزاء: عجل لنا نصيبنا من الجنة، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها.

واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قالوا: إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء: {عجل لنا قطنا} أمره اللّه بالصبر على سفاهتهم، فقال: {اصبر على ما يقولون}

١٧

فإن قيل. أي تعلق بين قوله: {اصبر على ما يقولون} وبين قوله: {واذكر عبدنا * داوود}؟

قلنا بيان هذا التعلق من وجوه

الأول: كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على اللّه وإنكارهم الحشر والنشر، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من اللّه تعالى ومن

يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا

والثاني: كأنه قيل لمحمد صلى اللّه عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك

والثالث: أن للناس في قصة داود قولين: منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك،

وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال: الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر اللّه تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق

والخامس: أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير،

ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من اوحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا

والسادس: أن قوله تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود} غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال: {اصبر على ما يقولون} واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند اللّه لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجيء ذكره إن شاء اللّه تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: {كتاب أنزلناه * كتاب أنزلناه إليك مبارك} (ص: ٢٩)

واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.

فالقصة الأولى: قصة داود، واعلم أن مجامع ما ذكره اللّه تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام

فالأول: تفصيل ما آتى اللّه داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا

والثاني: شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين

والثالث: استخلاف اللّه تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة

أما النوع الأول: وهو شرح الصفات التي آتاها اللّه داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة

الأول: قوله لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود} فأمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة اللّه بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر اللّه أفضل الخلق محمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يقتدي به مكارم الأخلاق

والثاني: أنه قال في حقه: {عبدنا * داوود} فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم، وذلك غاية التشريف، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدا عليه السلام ليلة المعراج قال: {سبحان الذى أسرى بعبده} (الإسراء: ١)

فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلا على علو درجته أيضا، فإن وصف اللّه تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبوذية بسبب الاجتهاد في الطاعة

والثالث: قوله: {ذا الايد} أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحترازعن المعاصي، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه {*والأيد} المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله: {وعشيا يايحيى خذ الكتاب بقوة} (مريم: ١٢)

وقوله تعالى: {وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة} (الأعراف: ١٤٥) أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى: {هو الذى أيدك بنصره} (الأنفال: ٦٢)

وقوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} (البقرة: ٨٧)

وقال: {والسماء بنيناها} (الذاريات: ٤٧) وعن

قتادة أعطى قوة في العبادة وفقها في الدين، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر

الرابع: قوله: {الايد إنه أواب} أي أن داود كان رجاعا في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى: {إن إلينا إيابهم} (الغاشية: ٢٥) وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب

١٨

الخامس: قوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق} ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فضلا ياجبال أوبى معه والطير} (سبأ: ١٠) وفيه مباحث:

البحث الأول: وفيه وجوه

الأول: أن اللّه سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلا وقدرة ومنطقا وحينئذ صار الجبل مسبحا للّه تعالى ونظيره قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} (الأعراف: ١٤٣)

فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلا وقدرة ومنطقا وحينئذ صار الجبل مسبحا صلى اللّه عليه وسلم تعالى ونظيره قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} (الأعراف: ١٤٣) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلا وفهما، ثم خلق فيه رؤية اللّه تعالى فكذا ههنا

الثاني: في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن، وما يعصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحا، وذكر محمد بن إسحاق أن اللّه تعالى لم يعط أحدا من خلقه مثل حصوت داود حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحا لأنه كان يدل على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته.

البحث الثاني: قال صاحب "الكشاف" {يسبحن} في معنى مسبحات،

فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات

قلنا نعم، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث التجدد، وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز، إذا ثبت هذا فنقول قوله: {يسبحن} يدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح.

والبحث الثالث: قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت

وقيل هما بمعنى

والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق.

والبحث الرابع: احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية، عن أم هانىء قالت: "دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى، وقا: يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق" وعن طاووس عن ابن عباس قال: "هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي

والإشراق" توقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله: {يسبحن بالعشى والإشراق}.

١٩

الصفة السادسة: من صفات داود عليه السلام وقوله تعالى: {والطير محشورة كل له أواب} وفيه مباحث:

البحث الأول: قوله: {والطير} معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو اللّه

فإن قيل كيف يصدر تسبيح اللّه عن الطير مع أنه لا عقل لها،

قلنا لا يبعد أن يقال إن اللّه تعالى كان يخلق لها عقلا حتى تعرف اللّه فتسبحه حينئذ، وكان معجزة لداود عليه السلام.

البحث الثاني: قال صاحب "الكشاف" قوله: {محشورة} في مقابلة {يسبحن} إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، فلا جرم جيء به اسما لا فعلا، وذلك أنه قال لو قيل وسخرنا الظير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور واللّه أعلم.

البحث الثالث: قرىء {والطير محشورة} بالرفع.

الصفة السابفة: من صفات داود عليه السلام، قوله تعالى: {كل له أواب} ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها، والفرق بين هذه الصفة وبين ما قلبها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة

وقيل الضمير في قوله: {كل له أواب} للّه تعالى أي كل من داود والجبال والطير للّه أواب أي مسبح مرجع للتسبيح.

٢٠

الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وشددنا ملكه} أي قويناه وقال تعالى: {سنشد عضدك بأخيك} (القصص: ٣٥)

وقيل شددنا على المبالغة،

وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة، وهي

أما الأسباب لدنيوية أو الدينية،

أما الأول فذكروا فيه وجهين

الأول: روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي اللّه، وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفا.

قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطانا، وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعي علهي، فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها، فرأى داود في منامه.

أن اللّه يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فاحضره وأعلمه أن أمره بقتله، فقال المدعي عليه صدق اللّه إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فهذه الواقعة شددت ملكه،

وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل.

الصفة التاسعة: قوله: {وشددنا ملكه} واعلم أنه تعالى قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (البقرة: ٢٦٩)

واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل

أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضي الطاقة البشرية،

وأما العمل فهو أن يكون الإسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخة والنقض فكانت في غاية الإحكام،

وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبلالنقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة.

الصفة العاشرة: قوله: {وفضل * الخطاب} واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام

أحدهما: ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات

وثانيها: التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان

وثالثها: الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة، له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب،

ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادرا على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى

أقص الغايات، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف، ولما بين اللّه تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: {وشددنا ملكه} أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه

أما بعد، وأقول حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام اللّه تعالى حرمانا عظيما واللّه أعلم، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بيحث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام واللّه أعلم،

وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها اللّه تعالى في مدح داود عليه السلام.

٢١

{وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب}

اعلم أن اللّه تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقا للثناء والمدح العظيم.

أما قوله تعالى: {وهل أتاك نبؤا الخصم} فهو نظير قوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} (طه: ٩) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعيا إلى الإصغاء لها والاعتبار بها،

وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال

أحدها: ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه

وثانيها: دلالتها على الصغيرة

وثالثها: بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.

فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها؛ أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل اللّه إليه ملكين مفي صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه.

فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.

والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه

الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لا ستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه

الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته

أما الأول: فأمر منكر قال صلى اللّه عليه وسلم : "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه"

وأما الثاني: فمنكر عظيم قال صلى اللّه عليه وسلم : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه

والثالث: أن اللّه تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.

فنقول أما الصفات الأولى: فهي أنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة،

ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدا أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة اللّه.

وأما الصفة الثانية: فهي أن وصفه بكونه عبدا له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في موقف العبودية تاما في القيام بأدار الطاعات والاحتراز عن المحظورات ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة، فحينئذ ما كان داود كاملافي عبوديته للّه تعالى بل كان كاملا في طاعة الهوى والشهوة.

الثفة الثالثة: هو قوله: {ذا الايد} (ص: ١٧) أي ذا القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات، والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟

الصفة الرابعة: كونه أوابا كثير الرجوع إلى اللّه تعالى، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفا بالقتل والفجور؟.

الصفة الخامسة: قوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه} (ص: ١٨) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور؟.

الصفة السادسة: قوله: {والطير محشورة} (ص: ١٩)،

وقيل إنه كان محرما عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمنا منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه؟.

الصفة السابعة: قوله: {وشددنا ملكه} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا، بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟.

الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة} (ص: ٢٠) والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا، فكيف يجوز أن يقول اللّه تعالى: إنا {ءاتيناه * الحكمة وفصل الخطاب} مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب.

وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشرة

الأول: قوله: {فغفرنا له ذالك وإن له عندنا} وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة اللّه،

أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله: {وإن له عندنا لزلفى} لائقا به

الثاني: قوله تعالى: {مئاب ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض} وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه

أحدهما: أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده "أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد أني فوضت إليك خلافتي ونيابتي، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر، فأما جعله نائبا وخليفة لنفسه فذلك ألبتة مما لا يليق

وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فلما حكى اللّه تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده: {إنا جعلناك خليفة فى الارض} أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة؛ ومعلوم أن هذا فاسد، أم لو

ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة اللّه تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه {إنا جعلناك خليفة فى الارض} (ص: ٢٦) فثبت أن هذا الذي نختاره أولى

والثالث: وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيمالدرجة عالي المرتبة في طاعة اللّه يقتل ويزني ويسرق وقد جعله اللّه خليفة في أرضه وصوب أحكامه وكما أن هذه الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب

وثالثها: وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى اللّه إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء، فأوحى اللّه إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة،

فنقول أول حكايتهم يدل على أن اللّه تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن اللّه تعالى بيتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها أخرها

الخامس: أن داود عليه السلام قال: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض * إلى الذين * ءامنوا} استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفا بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعد الإيمان على نفسه وذلك باطل

السادس: حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال اللّه تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: ١٢٤) ومن مدحه اللّه تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه، وأيضا فبتقدير أنه ما كان نبيا فلا شك أنه كان مسلما، ولقد قال صلى اللّه عليه وسلم : "لا تذكروا موتاكم إلابخير"

ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعولم بالضرورة أن يتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئا من الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب،

وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا سؤنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت.

ولم يذكر شيئا السابع: أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة فوجب أن يكون محرما لقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين ءامنوا} (النور: ١٩) الثامن: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله: "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه" وأيضا لو فعل ذلك لكان ظالما فكان يدخل تحت قوله: {ألا لعنة اللّه على الظالمين}

التاسع: عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين" وهو حد الفرية على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زني وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك،

وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل. يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام

العاشر: روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب اللّه تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها وإن كانت الواقعة على ما ذكرت، ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام، فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر: "سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة، فإن قال قائل: إن كثيرا من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة، فكيف الحال فيها؟

فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى، وأيضا فالأصل بين الذمة، وأيضا فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضا طريقة الاحتياط توجب تورجيح قولنا، وأيضا فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول اللّه لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة؟

وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب، وأيضا فقال عليه السلام: التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها، وأيضا كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد، وأيضا إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة.

أما الاحتمال الثاني: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبير،

فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه

الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه

الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في ذها ذنب ألبتة،

أما وقع بصره لعيها من غير قصد فذلك لي بذنب،

وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضا ذنبا لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفا به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذيا عظيما بسببقتله لأجل أنه طمع أ يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل

والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزا في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.

وأما الإحتمال الثالث: وهو أن هذه القصة على وحه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي اللّه داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه ننفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذبا، فقالوا خصمان بغي بعضنا على بعض إلى آخر القصة، ولي في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنببداود إلا ألفاظ أربعة

أحدهما: قوله: {وظن * داوود * أنما فتناه}،

وثانيها: قوله تعالى: (فاستغفر ربه)

وثالثها: قوله: {وأناب}

ورابعها: قوله: {فغفرنا له ذالك} ثم نقول، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه

الأول: أنهم لما دخول عليه لطلب قتله بهذا الطريقوعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة اللّه، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعز

والثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن، وقال: لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء، فكان هذا هو المراد من قوله: {وظن * داوود * أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} منه فغفر اللّه له ذلك

الثالث: أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم : {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد: ١٩) فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب، أي رجع إلى اللّه تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل،

وقوله: {فغفرنا له ذالك} أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام ذاوود ولتعظيمه، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك} (الفتح: ٢) أن معناه أن اللّه تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك

الرابع: هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة، فلم لا يجوز أن تيقال إن تلك الزلة إنما حصلت، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الخصم الثاني، فإن

لما قال: {لقد * ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}

فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآثات على هذا الوجه، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه

الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل

والثاني: أنه أحوط

والثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {واصبر على ما يقولون * واذكر عبدنا * داوود} (ص: ١٧) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: {هذا ساحر كذاب} (ص: ٤)

واستهزأوا به حيث قالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: ١٦) فقال تعالى في أول الآية: اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه،

أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضا فاسدا

وثالثها: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين، ولما كانا من الملائكة وما كانبينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذبا، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين

أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة

والثاني: أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى، فهذا ما عندنا في هذا البابواللّه أعلم بأسرار كلامه، ونرجع الآن إلى تفسير الآيات.

أما قوله: {وهل أتاك نبؤا الخصم} قال الواحدي: الخصم مصدر خصمته أخصمه خصما، ثم يسمى به الإثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع، يقال هما خصم وهم خصم، كما يقال هما عدل وهم عدل، والمعنى ذوا خصم وذوو خصم، وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام،

وقوله تعالى: {إذ تسوروا المحراب} يقال تسورت السور تسورا إذا علوته، ومعنى: {تسوروا المحراب} أي أتوه من سوره وهو أعلاه، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها.

وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه، وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب، كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه، وههنا مسألة من علم أصول الفقه، وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في

أربعة مواضع أحدهما: قوله تعالى: {إذ تسوروا المحراب} (ص: ٢١)،

وثانيها: قوله: {إذ دخلوا}،

وثالثها: قوله: {منهم}،

ورابعها: قوله: {قالوا لا تخف} فهذه الألفاظ الأربعة لها صيغ الجمع، وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان، قالوا فهذه الآية تدل على أن أقل اسما فإنه لا يثنى ولا يجمع،

٢٢

ثم قال تعالى: {إذ دخلوا على * داوود} والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه، فلما قال: {إذ دخلوا عليه} دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه، قال الفراء: وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا،

ثم قال تعالى: {ففزع منهم} والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر، فلا جرم فزع منهم،

ثم قال تعالى: {قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: خصمان خبر مبتدأ محذوف، أي نحن خصمان.

المسألة الثانية: ههنا قولان

الأول: أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه

والثاني: أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل، فظنا أنهما يجدانه خاليا، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر،

وأما المنكرونت لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما {خصمان} فإنه ليس بين الملائكة خصومة، ولكانا كاذبين في قولهما: {بغى * بعضهم على بعض} ولكانا كاذبين في قولهما: {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة} فثبت أنهما لو كانا مليكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى: {لا يسبقونه بالقول} (الأنبياء: ٢٧)

ولقوله: {ويفعلون ما يؤمرون} (النخل: ٥٠) أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب، وأجيبعن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل،

أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر

ثم وضعا هذا الحديث الباطل، فحينئذ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول واللّه أعلم،

وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه

الأول: اتفاق أكثر المفسرين عليه

والثاني: أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة

الثالث: أن قوله تعالى: {قالوا لا تخف} كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته

الرابع: أن قولهما: {ولا تشطط} كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحدا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له تظلم ولا تتجاوز عن الحق، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر، ولا حاجة إلى الجواب، واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: {بغى بعضنا على بعض} أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح

إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية، يوقال بغت المرأة إذا زنت، لأن الزنا كبيرة منكرة، قال تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} (النور: ٣٣)

ثم قال: {فاحكم بيننا بالحق} معنى الحكم إحكام الأمر في آمضاء تكليف اللّه عليهما في الواقعة، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح، ومنه بناء محكم إذا كان قويا،

وقوله: {بالحق} أي بالحكم الحق وهو الذي حكم اللّه به {ولا تشطط} يقال شط الرجل إذا بعد، ومنه قوله: شطت الدار إذا بعدت، قال تعالى: {لقد قلنا إذا شططا} (الكهف: ١٤) أي قولا بعيدا عن الحق، فقوله: {ولا تشطط} أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق،

ثم قال: {واهدنا إلى سواء الصراط} وسواء الصراط هو وسطه، قال تعالى: {فاطلع فرءاه فى سواء الجحيم} (الصافات: ٥٥) ووسط الشيء أفضله وأعدله، قال تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} (البقرة: ١٤٣)

وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها:

قولهم فاحكم بالحق

وثانيها: قولهم: {ولا تشطط} وهي نهي عن الباطل

وثالثها: قولهم: {واهدنا إلى سواء الصراط} يعنى يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق. وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب،

٢٣

واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل، فقال: {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال صحاب "الكشاف" {أخى} يدل من هذا أو خبر لقوله: {ءان} والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء} وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء.

المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" قرىء {تسع وتسعون} بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع، ولقوة وهي الأنثى من العقبان.

المسألة الثالثة: قال الليث: النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية، والجمع النعجات، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة.

المسألة الرابعة: قرأ عبد اللّه: {تسع وتسعون نعجة * أنثى} وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى: {وقال اللّه لا تتخذوا * إليهن *اثنين إنما هو إله واحد}(النحل: ٥١)،

ثم قال: {أكفلنيها وعزنى فى الخطاب} قالصاحب "الكشاف": {أكفلنيها} حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي {وعزنى} غلبني، يقال عزه يعزه، والمعنى جاءني يحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به، وقرىء وعازني من المعازة، وهي المغالبة، واعلم أن الذين قالوا إن هذين الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل، لأن داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل.

٢٤

انظر تفسير الآية:٢٥

٢٥

ثم قال تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} أي سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه، وروي أنه قال: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى الأنف والجبهة

فقال: يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا، وأشار إلى الأنف والجبهةفقال: يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا فعرف الحال،

فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه؟

قلنا ذكروا فيه وجوها

الأول: قال محدم بن إسحاق: فما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال لئن صدق لقد ظلمته، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه

والثاني: قال ابن الأنباري: لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود علهي لاسلام ولم يذكر اللّه تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه، كما تقول أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت، وقال تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: ٦٣) أي فضرب فانفلق،

والثالث: أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.

ثم قال تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض} قال: الليث خليط الرجل مخالطه، وقال الزجاج: الخلطاء الشركاء،

فإن قيل لم خص داود الخلطاء يبغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قذ يفعلون ذلك،

والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أخوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة، فلهذا السبب خص داود عليه السلامم الخلطاء بزيادة البغي والعدوان، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروجانية الحقيقية، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة،

وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالتطهم سببا لمزيد البغي والعدوان، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل.

ثم قال تعالى: {وقيل * ما هم} واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن، قال تعالى: {وقليل من عبادى الشكور} (سبأ: ١٣)

وقال داود عليه السلام في هذا الموضع {وقليل ما هم} وحكى تعالى عن إبليس أنه قال: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف: ١٧) وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهود والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر وافقون على باب جهنم البدن، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية،

وأما الداعي إلى القوالدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر، قال صاحب "الكشاف" وما في قوله: {وقيل * ما هم} للإبهام وفيه تعجب من قلتهم، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرىء القيس؛ وحديث ما على قصره ــــ وانظر هل بقي له معنى قط.

ثم قال تعالى: {وظن * داوود * أنما فتناه} قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه، قالواوالسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحكثم صعد إلى السماء قبل وجهه، فعلم داود أن اللّه ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة، والمشابهة علة لجواز المجاز،

وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين

أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من اللّه تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.

أما قوله: {فاستغفر ربه} أي سأل الغفران من ربه، ثم ههنا وجهان

إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه، حملنا هذا الاستغفار عليها، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه

الأول: أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله، وإنه كان سلطانا شديد القهر عظيم القوة، ثم أنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئا قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى اللّه، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق اللّه، فغفر اللّه له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر

الثاني: لعله هم بإيذاء القوم، ثم قال: إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم

الثالث: لعل القوم تابوا إلى اللّه

وطلبوا منه أن يستغفر اللّه لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى اللّه، فغفر اللّه ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملا لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم اللّه هذه القصة بقوله: {وإن له عندنا * لهم وحسن مئاب} ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة، وتحمل أنوعا من الشدائد في الموافقة والانقياد، أما إذا كان المذكور السابق هو ازقادم على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به، قال مالك بن دينار؛ إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة، ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا واللّه أعلم، بقي ههنا مباحب

فالأول: قرىء فتناه وفتناه عى أن الألف ضمير الملكين

الثاني: المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة التعجة والنعاج،

وقيل أيضصا إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاين وذلك غير جائز الثالث: قوله؛ {خر * راكعا وأناب} يدل على حصول الركوع،

وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوما ثبت بالأخبار

الرابع: أن مذهب الشافيع رضي اللّه عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة

الخامس: استشهد أبو خنيفة رضي اللّه عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود.

٢٦

{ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق نسوا}

اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أنه تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض، وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة، لأن من البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دماء المسلمين، راغبا في انتزاع أزواجهم منهم ثم يذكر عقيبه أن اللّه تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان

الأول: جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى اللّه تعالى، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه، وذلك ءنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على اللّه مجال

الثاني: إنا جعلناك مالكا للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة، ومنه يقال خلفاء اللّه في أرضه، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق اللّه، فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم.

ثم قال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق} واعلم أن الإنسان خلق مدنيا بالطبع، لأن الإنسان الواحد لا يتنظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث، وذلك يطحن، وذلك يخبز، وذلك ينسج، وهذا يخيط، وبالجملة فيكون كل واحدة منهم مشغولا بمهم، وينتظم منأعمال الجميع مصالح الجميع.

فثبت ىن الإنسان مدني بالطبع وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه والطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك،

أما ءذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه.

فهذا هو المراد من قولهم: {فاحكم بين الناس بالحق} يعنيلا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم ثم قال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه} الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل اللّه، والضلال عن سبيل اللّه يوجب العذاب، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب.

أما المقام الأول: وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل اللّه فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات، لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر.

أما المقام الثاني: وهو أن الضلال عن سبيل اللّه يوجب سوء العذابفالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم ألفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق، ودخل ديارا ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعيته قوة مطالعة أنوار تلك الديار، فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل اللّه.

وثبت أن الضلال عن سبيل اللّه يوجب العذاب، وهذا بيان في غاية الكمال.

ثم قال تعالى: {بما نسوا يوم الحساب} يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب، لأنه لو كان متذكرا ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد، ولما صار مستغرقا في هذه اللذات الفاسدة.

روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية؟ فقال: يا أمير المؤمنين الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية: {إن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}

٢٧

ثم قال تعالى: {وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}

ونظيره قوله تعالى: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران: ١٩١)

وقوله تعالى: {ما خلق اللّه * السماوات والارض *وما بينهما إلا بالحق} (الروم: ٨)

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمال العباد قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل.

فلما بين تعالى أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد.

ومثله قوله تعالى: {وما خلقنا * السماوات والارض * وما بينهما إلا بالحق} (الحجر: ٨٥) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل، وقد خلق الباطل، ثم أكد تعالى ذلك بأن قال: {ذالك ظن الذين كفروا} أي كل من قال بهذا القول فهو كافر، فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر، واحتج أصحابنا رحمهم اللّه بأن هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد فقالوا هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا لكل ما بين السموات والأرض، وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون اللّه تعالى خالقا لها.

المسألة الثانية: هذه الآية دالة على صحة القول بالحشر والنشر والقيامة، وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم، فإما أن يقال إنه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع أو للإضرار والأول باطل لأن ذلك لايليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضا باطل لأن هذه الحالة حاصلة ين كانوا معدومين، فلم يبق إلا أن يقال إنه خلقهم للإنفاع، فنقول وذلك الإنفاع،

أما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة، وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية، وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة، واعلم أن هذا الدليل يمكن تقريره من وجوه كثيرة، وقد لخصناها في أول سورة يونس بالاستقصاء، فلا سبيل إلى التكرير فثبت بما ذكرا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا وإذا لم يكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر لازما، وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة اللّه في خلق السماء والأرض

وهذا هو المراد من قوله: {ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} ولما بين اللّه تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة اللّه تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل،

٢٨

فقال: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض أم نجعل المتقين كالفجار} وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع اللّه واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة اللّه.

ثم قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الالباب}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية، وهذا يفيد أمرين

أحدهما: أن أفعال اللّه معللة برعاية المصالح

والثاني: أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر.

المسألة الثانية: في تقرير نظم هذه الآيات فنقول، لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار، أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة، وقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: ١٦) ولما حكى اللّه تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب، بل قال: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود} (ص: ١٧) ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق، ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود، ثم أتبعه بقوله: {وما خلقنا السماء والارض} ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة اللّه بقصة داود، ثم لما ذكر إثبات حكمة اللّه وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق، ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير، ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة، وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولا متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض، فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتابا شريفا فاضلا؟ هذا تمام السؤال والجواب أن نقول: أن العقلاء قالوا من أبلى بخصم جاهل مصر متعصب، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى، فحينئذيدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة، فإذا سلمها، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعا مفحما، إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: ١٦) فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة، واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة، وهي قصة داود عليه السلام، فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر، ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة، ثم قال في آخر القصة: {مئاب ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق} (ص: ٢٦) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق، ثم كأنه تعالى قال: وأنا لا آمرك بالحق فقط، بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق، ولا أفضي بالباطل، فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم اللّه يجب أن يكون بالحق لا بالباطل، لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر، لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحا على المسلم في إيصال الخيرات إليه، وذلك ضد الحكمة وعين الباطل، فبهذا الطريق اللطيف أورد اللّه تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيرادا لا يمكنهم الخلاص عنه، فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحما ملزما بهذاالطريق، ولما ذكر اللّه تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل،

٢٩

فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته * إلا أولوا الالباب} فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرارل العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، حيث يراه في ظاهر الحال مقرونا بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات، وباللّه التوفيق.

٣٠

{ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب}

واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله: {نعم العبد} فيه مباحث:

الأول: نقول المخصوص بالمدح في {نعم العبد} محذوف، فقيل هو سليمان،

وقيل داود، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين، ولأنه قال بعده {إنه أواب} ولا يجوز أن يكون المراد هو داود، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال: {واذكر عبدنا * داوود * ذا الايد إنه أواب} (ص: ١٧) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضا صفة داود لزم التكرار، ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيها لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة، فكان هذا أولى.

الثاني: أنه قال أولا {نعم العبد} ثم قال بعده {إنه أواب} وهذه الكلمة للتعليل، فهذا يدل على أنه إنما كان {نعم العبد} لأنه كان أوابا، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى اللّه تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفا بأنه {نعم العبد} وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ورأس المعارف ورئيسها معرفة اللّه تعالى، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة اللّه تعالى، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى اللّه تعالى فكان أوابا، فثبت أن كل من كان أوابا وجب أن يكون {نعم العبد}.

٣١

أما قوله: {إذ عرض عليه}

ففيه وجوه

الأول: التقدير {نعم العبد} هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا

الثاني: أنه ابتداء كلام.

والتقدير اذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا، والعشيهو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها، والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين أولهما: الصافنات، قال صاحب "الصحاح": الصافن الذي يصفن قدميه، وفي الحديث "كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا" أي قمنا صافنين أقدامنا،

وأقول على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على فضيلة الفرس

والصفة الثانية: للخيل في هذه الآية الجياد، قال المبرد: والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري، كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها.

أما حال وقوفها فوصفها بالصفون،

وأما حال حركتها فوصفها بالجودة، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال، فإذا جرت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق،

٣٢

ثم قال تعالى: {فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى} وفي تفسير هذه اللفظة وجوه

الأول: أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربي

والثاني: أن أحببت بمعنى ألزمت، والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي، أي عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح

والثالث: أن الإنسان قد يحب شيئا لكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه، والأب الذي يحب ولده الرديء،

وأما من أحب شيئا، وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل.

ثم قال: {عن ذكر ربى} بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر اللّه وأمره لا عن الشهوة والهوىوهذا الوجه أظهر الوجوه.

ثم قال تعالى: {حتى توارت} أقول الضمير في قوله: {حتى توارت}، وفي قوله: {ردوها} يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الشمس، لأنه جرى ذلك ماله تعلق بها وهو العشي ويحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الصافنات، ويحتمل أن يكون الأول متعلقا بالشمس والثاني بالصافنات، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك، فهذه احتمالات أربعة لا مزيد عليها

فالأول: أن يعود الضميران معاني إلى الصافنات، كأنه قال حتى توارت الصافنات بالحجاب ردوا الصافنات علي، والاحتمال

الثاني: أن يكونالضميران معا عائدين إلى الشمس كأنه قال حتى توارت الشمس بالحجاب ردوا الشمس، وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر، فسأل اللّه أن يرد الشمس فقوله: {ردوها على} إشارة إلى طلب رد الشمس، وهذا الاحتمال عندي بعيد والذي يدل عليه وجوه

الأول: أن الصافنات مذكورة تصريحا، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر

الثاني: أنه قال: {إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب} وظاهر هذا اللفظ يدل على أن سليمان عليه السلام كان يقول إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي.

وكان يعيد هذه الكلمات إلى أنتوارت بالحجاب، فلو قلنا المراد حتى توارت الصافنات بالحجاب كان معناه أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، ولو قلنا المراد حتى توارت الشمس بالحجاب كان معناه أنه كان يعيد عين هذه الكلمة من وقت العصر إلى وقت المغرب، وهذا في غاية البعد

الثالث: أنا لو حكمنا بعود الضمير في قوله حتى توارت إلى الشمس وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافيا لقوله: {أحببت حب الخير عن ذكر ربى} فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر اللّه لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر اللّه

الرابع: أنه بتقدير أنه عليه السلام بقي مشغولا بتلك الخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر؟، فكان ذلك ذنبا عظيما وجرما قويا، فالأليق لهذه الحالة التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين، ردوها علي بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير، فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكرا

الخامس: أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو اللّه تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي،

فإن قالوا إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب

فنقول قوله: {ردوها} لفظ مشعر بأعظم أنواع إلهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم

السادس: أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره، وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده

السابع: أنه تعالى قال: {إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد}

ثم قال: {حتى توارت بالحجاب} وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى، وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد،

وأما العشي فأبعدهما فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى، فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله: {حتى توارت بالحجاب} على تواري الشمس وأن حمل قوله: {ردوها على} على أن المراد منه طلب أن يرد اللّه الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم.

ثم قال تعالى: {فطفق مسحا بالسوق والاعناق} أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها

قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى اللّه تعالى، وعندي أن هذا أيضا بعيد، ويدل عليه وجوه

الأول: أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (المائدة: ٦) قطعها، وهذا مما لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم ألبتة من المسح العقر والذبح

الثاني: القائلون لهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة فأولها: ترك الصلاة

وثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقال صلى اللّه عليه وسلم : "حب الدنيا رأس كل خطيئة"

وثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة ألبتة

٣٣

ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: {ردوها على} وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس

وخامسها: أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم "نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله"، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها:

وسادسها: أن هذه القصص إنما ذكرها اللّه تعالى عقيب قوله: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: ١٧) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود: وذكر قصة داود،

ثم ذكر عقبيها قصة سليمان، وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه اللام اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة اللّه، وأعرض عن الشهوات واللذات، فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقا بهذا الموضع، فثبت أن كتاب اللّه تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال بل التفسير المطابق للحق للألفاظ القرآن والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد صلى اللّه عليه وسلم

ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضاء الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر اللّه وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي،

ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور

الأول: تشريفا لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو

الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه

الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات،

وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة،

فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟

فنقول لنا ههنا مقامان:

المقام الأول: أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونهاوقد ظهر والحمد للّه أن الأمر كما ذ كرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.

المقام الثاني: أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه أنه كلام ذكره الناس، فما قولك

فيه وجوابنا أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم، واللّه أعلم.

٣٤

{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب}

اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام واختلفوا في المراد من قوله: {ولقد فتنا سليمان} ولأهل الحشو والرواية فيه قول، ولأهل العلم والتحقيق قول آخر،

أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات:

الأولى: قالوا إن سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها، وأخذ بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكانت تبكي أبدا على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشيا مع جواريها يسجدن لها، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى اللّه تعالى، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما، فأتاها الشيطان ساحب البحر على صورة سليمان.

وقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس، وتغيرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته.

فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه، ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان، فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة،

وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا للّه، ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر.

والرواية الثانية: للحشوية أن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان وكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها، فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى اللّه.

والرواية الثالثة: لهم قالوا إن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس؟ فقال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه، ثم ذكر الحكاية إلى آخرها.

إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا المراد من قوله: {ولقد فتنا سليمان} أن اللّه تعالى ابتلاه وقوله: {وألقينا على كرسيه جسدا} هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه.

والرواية الرابعة: أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقى على سريره شيطان عقوبة له.

واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه

الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع.

فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية

الثاني: أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي اللّه سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد، وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى

والثالث: كيف يليق بحكمة اللّه وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ ولا شك أنه قبيح

الرابع: لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأ، فكيف يؤاخذ اللّه سليمان بفعل لم يصدر عنه؟ فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء:

الأول: أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتا على ركسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على اللّه فاستغفر ربه وأناب

الثاني: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في

سبيل اللّه ولم يقل إن شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره، فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا كلهم في سبيل اللّه فرسانا أجمعون، فذلك قوله: {ولقد فتنا سليمان}

الثالث: قوله: {ولقد فتنا سليمان} بسبب مرض شديد ألقاه اللّه عليه، {وألقينا على كرسيه} منه {جسدا} وذلك لشدة المرض.

والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضع وجسم بلا روح {ثم أناب} أي رجع إلى حال الصحة، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة

الرابع: أقول لا يبعد أيضا أن يقال إنه ابتلاه اللّه تعالى بتلسيط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه، وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي، ثم إنه أزال اللّه عنه ذلك الخوف، وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.

أما قوله تعالى: {قال رب اغفر لى} فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك ألبتة عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأنهم أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما قال صلى اللّه عليه وسلم : "إني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة" ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهمالدين على مهم الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم بعده طلب المملكة.

وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من اللّه تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم توسل به إلى طلب المملكة، ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: ١٠ ــــ ١٢)

وقال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك}

فإن قيل قوله عليه السلام: {ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} مشعر بالحسد

والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي، هو أن يعطيه اللّه ملكا لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه ألبتة، فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه

الأول: أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي.

والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال: {الوهاب فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب} فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله: {هب لى * ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها، فقوله: {لا ينبغى لاحد من بعدى} يعني لا يقدر أحد على معارضته

والوجه الثاني: في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، وذلك الذي سأله بقوله: {ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري

الوجه الثالث: في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها، فكأنه قال: يا إلهي

أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل

الوجه الرابع: من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة، فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى

الوجه الخامس: أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة، فقال سليمان يا رب العزة أعظني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا، ثم قال: {فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب} رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة،

فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى {ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره}

قلنا الجواب من وجهين

الأول: لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء

والوجه الثاني: من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى: {حيث أصاب} أي قصد وأراد، وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب.

وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسإله عن هذه الكلمة فخرج إليهما، فقال أين تصيبان؟ فقالا هذا مطلوبنا.

وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتىصارت تجري بأمره على وفق إرادته، ثم قال والشياطين كل بناء وغواص، قال صاحب "الكشاف" الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله: {كل بناء} وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وقوله: {مقرنين} يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة {*والأصفاد} الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضا، قال النابغة:

ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد فعلى هذا الصفد القيد لكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدتهوكل من أعطيته عطاء جزيلا فقد أضفدته، وههنا بحث، وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة، وبسبب تلك القوة قدرو على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر، وقدروا على الغوص في البحار، واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين أما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة،

فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها، وذلك دخول في السفسطة،

وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة، بل لطيفة رقيقة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة، وأيضا لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية، وأيضا الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا؟ ولم لا يخربون ديار الناس؟ مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم.

وحيث لم يحس شيء من ذلك، علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف.

واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها، وأيضا لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق.

وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان، ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام، أمات اللّه أولئك الجن والشياطين، وخلق نوعا آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس.

٣٩

ثم قال تعالى: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}

وفيه قولان

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب، أي ليس عليك حرج فيما أعطيت وفيما أمسكت

الثاني: أن هذا في أمر الشياطين خاصة، والمعنى هؤلاء الشياطين المسخرون عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فحل عنه، واحبس من شئت منهم في العمل بغير حساب.

٤٠

ولما ذكر اللّه تعالى ما أنعم به على سليمان في الدنيا، أردفه بإنعامه عليه في الآخرة، فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآب} وقد سبق تفسيره.

٤١

{واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب}

اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض اللّه عليه أصناف الآلاء والنعماء، وأيوب كان ممن خصه اللّه تعالى بأنواع البلاء، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار.

كأن اللّه تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثرلا نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليه السلام، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": أيوب عطف بيان، وإذ بدل اشتمال منه {أنى مسنى} أي بأني مسني حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب، وقرىء: {بنصب} بضم النون وفتحها مع سكون الصاد وفتحها وضمها، فالنصب والنصب، كالرشد والرشد، والعدم والعدم، والسقم والسقم، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة والعذاب والألم.

واعلم أنه كان قد حصل عنده نوعان من المكروه: الغم الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات، والألم الشديد في الجسم ولما حصل هذان النوعان لا جرم، ذكر اللّه تعالى لفظين وهما النصب والعذاب.

المسألة الثانية: للناس في هذا الموضع قولان

الأول: أن الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان

الثاني: أنها إنما حصلت بفعل اللّه، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة، وإلقاء الخواطر الفاسدة.

وأما القول الأول: فتفريره ما روي أن إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال اللّه: نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا، فيقول اللّه أعطى واللّه أخذ، ثم يحمد اللّه، فقال: يا رب إني أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف باللّه لئن عافاه اللّه ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال:

{أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} فأجاب اللّه دعاءه، وأوحى إليه {ءان * اركض برجلك} فأظهر اللّه من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها، فأذهب اللّه عنه كل داء فيظاهره وباطنه، ورد عليه أهله وماله.

والقول الثاني: أن الشيطان لا قدرة له ألبتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، والدليل عليه وجوه

الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم، هو اللّه تعالى

الثاني: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادكم

الثالث: أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال: {وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى} (إبراهيم: ٢٢) فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، وذلك يدل على قول من يقول إن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات، فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو اللّه تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟

قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو اللّه تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟ بل الحق أن المراد من قوله: {أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوها

الأول: أن علته كانت شديدة الألم، ثم طالت مدة تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته، ولم يبق له شيء من الأموال ألبتة.

وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن الاشتغال بخدمتهم، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى اللّه، وقال: {أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد.

الثاني: أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى اللّه تعالى وقال: {أنى مسنى الشيطان}،

الثالث: قيل إن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى اللّه تعالى وقال: {أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب}،

الرابع: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أنه بقي أيوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلا رجلين،

ثم قال أحدهما لصاحبه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أتى به أحد من العالمين، ولولاه ما وقع في مثل هذا البلاء، فذكروا ذلك

لأيوب عليه السلام، فقال: لا أدري ما تقولان غير أن اللّه يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه تعالى إلا في الحق"

الخامس: قيل إن امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب، فاتفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة.

وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه، فعند ذلك قال: {أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب}،

السادس: قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمت ما اجتمع علي أمران إلا آثرتطاعتك، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيما، ولابن السبيل معينا، ولليتامى أبا! فنودي من غمامة يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه، وقال منك يا رب

ثم خاف من الخاطر الأول فقال: {مسنى الشيطان بنصب وعذاب} وقد ذكروا أقوالا أخرى، واللّه أعلم بحقيقة الحال، وسمعت بعض اليهود يقول: إن لموسى بن عمران عليه السلام كتابا مفردا في واقعة أيوب، وحاصل ذلك الكتاب أن أيوب كان رجلا كثير الطاعة للّه تعالى مواظبا على العبادة، مبالغا في التعظيم لأمر اللّه تعالى والشفقة على خلق اللّه،

ثم إنه وقع في البلادء الشديد والعناء العظيم، فهل كان ذلك لحكمة أم لا؟ فإن كان ذلك لحكمة فمن المعلوم أنه ما أتى بجرم في الزمان السابق حتى يجعل ذلك العذاب في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان ذلك لكثرة الثواب فالإله الحكيم الرحيم قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام الطويلة والأسقام الكريهة.

وحينئذ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة، وهذه كلمات ظاهرة جلية وهي دالة على أن أفعال ذي الجلال منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد، والحق الصريح أنه {لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون} (الأنبياء: ٢٣).

المسألة الثالثة: لفظ الآية يدل على أن ذلك النصب والعذاب إنما حصل من الشيطان

ثم ذلك العذاب على القول الأول عبارة عما حصل في بدنه من الأمراض، وعلى القول الثاني عبارة عن الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب إلقاء الوساوس، وعلى التقديرين فيلزم إثبات الفعل للشيطان،

وأجاب أصحابنا رحمهم اللّه بأنا لا ننكر إثبات الفعل للشيطان لكنا نقول فعل العبد مخلوق للّه تعالى على التفصيل المعلوم.

٤٢

أما قوله تعالى: {اركض برجلك} فالمعنى أنه لما شكى من الشيطان، فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه اللّه إليه بأن قال له: {اركض برجلك} والركض هو الدفع القوي بالرجل، ومنه ركضك الفرس،

والتقدير قلنا له اركض برجلك، قيل إنه ضرب رجله تلك الأرض فنبعت عين فقيل: {هذا مغتسل بارد وشراب} أي هذا ماء تغتسل به فيبرأ باطنك، وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء اغتسل فيه وشرب منه.

والمفسرون قالوا نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن اللّه،

وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها.

٤٣

ثم قال تعالى: {ووهبنا له أهله} فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم،

وقيل غيرهم مثلهم،

والأول: أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة،

ثم اختلفوا فقال بعضهم: معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء، وقال بعضهم: بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا.

وقال بعضهم: بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة.

أما قوله: {ومثلهم معهم} فالأقرب أنه تعالى متعه بحصته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وقال الحسن رحمه اللّه: المراد بهبة إلهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا.

ثم قال: {رحمة منا} أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة، لا على سبيل اللزوم.

ثم قال: {وذكرى لاولى الالباب} يعني سلطنا البلاء عليه أولا فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلىالآلاء والنعماء، تنبيها لأولي الألباب على أن من صبر ظفر، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا * داوود} وقالت المعتزلة قوله تعالى: {رحمة منا * لايات لاولى الالباب} يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد، وذلك يدل على أن أفعال اللّه وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.

٤٤

أما قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثا} فهو معطوف على اركب والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك.

واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضا ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل اللّه يمينه بأهون شيء عليه وعليها، السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا إن قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله.

فأنزل اللّه تعالى قوله: {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال: ٤٠) والمراد أنك إن لم تكن {نعم العبد} فأنا {نعم المولى} وإن كان منك الفضول، فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير.

٤٥

{واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: {عبدنا} على الواحد وهي قراءة ابن عباس، ويقول إن قوله: {عبدنا} تشريف عظيم، فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصا بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ: الباقون: {عبادنا} قالوا: لأن غير إبارهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في عيسى: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه} (الزخرف: ٥٩) وفي أيوب: {نعم العبد} (ص: ٤٤) وفي نوح: {إنه كان عبدا شكورا} (الإسراء: ٣) فمن قرأ (عبدنا) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحق ويعقوب، ومن قرأ (عبادنا) جعل إبراهيم وإسحق ويعقوب عذف بيان لعبادنا.

المسألة الثانية: تقدير اةية كأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال: واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحق للذبح، وصب يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره.

ثم قال: {أولى الايدى والابصار}، واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر.

إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة،

أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة اللّه،

وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة

اللّه، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل، فقوله: {أولى الايدى والابصار} إشارة إلى هاتين الحالتين.

٤٦

ثم قال تعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله: {بخالصة} قرىء بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار، ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار، يعني أن ذكرى الدار قد تكون للّه وقد تكون لغير اللّه، فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر.

المسألة الثانية: في ذكرى الدار وجوه

الأولى: المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا

الثاني: المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة

الثالث: المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله: {واجعل لى لسان صدق فى الاخرين} (الشعراء: ٨٤).

٤٧

ثم قال تعالى: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار} أي المختارين من أبناء جنسهم والأخياء جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال.

٤٨

ثم قال: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار} وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين اللّه، وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادةوههنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة.

٤٩

{هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مأاب}

اعلم أن في قوله: {ذكر} وجهين

الأول: أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقا آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال، وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر، لا جرم قال: {هذا ذكر}، ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال: {وإن للمتقين} كما أن المصنف إذا تمم كلاما قال هذا باب، ثم شرع في باب آخر، وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال: {هذا وإن للطاغين} (ص: ٥٥)

الوجه الثاني: في التأويل، أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام به أبدا، والأول هو الصحيح.

أما قوله: {وإن للمتقين * وحسن مئاب}.

فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا له على سبيل الاستهزاء {ربنا عجل لنا قطنا} (ص: ١٦) فعند هذا أمر محمدا بالصبر على تلك السفاهة، وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين

الأول: أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد، فيجب عليك أن تقدي بهم في هذا المعنى

الثاني: أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع اللّه كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف اللّه تعالى، وهذا نظم حسن وترتيب لطيف.

أما فقوله تعالى: {هذا ذكر وإن للمتقين} المآب المرجع.

واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية، وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال، أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد، وكانت في حضرة جلال اللّه ثم تعلقت بالأبدان، فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعا وجوابه: أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان، ولا يدل على قدم الأرواح.

٥٠

ثم قال تعالى: {جنات عدن} وهو بدل من قوله: {لحسن مئاب}

ثم قال: {مفتحة لهم الابواب}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوها

الأول: قال الفراء: معناه مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة، تقول العرب: مررت برجل حسن الوجه، فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة

والثاني: قال الزجاج: المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها

الثالث: قال صاحب "الكشاف" {الابواب} بدل من الضمير، وتقديره مفتحة

هي الأبواب، كقولك ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.

المسألة الثانية: قرىء: {جنات عدن} مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله: {جنات عدن} مبتدأ و {مفتحة} خبره، وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن مفتحة لهم.

المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء

الأول: أحوال مساكنهم، فقوله: {جنات عدن} يدل على أمرين

أحدهما: كونها جنات وبساتين

والثاني: كونها دائمة آمنة من الانقضاء.

وفي قوله: {مفتحة لهم الابواب} وجوه

الأول: أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام، فيدخل كذلك محفوفا بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة، قال تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر: ٧٣).

الثاني: أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم، وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم

الثالث: المراد من هذا الفتح، وصف تلك المساكن بالسعة، ومسافرة العيون فيها، ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة.

٥١

ثم قال تعالى: {متكئين فيها} يدعون فيها،

وفيه مباحث:

البحث الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة، وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء، فقال في آية: {على الارائك متكئون} (يس: ٥٦) وقال في آية أخرى: {متكئين على رفرف خضر} (الرحمان: ٧٦).

البحث الثاني: قوله: {وأنزلنا فيها} حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: {يدعون فيها} والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها

ثم قال: {بفاكهة كثيرة وشراب} والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير، والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة، فرغبهم اللّه تعالى فيه.

٥٢

ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح، فقال: {وعندهم قاصرات الطرف} وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم، وقوله: {أتراب} أي على سن واحد، ويحتمل كون الجواري أترابا، ويحتمل كونهن أترابا للأزواج، قال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة، أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية، وذلك يقتضي عدم الغيرة.

٥٣

انظر تفسير الآية:٥٤

٥٤

ثم قال تعالى: {هذا ما توعدون ليوم الحساب} يعني أن اللّه تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة، ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال: {إن هذا لرزقنا * ماله *من نفاد}.

٥٥

{هذا وإن للطاغين لشر مأاب}

اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين، وصف بعده عقاب الطاغين، ليكون الوعيد مذكورا عقيب الوعد، والترهيب عقيب الترغيب.

واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعا

فالأول: مرجعهم ومآبهم، فقال: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب} (ص: ٥٥) وهذا في مقابلة قوله: {هذا ذكر وإن للمتقين} (ص: ٤٩) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين، واختلفوا في المراد بالطاغين، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار، وقال الجبائي: إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفارا أو لم يكونوا كذلك، واحتج الأولون بوجوه

الأول: أن قوله: {لشر مئاب} يقتضي أن يكون مآبهم شرا من مآب غيرهم، وذلك لا يليق إلا بالكفار

الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {أتخذناهم سخريا} وذلك لا يليق إلا بالكفار، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخريا

الثالث: أنه اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل، والكامل في الطغيان هو الكافر، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى:

{إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦، ٧) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف اللّه تعالى وتعداها فقد طغى، ذا عرفت هذا

فنقول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب، أي شر مرجع ومصير،

٥٦

ثم قال: {جهنم يصلونها} والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله: {جهنم يصلونها}

ثم قال: {فبئس المهاد} وهو كقوله: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف: ٤١) شبه اللّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.

٥٧

ثم قال تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: فيه وجهان

الأول: أنه على التقديم والتأخير، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه

الثاني: أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه، ثم يبتدىء فيقول: حميم وغساق.

المسألة الثانية: الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه

الأول: أنه الذي يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين إذا سال دمعها.

وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه

الثاني: قيل الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده، وذكر الأزهري: أن الغاسق البارد، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار

الثالث: أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق

الرابع: قال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.

المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف.

قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسما أو صفة، فإن كان اسما فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلا، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك.

٥٨

ثم قال تعالى: {وءاخر من شكله أزواج}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمر {وأخر} بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب، وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر،

أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، أي من مثله في الشدة والفظاعة، أزواج أي أجناس،

وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر، وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله.

قال صاحب "الكشاف": وقرىء من شكله بالكسر وهي لغة،

وأما الغنجفبالكسر لا غير.

واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم

في الدنيا أولا، ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانيا

٥٩

انظر تفسير الآية:٦٠

٦٠

أما الأول: فهو قوله: {هذا فوج مقتحم معكم} واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو

قوله: {قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا}،

وقيل إن قوله: {هذا فوج مقتحم معكم} كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، وقوله: {لا مرحبا بهم إنهم صالو النار} كلام الرؤساء، وقوله: {هذا فوج مقتحم معكم} أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة الشدة.

وقوله تعالى: {لا مرحبا بهم} دعاء منهم على أتباعهم، يقول الرجل لمن يدعو له مرحبا أي أتيت رحبا في البلاد لا ضيقا أو رحبت بلادك رحبا،

ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء، وقوله: {بهم} بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} (الأعراف: ٣٨)

قالوا أي الأتباع {بل أنتم لا مرحبا بكم} يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم: {أنتم قدمتموه لنا} والضمير للعذاب أو لصليهم،

فإن قيل ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟

قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى: {ذوقوا عذاب الحريق * ذالك بما قدمت أيديكم} (آل عمران: ١٨١، ١٨٢) إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم، والضمير في قوله: {قدمتموه} كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله: {وإن للطاغين * شر * مئاب} وقوله: {فبئس القرار} أي: بئس المستقر والمسكن جهنم،

٦١

ثم قالت الأتباع { قَالُوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا} أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى: {ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا} (الأعراف: ٣٨)

وكذلك قوله تعالى: {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب} (الأحزاب: ٦٧، ٦٨)

فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفا، وإن كان زائدا عليه كان ظالما وإنه لا يجوز.

قلنا المراد منه قوله عليه السلام: "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال، والثاني عذاب الإضلال واللّه أعلم.

وههذنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا،

٦٢

وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار} يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون: {ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار} يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار،

أما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشرارا

٦٣

ثم قالوا: {أتخذناهم سخريا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {من الاشرار * أتخذناهم} بوصل ألف {أتخذناهم} والباقون بفتحها على الاستفهام، قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ

لأن الاستفهام متقدم في قوله: {ما لنا لا نرى رجالا}، ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخريا، لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى} (المؤمنون: ١١٠) فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه؟ أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ، ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم،

أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله: {أتخذناهم} بأم في قوله: {أم زاغت * فيهم}

فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله: {أم زاغت} على القراءة الأولى؟

قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون أم زاغت عنهم الأبصار.

المسألة الثانية: قرأ نافع {سخريا} بضم السين والباقون بكسرها،

وقيل هما بمعنى واحد

وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير.

المسألة الثالثة: اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين

أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا، أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار.

ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم {أتخذناهم سخريا}

وأما القراءة على سبيل الاستفهام، فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخريا وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار، أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن يتكلموا به،

٦٤

إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ

ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو، فقال: {تخاصم أهل النار} وإنما سمى اللّه تعالى تلك الكلمات تخاصما لأن قول الرؤساء {لا مرحبا بهم} وقول الأتباع {بل أنتم لا مرحبا بكم} من باب الخصومة.

٦٥

{قل إنمآ أنا منذر وما من إله إلا اللّه الواحد القهار}

اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا اللّه واحد، وإلى أنه رسول مبين من عند اللّه، وإلى أن القول بالقيامة حق، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين

الأول: ليصير ذلك حاملا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم

والثاني: ليصير ذلك رادعا للكفار على ازصرار على الكفر والسفاهة وداعيا إلى قبول الإيمان، ولما تمم اللّه تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقدير التوحيد والنبوة والبعث، فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا اللّه الواحد القهار، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها

ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب، فكذا ههنا أجاب اللّه تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم.

أما قوله: {قل إنما أنا منذر} يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، وأحوال ثواب من أقربها، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا {أجعل الالهة إلها واحدا} (ص: ٥)

فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال: {وما من إله إلا اللّه الواحد القهار} وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزها عن الشريك والنظير، وبيانه أن الذي يجعل شريكا له في الإلهية،

أما أن يكون موجودا قادرا على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك، بل يكون جمادا عاجزا

والأول: باطل لأنه لو كان شريكه قادرا على الإطلاق لم يكن هو قادرا قاهرا، لأن بتقدير أن يريد هو شيئا ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر، وحينئذ لا يكون قادرا قاهرا بل كان عاجزا ضعيفا، والعاجز لا يصلح للإلهية، فقوله: {لا * اللّه الواحد القهار} إشارة إلى أن كونه قهارا يدل على كونه واحدا

وأما الثاني: وهو أن يقال إن الذي جعلشريكا له لا يقدر على شيء ألبتة مثل هذه الأوثان، فهذا أيضا فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقوله: {وما من إله إلا اللّه الواحد القهار} يدل على هذه الدلائل، واعلم أن كونه سبحانه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف،

٦٦

فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال: {رب * السماوات والارض * وما بينهما العزيز الغفار} فكونه ربا مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود، وكونه غفارا مشعر بالترغيب

وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته، لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه.

ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات،

فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسة الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار،

أما كونه واحدا فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين واستدل تعالى على كونه واحدا بكونه قهارا وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهارا وإن دل على إثبات الوحدانية إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دالة على الرحمة والفضل والكرم أولها: كونه ربا للسموات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة اللّه تعالى في خلق السموات والأرض والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة، وذلك بحر لا ساحل له فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل وذلك يفيد الرجاء العظيم

وثانيها: كونه عزيزا والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات، فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء

وثالثها: كونه غفارا والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة، فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار، واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال: {قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوها فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم، ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم، ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم، وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ولأجلها أنجز الكلام إلى كل ما سبق ذكره، ويمكن أيضا أن يكون المراد كون القرآن معجزا لأن هذا أيضا قد تقدم ذكره في قوله: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته} (ص: ٢٩) وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال

٦٧

انظر تفسير الآية:٦٨

٦٨

{قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون}

واعلم أن قوله: {أنتم عنه معرضون} ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من التقليد، لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبوبا الشقاوة فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية، وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.

٦٩

أما قوله تعالى: {ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون} فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة، وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه:

الأول: أن كل واحد منها نبأ عظيم، والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه

الثاني: أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال: {إني جاعل فى الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال} (البقرة: ٣٠) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله: {من يفسد فيها} وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله: {ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك} فقال اللّه سبحانه وتعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} وتقرير هذا الجواب واللّه أعلم أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة:

أحدها: الذين حصل لهم العقل والحكمة، ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط

ثانيها: الذين حصل لهم النفس والشهوة، ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم

وثالثها: الأشياء الخالية عن القسمين، وهي الجمادات وبقي في التقسيم

قسم رابع: وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة، فقوله {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني أن هذا النوع من المخلوقات، وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء، لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة، وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات، وأن يجتهد في اكتسابها، وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر، وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعيا له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجرا له عن أضدادها ومقابلاتها، فلهذا السبب ذكر اللّه تعالى هذا الكلام في هذا المقام.

فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} (البقرة: ٣٠) فإن المخاصمة مع اللّه كفر،

قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه،

٧٠

ولما أمر اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول: {إن يوحى إلى أنما أنا نذير مبين} يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي، وإنما أوحى اللّه إلي هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد.

٧١

{إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين}

اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر، وذلك لأن إبليس، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا عليه السلام بسبب الحسد والكبر، فاللّه تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال، ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أمورا أربعة أولها: أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه

والثاني: أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر

الثالث: أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما، فهذا هو وجه النظم في هذه الآياع، واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة، فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه

وفيها مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {إنى خالق بشرا من طين}

سؤالات:

الأول: أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين، كما إذا قيل أنا متخذ سوارا من ذهب، فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة.

الثاني: ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين، وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله: {من صلصال من حمإ مسنون} (الحجر: ٢٦) وكقوله: {خلق الإنسان من عجل} (الأنبياء: ٣٧).

الثالث: أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشرا من طين. لم يقولوا شيئا، وفي الآية الأخرى وهي التي قال: {إني جاعل فى الارض خليفة} (البقرة: ٣٠) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض، والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولا أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية، فلما قال: {إنى خالق بشرا من طين} فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات، إنما أخلقه من الطين،

والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب، وأقرب منه الطين، وأقرب منه الحمأ المسنون، وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل، والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة، وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين.

٧٢

المسألة الثانية: قال {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى} وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولا

ثم نفخ الروح ثانيا، وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس.

أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني، والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة، وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة، ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها، ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها، ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة.

وأما النفس فإليها الإشارة بقوله: {ونفخت فيه من روحى} ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي، وذهبت الحلولية إلى أن كلمة (من) تدل على التبعيض، وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء اللّه تعالى، وهذا غاية الفساد، لأن كل ما له جزء وكل، فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث.

وأما كيفية نفخ الروح، فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية، علوية العنصر، قدسية الجوهر، وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء، وسريان النار في الفحم، فهذا القدر معلوم.

أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا اللّه تعالى.

المسألة الثالثة: الفاء في قوله: {فقعوا له ساجدين} تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر اللّه عليهم بالسجود،

٧٣

فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض، أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل، والروح الأعظم المذكور في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} (النبأ: ٣٨) ففيه مباحث عميقة.

وقال بعض الصوفية: الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية، فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل، والكلام فيه طويل.

وأما بقية المسائل وهي: كيفية سجود الملائكة لآدم، وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا، وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا، وأنه هل كان كافرا، أصليا أم لا، فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها.

المسألة الرابعة: احتج من أثبت الأعضاء والجوارح للّه تعالى بقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى} في إثبات يدين للّه تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به.

واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأجزاء والأعضاء، قد سبقت إلا أنا نذكر ههنا نكتا جاريا مجرى الإلزامات الظاهرة

فالأول: أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها،

وأما أن يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله: {كل شىء هالك إلا وجهه} (القصص: ٨٨) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: {تجرى بأعيننا} (القمر: ١٤) وأن يثبت جنبا واحدا لقوله تعالى: {نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب اللّه} (الزمر: ٥٦) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى: {مما عملت أيدينا} (يس: ٧١) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى اللّه عليه وسلم : "الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض" وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} (القلم: ٤٢) فيكون الحاصل من هذه الصورة، مجرد رقعة الوجه

ويكون عليها عيون كثيرة، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحدومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور، ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة.

وأما القسم الثاني: وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر، ولا بد له من قبول دلائل العقل.

الحجة الثانية: في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء للّه تعالى، فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى، وإن نفوهما فهو خصي أو عنين، وتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الحجة الثالثة: أنه في ذاته سبحانه وتعالى، أما أن يكون جسما صلبا لا ينغمز ألبتة، فيكون حجرا صلبا، وأما أن يكون قابلا للانغماز، فيكون لينا قابلا للتفرق والتمزق.

وتعالى اللّه عن ذلك.

الحجة الرابعة: أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان كالزمن المعقد العاجز، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان محلا للتغيرات، فدخل تحت قوله: {لا أحب الافلين} (الأنعام: ٧٦).

الحجة الخامسة: إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت، وإن كان يفعل هذه الأشياء، كان إنسانا كثير التهمة محتاجا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل.

الحجة السادسة: أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا،

فنقول لهم حين نزوله: هل يبقى مدبرا للعرش ويبقى مدبرا للسماء الدنيا حين كان على العرش، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة، وإن لم يبق مدبرا للعرش فعند نزوله يصير معزولا عن إلهية العرش والسموات.

الحجة السابعة: أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة اللّه كالذرة بالنسبة إلى البحر، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرا بحيث تسعه السماء الدنيا،

وأما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش، وكل ذلك باطل.

الحجة الثامنة: ثبت أن العالم كرة، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل، فحينئذ يكون جسما محيطا بهذا العالم من كل الجوانب، فيكون إله العالم على هذا القول فلكا من الأفلاك.

الحجة التاسعة: لما كانت الأرض كرة، وكانت السموات كرات، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدا نازلا عن العرش، وأن لا يرجع إلى العرش ألبتة.

الحجة العاشرة: أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها: كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض

وثانيها: كونه محدودا متناهيا

وثالثها: كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوعوالغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا، فإذا كان العرش كان محدودا متناهيا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للألهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للأهلية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر.

الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: {قل هو اللّه أحد} (الإخلاص: ١) ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة، وذلك ينافي كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض.

الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: {واللّه الغنى وأنتم الفقراء} (محمد: ٣٨) ولو كان مركبا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجا إليها وذلك يمنع من كونه غنيا على الإطلاق

فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء للّه محال، ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه اللّه تعالى، عن هذه الأعضاء، فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوها

الأول: أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد، أي من قوة وطاقة، قال تعالى: {أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح} (البقرة: ٢٣٧)،

الثاني: اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا

الثالث: أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى: {بشرا بين يدى رحمته} (الأعراف: ٥٧).

ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة ههنا غير جائز، ويدل عليه وجوه

الأول: أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين للّه وهو باطل

والثاني: أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقا باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجودا للملائكة، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقا بالقدرة، لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة اللّه تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد اللّه تعالى، فكذلك إبليس مخلوق بيد اللّه تعالى، وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة، لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجودا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجودا لآدم، وحينئذ يختل نظم الآية ويبطل

الثالث: أنه جاء في الحديث أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "كلتا يديه يمنى" ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة.

وأما التأويل الثاني: وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضا باطل لوجوه

الأول: أن نعم اللّه تعالى كثيرة كما قال: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (إبراهيم: ٣٤) وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين

الثاني: لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة للّه فحينئذ لا يكون آدم مخلوقا للّه تعالى بل يكون مخلوقا لبعض المخلوقات، وذلك بأن يكون سببا لمزيد النقصان أولى من أن يكون سببا لمزيد الكمال

الثالث: لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله: {تبارك الذى بيده الملك} (الملك: ١) معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله: "بيدك الخير" معناه بنعمتك الخير ولكان قوله: {يداه مبسوطتان} (المائدة: ٦٤) معناه نعمتان مبسوطتان، ومعلوم أن كل ذلك فاسد.

وأما التأويل الثالث: وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل فيحق من يكون هذا العضو حاصلا له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلا في حقه

أما الأول: فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فطلق اسم اليد على القدرة، وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة، وقد تقدم إبطال هذا الوجه

وأما الثاني: فكقوله {بين يدى عذاب شديد} (سبأ: ٤٦) وقوله: (بين يدي الساعة) إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطردا، فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة، ونحن نسلم أن قوله: {لا تقدموا بين يدى * اللّه ورسوله} (الحجرات: ١) قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة،

أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى: {خلقت بيدى} وإن كان القياس في المجازات باطلا فقد سقط كلامكم بالكلية، فهذا منتهى البحث في هذا الباب.

والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العملفإذا كان العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنه عند قيام الدلائل القاهرة.

فهذا ما لخصناه في هذا الباب، واللّه أعلم.

٧٤

انظر تفسير الآية:٧٦

٧٥

انظر تفسير الآية:٧٦

٧٦

أما قوله تعالى: {أستكبرت أم كنت من العالين} فالمعنى: استكبرت الآن أم كنت أبدا من المتكبرين العالين، فأجاب إبليس بقوله: {أنا خير من * خلقتني من نار وخلقته من طين} فالمعنى أني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيرا منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين، فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة:

المقدمة الأولى: أن إبليس مخلوق من النار، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {خلقتني من نار وخلقته من طين} وقوله تعالى: {والجآن خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: ٢٧).

المقدمة الثانية: أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه

الأول: أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض

الثاني: أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض

الثالث: أن الكيفية الفاعلة الأصلية،

أما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت

الرابع: الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة

الخامس: النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة

السادس: النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح

السابع: النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط

الثامن: أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي، ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي

التاسع: أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس، مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوتوالأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضا من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه،

وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر

العاشر: أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار

الحادي عشر: أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره

الثاني عشر: أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات

الثالث عشر: أن أقوى العناصرالأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض.

أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضا وجوها

الأول: أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها

الثاني: أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي

الثالث: أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار،

وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة.

وأما المقدمة الثالثة: فهي أن من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدا وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة وهو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد

وأيضا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضا بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه، إلا أن الذي لا يكون نسبيا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة، فإن قال قائل هب أن إبليس أخظأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة؟

وبيان هذا السؤال من وجوه

الأول: أن قوله: {اسجدوا} أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر، وأيضا فالذين يقولون: إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب احتمالا ظاهرا ومع قيام هذا الأحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر

الثاني: هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس

الثالث: خب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس

الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب: هب أن صيفة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب، وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: {أستكبرت أم كنت من العالين} فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر اللّه وتكليفه وذلك يوجب الكفر.

٧٧

إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى: {فَاخرج منها * فإنك رجيم}.

واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكممعللا بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم، وقوله: {منها} أي: من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان:

الأول: أنه مجاز عن الطرد، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمي بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد

فإن قالوا: الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله: {رجيم} على الطرد لكان قوله بعد ذلك: {وإن عليك لعنتى} تكرارا والجواب من وجهين

الأول: أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة اللّه

٧٨

والثاني: أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله: {وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين} على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريرا.

والقول الثاني: في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مركومين بالشهب واللّه أعلم.

فإن قيل كلمة إلى لإنتهاء الغاية فقوله: {إلى يوم الدين} يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين، أجاب صاحب "الكشاف" بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية.

٧٩

انظر تفسير الآية:٨١

٨٠

انظر تفسير الآية:٨١

٨١

واعلم أن إبليس لما صار ملعونا قال: {فأنظرنى إلى يوم يبعثون} قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضا فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى: {إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه اللّه ولا يعلمه أحد سواه،

٨٢

فقال إبليس: {فبعزتك} وهو قسم بعزة اللّه وسلطانه {لاغوينهم أجمعين} فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى: {رب بمآ أغويتنى} فأضاف الإغواء إلى اللّه على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة.

٨٣

وأما قوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} ففيه فوائد:

الفائدة الأولى: قيل غرض إبليس من ذكره هذا لإستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد اللّه الصالحين، فكأن إبليس قال: إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام، وعن هذا يقال: إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه؟

فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى * ألقى *الشيطان فى أمنيته}؟ (الحج: ٥٢)

قلنا: إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد اللّه الصالحين بل قال: لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم.

الفائدة الثانية: هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد اللّه المخلصين، وقال تعالى في صفة يوسف: {إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف: ٢٤) فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوي يوسف عليه السلام، وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح.

٨٤

واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال اللّه تعالى: {فالحق والحق أقول * لاملان جهنم * وممن تبعك منهم أجمعين} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة {فالحق} بالرفع {والحق} بالنصب، والباقون بالنصب فيهما.

أما الرفع فتقديره فالحق قسمي.

وأما النصب فعلى القسم، أي فبالحق، كقولك واللّه لأفعلن.

وأما قوله: {والحق أقول} انتصب قوله: {والحق} بقوله: {أقول}.

٨٥

لَاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ

المسألة الثانية: قوله: {منك} أي من جنسك، وهم الشياطين {وممن تبعك منهم} من ذرية آدم، فإن قيل قوله: {أجمعين} تأكيد لماذا؟ قلنا, يحتمل أن يؤكد به الضمير في {منهم}، أو الكاف في {منك} مع من تبعك، ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحدا.

المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء اللّه من وجوه

الأول: أنه تعالى قال في حق إبليس: {فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين} فهذا إخبار من اللّه تعالى بأنه لا يؤمن، فلو آمن لانقلب خبر اللّه الصدق كذبا وهو محال، فكان صدور الإيمان منه محالا مع أنه أمر به

والثاني: أنه قال: {فبعزتك لاغوينهم أجمعين} فاللّه تعالى علم منه أنه يغويهم، وسمع منه هذه الدعوى، وكان قادرا على منعه عن ذلك، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضيا به،

فإن قالوا: لعل ذلك المنع مفسد،

قلنا: هذا قول فاسد، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال، ويخلص بني آدم عن الضلال، وهذا عين المصلحة

الثالث: أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق اللّه تعالى

الرابع: أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين، وأن يميت إبليس والشياطين، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد

الخامس: أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليف بما لا يطاق، واللّه أعلم.

٨٦

{قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين}

اعلم أن اللّه تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة، وذلك لأنه تعالى ذكر طرقا كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين، ثم قال عند الختم: هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي، وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل.

أما الداعي وهو أنا.

فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجرا ومالا، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال ألبتة، وكان من الظاهر أنه صلى اللّه عليه وسلم كان بعيدا عن الدنيا عديم الرغبة فيها، وأما كيفية الدعوة

فقال: وما أنا من المتكلفين، والمفسرون ذكروا فيه وجوها، والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته، فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود اللّه أولا:

ثم أعوكم ثانيا: إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به، يقوي ذلك قوله: {ليس كمثله شىء} وأمثاله،

ثم أدعوكم ثالثا: إلى الإقرار بكونه موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة،

ثم أدعوكم رابعا: إلى الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد،

ثم أعوكم خامسا: إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان، التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها،

ثم أدعوكم سابعا: إلى الإقرار بالبعث والقيامة: {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} (النجم: ٣١)

ثم أدعوكم ثامنا: إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، فهذه الأصول الثمانية، هي الأصول القوية المعتبرة في دين اللّه تعالى، ودين محمد صلى اللّه عليه وسلم وبدائه العقول، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها.

بل كان عقل سليم وطبع مستقيم، فإنه يشهد بصحتها وجلالتها، وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله:

٨٧

انظر تفسير الآية:٨٨

٨٨

{إن هو إلا ذكر للعالمين} ولما بين هذه المقدمات قال: {ولتعلمن نبأه بعد حين} والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها، فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب، واللّه أعلم.

﴿ ٠