٣

وأما براءته من عبادة غير اللّه تعالى فهو المراد بقوله: {ألا للّه الدين الخالص} لأن قوله: {ألا للّه} يفيد الحصر، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها:

أما العبادة: فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتي به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.

وأما الإخلاص: فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والإمتثال، فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحا على الجانب الآخر أو معادلا له أو مرجوحا.

وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط،

وأما إذا كان الداعي إلى طاعة اللّه راجحا على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه

هل يفيد أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص لأن قوله: {فاعبد اللّه مخلصا}

صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى: {وما أمروا إلا * ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} (البينة: ٥)

وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام

أحدها: أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل

وثانيها: أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار

وثالثها: أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرا في إيجاب الثواب أو دفع العقاب

ورابعها: وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة.

المسألة الثانية: من الناس من قال: فاعبد اللّه مخلصا له الدين} المراد منه شهادة أن لا إله إلا اللّه، واحتجوا بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "لا إله إلا اللّه حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي" وهذا قول من يقول: لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر،

وأما الأكثرون فقالوا: الآية متناولة لكل ما كلف اللّه به من الأوامر والنواهي، وهذا الأولى لأن قوله: {*} المراد منه شهادة أن لا إله إلا اللّه، واحتجوا بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "لا إله إلا اللّه حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي" وهذا قول من يقول: لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر،

وأما الأكثرون فقالوا: الآية متناولة لكل ما كلف اللّه به من الأوامر والنواهي، وهذا الأولى لأن قوله: {فاعبد اللّه} عام، وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها وأصت أن يصلي الحسن البصري عليها، فلما صلى عليها ودفنت، قال للفرزدق: يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقال الحسن رضي اللّه عنه: هذا العمود فأين الطنب؟

فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة، قال القاضي: فأما ما يروي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لمعاذ وأبي الدرادء: "وإن زني وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء" فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن، ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزنا والسرقة، وأن لا يكون متعديا بفعلهما لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين فكأن ذلك إغراء بالقبيح، لأنا نقول إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين.

هذا تمام كلام القاضي، فيقال له:

أما قولك إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل للقرآن يدل عليه قال تعالى: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: ٤٨)

وقال: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} (الرعد: ٦) أي: حال ظلمهم كما يقال رأيت الأمير على أكله وشربه أي حال كونه آكلا وشاربا، وقال: {قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعا} (الزمر: ٥٣)،

وأما قوله: إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح، فيقال له إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلا، وأيضا فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة، لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر اللّه له لم ينزجر

وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد، لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب ألبتة.

ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملةفأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقطع بحصول المغفرة في الجملة، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلا فلا يكون الإغراء حاصلا واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف" قريء الدين بالرفع، ثم قال: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام لقوله تعالى: {وأخلصوا دينهم للّه} (النساء: ١٤٦) حتى يطابق قوله: {ألا للّه الدين الخالص} والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى} وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون، واعلم أن الضمير في قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى} عائد على الأشياء التي عبدت من دون اللّه، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء،

أما العقلاء فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيزا والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة،

وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام، إذا عرفت هذا

فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء،

أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين

الأول: أن الضمير في قوله: {ما نعبدهم} ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام

الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى اللّه، وعلى هذا التقدير فمرادهم أنعبادتهم لها تقربهم إلى اللّه، ويمكن أن يقال: إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها.

وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا: إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد اللّه مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر، فهذا هو المراد من قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى}.

واعلم أن اللّه تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه:

الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال: {إن اللّه يحكم بينهم * فيما * هم فيه يختلفون}

واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهبا باطلا وكان مصرا عليه، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عنقلبه، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه، فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود.

والأطباء يقولون: لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال، فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام، فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولا يجري مجرى سقي المنضج أولا، وإسماع الدليل ثانيا يجري مجرى سقي المسهل ثانيا.

فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.

ثم قال تعالى: {إن اللّه لا يهدى من هو كاذب كفار} والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروما عن الهداية

والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض،

وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد، والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب، واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر.

ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة، والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وذلك المنعم هو اللّه سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق.

﴿ ٣