١٧

ولما ذكر اللّه قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال: {وأما ثمود} قال صاحب "الكشاف" قرىء {ثمود} بالرفع والنصب منونا وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرىء بضم الثاء وقوله {فهديناهم} أي دللناهم على طريق الخير والشر {فاستحبوا العمى على الهدى} أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.

واعلم أن صاحب "الكشاف" ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإقضاء إلى البغية لم يحصل، فثبت أن قيد مفضيا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.

وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابا شافيا فتركناه، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن اللّه تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله {وأما ثمود فهديناهم} يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله {فاستحبوا العمى على الهدى} يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد،

وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل، على أنهما إنما يحصلان من اللّه لا من العبد، وبيانه من وجهين:

الأول: أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى، لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو اللّه فقد حصل المطلوب

الثاني: أنه تعالى قال: {فاستحبوا العمى على الهدى} ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلا، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلما لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقا بجهل آخر، فإن كان ذلكالجهل الثاني باختياره أيضا لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب، ولما وصف اللّه كفرهم قال: {فأخذتهم صاعقة العذاب الهون} و{صاعقة العذاب} أي داهية العذاب و{الهون} الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه {بما كانوا يكسبون} يريد من شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وشرع صاحب "الكشاف" ههنا في سفاهة عظيمة.

والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى صعيا حسنا فيما يتعلق بالألفاظ، إلا أن المسكين كان بعيدا من المعاني.

﴿ ١٧