٢٥

{وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال: {وقضينا * لهم قرناء}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب "الصحاح": يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال بيعان، وقيض اللّه فلانا أي جاءه به وأتى به له، ومنه قوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء}.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر، فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء، وكان عالما بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإن يزينوا الباطل لهم، وكل من فعل فعلا وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة، فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريدا لذلك الأثر فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر، أجاب الجبائي عنه بأن قال لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين إذ الفاعل لما أراده منه غيره يجب أن يكون مطيعا له، وبأن قوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

(الذاريات: ٥٦) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة، فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي،

وأما هذه الآية فنقول: إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم، وإنما قال: {فزينوا لهم} فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه، فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بين تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض.

واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه، وهو أن من فعل فعلا وعلم قطعا أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر، فاعل ذلك الفعل يكون مريدا لذلك الأثر، فههنا اللّه تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال، وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك، وقلوه ولو أراد اللّه منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين للّه،

قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعا له لوجب أن يكون اللّه مطيعا لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل، وأيضا فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه، وأن أردت غيره فلا بد، من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا.

المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله {فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} وذكر الزجاج فيه وجهين:

الأول: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا، فزينوا أن الدنيا قديمة، وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك

الثاني: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونهوعبر ابن زيد عنه، فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة.

ثم قال تعالى: {وحق عليهم * القوم فيها *أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم، والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة {أمم} من المتقدمين {إنهم كانوا خاسرين}

واحتج أصحابنا أيضا بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء {حق عليهم القول} فلو لم يكونوا كفارا لانقلب هذا القول الحق باطلا وهذا العلم جهلا، وهذا الخبر الصدق كذبا، وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فثبت أن صدور الإيمان عنهم، وعدم صدور الكفر عنهم محال.

واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدىء من قوله {وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه} إلى قوله {فاعمل إننا عاملون} (فصلت: ٥) فأجاب اللّه تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة، واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع،

﴿ ٢٥