٣٣{ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى اللّه وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين} اعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول {قلوبنا فى أكنة مما * تدعوننا إليه} (فصلت: ٥) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة، فقالوا {لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه} (فصلت: ٢٦) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات، ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، وعبر عن هذا المعنى فقال: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين} فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة. وفيه وجه آخر وهو أن مراتبالسعادات اثنان: التام، وفوق التام، أما التام: فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا} (فصلت: ٣٠) إشارة إلى المرتبة الأولى، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه} فهذا أيضا وجه حسن في نظم هذه الآيات. واعلم أن من آتاه اللّه قريحة قوية ونصابا وافيا من العلوم الإلهية الكشفية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن. المسألة الثانية: من الناس من قال المراد من قوله {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه} هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ومنهم من قال هم المؤذنون، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى اللّه بطريق من الطرق فهو داخل فيه، والدعوة إلى اللّه مراتب: فالمرتبة الأولى: دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها: أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولا، ثم الدعوة بالسيف ثانيا، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها: أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها: أن نفوسهم أققوى قوة، وأرواحهم أصفى جورها، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل، فكانت دعوتهم أفضل ورابعها: أن النفوس على ثلاثة أقسام: ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول: العوام والقسم الثاني: هم الأولياء والقسم الثالث: هم الأنبياءولهذا السبب قال صلى اللّه عليه وسلم : "علماء أمتي كأنبياء إسرائيل" وإذا عرفت هذا فنقول: إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان: الكمال في الذات، والتكميل للغير، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى، وكانت ادرجاتهم أفضل وأكمل، إذا عرفت هذا فنقول: الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان: العلم والقدرة، أما العلماء، فهم نواب الأنبياء في العلم، وأما الملوك، فهم نواب الأنبياء في القدرة، والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأوراح، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد. وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى اللّه بعد الأنبياء درجة العلماء، ثم العلماء على ثلاثة أقسام: العلماء باللّه، والعلماء بصفات اللّه، والعلماء بأحكام اللّه. أما العلماء باللّه، فهم الحكماء الذين قال اللّه تعالى في حقهم {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (البقرة: ٢٢٩) وأما العلماء بصفات اللّه تعالى فهم أصحاب الأصول، وأما العلماء بأحكام اللّه فهم الفقهاء، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا ينهاية لها، فلهذا السبب كان للدعوة إلى اللّه درجت لا نهاية لها، وأما الملوك فهم أيضا يدعون إلى دين اللّه بالسيف، وذلك بوجهين أما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار، وأما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولا ضعيفا، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة، فكان ذلك داخلا تحت الدعاء إلى اللّه، وأما كونهذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطا بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة، فهذا هو الكلام، في مراتب الدعوة إلى اللّه. المسألة الثالثة: قوله {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه} يدل على أن الدعوة إلى اللّه أحسن من كل ما سوها، إذا عرفت هذا فنقول: كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى اللّه أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، ثم ينتج أن الدعوة إلى اللّه واجبة، ثم نقول الأذان دعوة إلى اللّه والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال، لأن الدعوة إلى دين اللّه سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان. المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء اللّه، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولا ممن قال إني من المسلمين، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال، ولو كان قولنا إن شاء اللّه معتبرا في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية. المسألة الخامسة: الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها: الدعوة إلى اللّه وثانيها: العمل الصالح وثالثها: أن يكون من المسلمين، أما الدعوة إلى اللّه فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى اللّه بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية. وأما قوله {وعمل صالحا} فاعلم أن العمل الصالح أما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات. وأما قوله {وقال إننى من المسلمين} فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسانفيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة أحدها: الإقرار باللسان، والثاني: الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث: الاعتقاد الحق بالقلب وثالثها: الاشتغال بإقامة الحجة على دين اللّه، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم، وكمال الدرجة في هذه المراتبالأربعة ليس إلا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم . |
﴿ ٣٣ ﴾