٣٤

ثم قال تعالى: {ولا تستوى الحسنة ولا السيئة} وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن اللّه حكى عنهم أنهم قالوا {قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت: ٥) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردافها بالوعد والوعيد،

ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم {لا * تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه} (فصلت: ٢٦) وأجاب عنها أيضا بالوجوه الكثيرة،

ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدا صلى اللّه عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى اللّه فابتدأ أولا بأن قال: {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم} فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى اللّه من أعظم الدرجات، فصارالكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعا على أحسن وجوه الترتيب،

ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى اللّه وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر اللّه ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال: {ولا تستوى الحسنة ولا السيئة} والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم {قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه} وما ذكروه في قولهم {لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه} فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة.

ثم قال: {ادفع بالتى هى أحسن} يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة.

ثم قال: {فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم} يعني إذا قابلت إسائتهم بالإحسان، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة، ولما أرشد اللّه تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة

﴿ ٣٤