١٠{فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين ...} اعلم أن المراد بقوله {فارتقب} انتظر ويقال ذلك في المكروه، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله {هذا عذب * أليم} ويجوز أيضا أن يكون {يوم تأتى السماء} مفعول الارتقاب وقوله {بدخان} فيه قولان: الأول: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال: "اللّهم اجعل سنيهم كسني يوسف" فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان، وهذا قول ابن عباس رضي اللّه عنهما في بعض الرويات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والمزجاج وهو قول ابن مسعود رضي اللّه عنه وكان ينكر أن يكنن الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانا، فالحاصل أن هذا الدخان هو الصلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع، وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجيهن الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني: أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. والقول الثاني: في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، قالو فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول: أن قوله {يوم تأتى السماء بدخان} يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولا عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخانا مبينا والثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس، وهذا إنما يصدق إذا وصلذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، قال حذيفة يا رسول اللّه وما الدخان فتلا رسلو اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" رواه صاحب "الشكاف" وروى القاضي عن الحسن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "باكروا بالأعمال ستا، وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة" أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} وهذ إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده باللّه والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال اللّه عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال اللّه تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك، لأن عند صهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} ولم يصح أيضا أن يقال لهم {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة، ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون، فإاذ زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذ كان هذا محتملا فقد سقط ما قالوه واللّه اعلم. ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى: {يوم تأتى السماء بدخان مبين} أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله {بدخان} |
﴿ ١٠ ﴾