ÓõæÑóÉõ ÇáúÍõÌõÑóÇÊö ãóÏóäöíøóÉñ

þæóåöíó ËóãóÇäöíó ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة الحجرات

ثماني عشرة آية مدنية

_________________________________

١

٢( {ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى اللّه ورسوله واتقوا اللّه إن اللّه سميع عليم}.

في بيان حسن الترتيب وجوه:

أحدها: أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي صلى اللّه عليه وسلم من الصلح وترك آية التسمية والرسالة وألزمهم كلمة التقوى كأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله، ولا تتجاوزوا ما يأمر اللّه تعالى ورسوله

الثاني: هو أن اللّه تعالى لما بين محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله {رحيم} (التوبة: ١٢٨) قال لا تتركوا من احترامه شيئا لا بالفعل ولا بالقول، ولا تغتروا برأفته، وانظروا إلى رفعة درجته

الثالث: هو أن اللّه تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم راكعين ساجدين نظرا إلى جانب اللّه تعالى، وذكر أن لهم من الحرمة عند اللّه ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله {ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل} (الفتح: ٢٩) فإن الملك العظيم لا يذكر أحدا في غيبته إلا إذا كان عنده محترما ووعدهم بالأجر العظيم، فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ولا تقدموا.

فقال وقيل في سبب نزول الآية وجوه: قيل نزلت في صوم يوم الشك،

وقيل نزلت في التضحية قبل صلاة العيد،

وقيل نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من بني عامر،

وقيل نزلت في جماعة أكثروا من السؤال وكان قد قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم وفود والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة

وفي التفسير مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: {لا تقدموا} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون من التقديم الذي هو متعد، وعلى هذا ففيه وجهان:

أحدهما: ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى: {لا إله} وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعا وإعطاء كذلك ههنا، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلا

والثاني: أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول {لا تقدموا} يعني فعلا {بين يدى اللّه ورسوله} أو لا تقدموا أمرا

الثاني: أن يكون المراد {لا تقدموا} بمعنى لا تتقدموا، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدما في الدخول في الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فالمعنى واحد لأن قوله {لا تقدموا} إذا جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما ورأيا عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمرا وفعلا، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال، وقوله تعالى: {بين يدى اللّه ورسوله} أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله {بين يدى اللّه ورسوله} فوائد:

أحدها: أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضرا عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبىء عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم

وثانيها: ذكر اللّه إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال: {بين يدى اللّه} أي أنتم بحضرة من اللّه تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله

وثالثها: هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله {واتقوا} لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديرا بأن يتقيه، وقوله تعالى: {واتقوا اللّه} يحتمل أن يكون ذلك عطفا يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيدا واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك ههنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا اللّه واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى: {إن اللّه سميع عليم} يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله {ذلك بأن الذين كفروا} فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم مما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.

٢

{ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ...}.

{لا تقدموا} (الحجرات: ١) نهي عن فعل ينبىء عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند اللّه ورسوله بالنسبة إليهما وزنا ومقدارا ومدخلا في أمر من أوامرهما ونواهيهما، وقوله {لا ترفعوا} نهي عن قول ينبىء عن ذلك الأمر، لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتبارا وعظمة وفيه مباحث:

البحث الأول: ما الفائدة في إعادة النداء، وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل {عظيما ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى اللّه} (الحجرات: ١)،

و {لا ترفعوا أصواتكم}؟ نقول في إعادة النداء فوائد خمسة: منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه {يعظه يابنى لا تشرك باللّه} (لقمان: ١٣)

{تعملون يابنى إنها إن تك مثقال حبة} (لقمان: ١٦)،

{لسنتنا تحويلا أقم الصلواة} (لقمان: ١٧) لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد ذلك، ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب

أولا: فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو، فإذا أعاده مرة أخرى، وقال يا زيد قل كذا، يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانيا أيضا ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيدا للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين، وقوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم}

يحتمل وجوها:

أحدها: أن يكون المراد حقيقته، وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام، وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي، فرفع الهواء دليل عدم الخشية

ثانيها: أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلما عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفا إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى اللّه عليه وسلم كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ، فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز، وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان، فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل، وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب

ثالثها: أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعا على كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مرارا بكذا عندما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله، فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر، والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد، لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام، ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام، ولا يرجع المتكلم مع في الخطاب، وقوله تعالى: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض}

فيه فوائد:

إحداها: أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم وصوته

ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى: ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا.

والثانية: أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد داخل تحت قوله {كجهر بعضكم لبعض} لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض، لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم، بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبدا وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام، لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة، وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: ٦) والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى اللّه عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية، وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد.

الفائدة الثانية: أن قوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم} لما كان من جنس {لا * تجهروا} لم يستأنف النداء، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلا والآخر قولا استأنف كما في قول لقمان {يعظه يابنى لا تشرك} (لقمان: ١٣)

وقوله {لسنتنا تحويلا أقم الصلواة} (لقمان: ١٧) لكون

الأول من عمل القلب

والثاني من عمل الجوارح، وقوله {لطيف خبير يابنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن} من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح.

واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله {لا ترفعوا أصواتكم} أي لا تكثروا الكلام فقوله {ولا تجهروا} يكون مجازا عن الإتيان بالكلام عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بقدر ما يؤتى به عند غيره، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل،

وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله {لا * تجهروا} أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم} فيه وجهان مشهوران:

أحدهما: لئلا تحبط

والثاني: كراهة أن تحبط، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {يبين اللّه لكم أن تضلوا} (النساء: ١٧٦) وأمثاله، ويحتمل ههنا وجها آخر وهو أن يقال معناه: واتقوا اللّه واجتنبوا أن تحبط أعمالكم، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى: {واتقوا} (الحجرات: ١)

وأما المعنى فنقول قوله {أن تحبط} إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار، وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى: {وأنتم لا تشعرون} إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان، فإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية الخوف فإذا ارتكبه مرارا يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن، وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر في المرة الأولى فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك، وعند أي خبر حصل هذا اليقين، فقوله {وأنتم لا تشعرون} تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده، لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب، وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي صلى اللّه عليه وسلم ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم حينئذ حابط محبط واللّه أعلم.

واعلم أن اللّه تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي صلى اللّه عليه وسلم وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه اللّه تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة، وأن يكون أرأف بهم من الوالد، كما قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} (الحجر: ٨٨)

وقال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} (الكهف: ٢٨)

وقال: {ولا تكن كصاحب الحوت} (القلم: ٤٨) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه اللّه.

٣

{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه ...}.

وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين

أحدهما: ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى: {امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه، فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام، وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام، لأن به تتبين تقواكم، و {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} (الحجرات: ١٣) ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماما فيتخير لنفسه فيه منصبا ويفوت بسببه منصبه عند السلطان، ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم، وقوله تعالى: {امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} فيه وجوه:

أحدها: امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى، وهذا كما في قوله تعالى: {ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب} (الحج: ٣٢) أي تعظيم أوامر اللّه من تقوى اللّه فكذلك تعظيم رسول اللّه من تقواه

الثاني: امتحن أي علم وعرف، لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه، وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف اللّه قلوبهم صالحة، أي كائنة للتقوى، كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن

الثالث: امتحن: أي أخلص يقال للذهب ممتحن، أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل، وهو يحتمل وجهين

أحدهما: أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان السبب المتقدم، كما يقول القائل: جئتك لإكرامك لي أمس، أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء

وثانيها: أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقا لا سابقا كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب،

فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن اللّه علم ما في قلوبهم من تقواه، وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم، بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه، فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي صلى اللّه عليه وسلم صادقا، وبين من قيل له لا تستهزىء برسول اللّه ولا تكذبه ولا تؤذه، وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزنا بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه، بون عظيم.

واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى، فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل اللّه أمته المتقين الجنة، فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن اللّه تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى، أي ليرزقهم اللّه التقوى التي هي حق التقاة، وهي التي لا تخشى مع خشية اللّه أحدا فتراه آمنا من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخسا، ولا يخاف في الآخرة نحسا، والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان، وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية اللّه النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية اللّه جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى: {لهم مغفرة وأجر عظيم}.

وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل اللّه عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية.

٤

{إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.

بيانا لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه،

وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب، فإن قلت كل أحد يقول يا اللّه مع أن اللّه أكبر، نقول النداء على قسمين

أحدهما: لتنبيه المنادى

وثانيهما: لإظهار حاجة المنادي

مثال الأول: قول القائل لرفيقه أو غلامه: يا فلان

ومثال الثاني: قول القائل في الندبة: يا أمير المؤمنين أو يا زيداه، ولقائل أن يقول: إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال، فكيف يناديه وهو ميت ؟

فنقول قولنا يا اللّه لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى، وإنما كان في النداء الأمران جميعا لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضا أو غافلا، فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب

وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار

الثاني: النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان

الثالث: قوله {الحجرات} إشارة إلى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت، بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة، وقوله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح، وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان، وهو أعلى مرتبة من غيره، وليس لمن دونه كلام، لكن النداء في المعنى كالتنبيه، وقد يحصل بصوت، يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر لكل أحد كالنداء، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات، والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي، فقال اللّه تعالى في حقهم {أكثرهم لا يعقلون} يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقرونا بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان، وقوله تعالى: {أكثرهم}

فيه وجهان

أحدهما: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، وإنما تأتي بالأكثر احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن اللّه تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن اللّه تعالى يقول: أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضائي بذلك

وثانيهما: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله الإنسان يكون جاهلا وفقيرا فيصير عالما وغنيا فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال، فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا.

إذا علم هذا فهم، في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة، مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى: {أكثرهم} إشارة إلى ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك إلهواء، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجا لمن ندم منهم عنهم.

٥

ثم قال تعالى: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم} إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء، وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك، فإن للنفس حقا وللأهل حقا، وقوله تعالى: {لكان خيرا لهم} يحتمل وجهين

أحدهما: أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى: {خير مستقرا} (الفرقان: ٢٤)،

وثانيهما: أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب، ولكن المحافظة على النبي صلى اللّه عليه وسلم وتعظيمه خير من ذلك، لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية، والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان

أما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيرا، أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيرا لهم، وذلك مناسب للحكاية، لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم، فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم، ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح.

ثم قال تعالى: {واللّه غفور رحيم} تحقيقا لأمرين

أحدهما: لسوء صنيعهم في التعجل، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه، بل لبيان عظيم جناية العبد

وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير، يغفر اللّه لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة لكثير من السيئات، كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم، أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي صلى اللّه عليه وسلم على الصفح،

وقوله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} كالعذر لهم، وقد ذكرنا أن اللّه تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة، كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله {وهو الرحيم الغفور} (سبأ: ٢) فحيث قال: غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عاريا محتاجا فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغمورا في السيئات فيغفر سيئاته، ثم يرحمه بعد المغفرة، فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة، وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها، ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها.

٦

{ياأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.

هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي

أما مع اللّه تعالى أو مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم أو مع غيرهم من أبناء الجنس، وهم على صنفين، لأنهم

أما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجا عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم

أما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام

أحدها: يتعلق بجانب اللّه

وثانيها: بجانب الرسول

وثالثها: بجانب الفساق

ورابعها: بالمؤمن الحاضر

وخامسها: بالمؤمن الغائب فذكرهم اللّه تعالى في هذه السورة خمس مرات {ذلك بأن الذين كفروا} وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة

فقال أولا: {عظيما ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى اللّه ورسوله} (الحجرات: ١) وذكر الرسول كان لبيان طاعة اللّه لأنها لا تعلم إلا بقول رسول اللّه،

وقال ثانيا: {عليم ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى} (الحجرات: ٢) لبيان وجوب احترم النبي صلى اللّه عليه وسلم

وقال ثالثا: {رحيم ياأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات: ٩)

وقال رابعا: {ترحمون ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم} (الحجرات: ١١)

وقال: {ولا تنابزوا} (الحجرات: ١١)

لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم،

وقال خامسا: {الظالمون ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: ١٢)

وقال: {ولا تجسسوا} (الحجرات: ١٢)

وقال: {ولا يغتب بعضكم بعضا} لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى، وهو في غاية الحسن من الترتيب،

فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء باللّه ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق؟

نقول: قدم اللّه ما هو إلهم على ما دونه، فذكر جانب اللّه، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور،

وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل، ألا ترى أن اللّه تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} وفي التفسير مسائل:

المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية، هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة، وهو أخو عثمان لأمه إلى بني المصطلق وليا ومصدقا فالتقوه، فظنهم مقاتلين، فرجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: إنهم امتنعوا ومنعوا، فهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالإيقاع بهم، فنزلت هذه الآية، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئا، وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت،

وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصرا عليه ومتعديا إلى غيره فلا بل نقول هو نزل عاما لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، ويدل على ضعف قول من يقول: إنها نزلت لكذا، أن اللّه تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا، والنبي صلى اللّه عليه وسلم لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ونحن نصدق ذلك، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمى فاسقا، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان لقوله تعالى: {إن اللّه لا يهدى القوم الفاسقين} (المنافقون: ٦)

وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} (الكهف: ٥٠)

وقوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} (السجدة: ٢٠) إلى غير ذلك.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن المؤمن كان موصوفا بأنه شديد على الكافر غليظ عليه، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ، فإن تمكن منه يكون نادرا، فقال: {أن جاءكم} بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع، إذ لا يحسن أن يقال: إن احمر البسر، وإن طلعت الشمس.

المسألة الثالثة: النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت، كما أنها تعم في

الإخبار إذا كانت في جانب النفي، وتخص في معرض الشرط إذ كانت في جانب النفي، كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت، فلنذكر بيانه بالمثال ودليله،

أما بيانه بالمثال فنقول: إذا قال قائل لعبده: إن كلمت رجلا فأنت حر، فيكون كأنه قال: لا أكلم رجلا حتى يعتق بتكلم كل رجل، وإذا قال: إن لم أكلم اليوم رجلا فأنت حر، يكون كأنه قال: لا أكلم اليوم رجلا حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل، كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد،

وأما الدليل فلأن النظر أولا إلى جانب الإثبات، ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف، فقول القائل: زيد قائم، وضع أولا ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد، وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول: زيد ليس بقائم، ولو كان الوضع والتركيب أولا للنفي، لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصارا أو اختصارا، وإذا كان كذلك فقول القائل: رأيت رجلا، يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد، فإذا قلت: ما رأيت رجلا، وهو وضع لمقابلة قوله: رأيت رجلا، وركب لتلك المقابلة، والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا، فقول القائل: ما رأيت رجلا، لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا: رأيت رجلا، وما رأيت رجلا، فلا يكونان متقابلين، فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني، ولزم منه العموم في جانب النفي، إذا علم هذا

فنقول: الشرطية وضعت أولا، ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية، وكان قول القائل: إذا لم تكن أنت حرا ما كلمت رجلا يرجع إلى معنى النفي، وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه: أي فاسق جاءكم بأي نبأ، فالتثبت فيه واجب.

المسألة الرابعة: متمسك أصحابنا في أن خبر الواحد حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل،

أما في المسألة الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقا، ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل، لما كان للترتيب على الفاسق فائدة، وهو من باب التمسك بالمفهوم.

وأما في الثانية فلوجهين:

أحدهما: أمر بالتبين، فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأمورا بالتبين، فلم يكن قول الفاسق مقبولا، ثم إن اللّه تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيف من باب الخبر

والثاني: هو أنه تعالى قال: {ءان * تصيببوا قوما بجهالة} والجهل فوق الخطأ، لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلا، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزا.

المسألة الخامسة: {ءان} ذكرنا فيها وجهين

أحدهما: مذهب الكوفيين، وهو أن المراد لئلا تصيبوا،

وثانيها: مذهب البصريين، وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا، ويحتمل أن يقال: المراد فتبينوا واتقوا، وقوله تعالى: {ءان * بعدها قوما} يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق: تظهر الفتن بين أقوام، ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه، والغيبة الصادرة من المؤمنين، لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش، وقوله {بجهالة} في تقدير حال، أي أن

تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة، وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة، كما في قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن اللّه} (النساء: ٧٩) لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء، لكن الظن السوء يذكر معه، كما في قوله تعالى: {وإن تصبهم سيئة} (النساء: ٧٨) ثم حقق ذلك بقوله {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} بيانا لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادما، وقوله {فتصبحوا} معناه تصيروا، قال النحاة: أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه

أحدها: بمعنى دخول الرجل في الصباح، كما يقول القائل: أصبحنا نقضي عليه

وثانيها: بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا، كما يقول: أصبح اليوم مريضنا خيرا مما كان، غير أنه تغير ضحوة النهار، ويريد كونه في الصبح على حاله، كأنه يقول: كان المريض وقت الصبح خيرا وتغير ضحوة النهار

وثالثها: بمعنى صار يقول القائل أصبح زيد غنيا ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت، والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى، ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد،

فنقول الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم، وقد تكون في آخر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متوسطة.

مثال الأول: قول القائل صار الطفل فاهما أي أخذ فيه وهو في الزيادة.

مثال الثاني: قول القائل صار الحق بينا واجبا أي انتهى حده وأخذ حقه.

مثال الثالث: قول القائل صار زيد عالما وقويا إذا لم يرد أخذه فيه، ولا بلوغه نهايته بل كونه متلبسا به متصفا به، إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذا في وصف ومبتدئا في أمر، وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغا في الوصف نهايته، وأصل أضحى التوسط لا يقال أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد، نقول إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله مضى واستعمل استعمالا شائعا فيما لا يشاركه، إذا علم هذا فنقول قوله تعالى: {فتصبحوا} أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه وكذلك في قوله تعالى: {فأصبحتم بنعمته إخوانا} أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون، وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة،

أما في الثواب أو في العقاب وكلاهما في الزيادة، ولا نهاية للأمور الإلهية وقوله تعالى: {نادمين} الندم هم دائم والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام، كما في قول القائل: أدمن في الشرب ومدمن أي أقام، ومنه المدينة.

وقوله تعالى: {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فيه فائدتان:

إحداهما: تقرير التحذير وتأكيده، ووجهه هو أنه تعالى لما قال: {ءان * تصيببوا قوما بجهالة} قال بعده وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول: هب أني أصبت قوما فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.

والثانية: مدح المؤمنين، أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها بل تصبحون نادمين عليها.

٧

{واعلموا أن فيكم رسول اللّه لو يطيعكم فى كثير من الامر لعنتم...}.

ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال،

أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثا طويلا، فقال قوله تعالى: {لو يطيعكم فى كثير من الامر لعنتم} ليس كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم، إذ لا تبقى مناسبة بين قوله {واعلموا} وبين قوله {لو يطيعكم} ثم وجه التعلق هو أن قوله {لو يطيعكم} في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله {فيكم} كان التقدير كائن فيكم، أو موجود فيكم، على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم، ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال، لأنه لو فعل ذلك {لعنتم} أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به.

ثم قال تعالى: {ولاكن اللّه حبب إليكم الايمان} خطابا مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله {لو يطيعكم} قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان، وقال أيضا بأن قوله تعالى: {لو يطيعكم} دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة، ودوام النبي صلى اللّه عليه وسلم على العمل باستصوابهم، ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها، وههنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولا بقوله {لو يطيعكم} هم الذين أرادوا أن يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم يعمل بمرادهم، والمخاطبين بقوله {حبب إليكم الايمان} هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي صلى اللّه عليه وسلم، هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن، والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن اللّه تعالى لما قال: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} (الحجرات: ٦) أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده: {واعلموا أن فيكم رسول اللّه} أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فإنه فيكم مبين مرشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة: هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه، وذلك لأن المراد منه أنه لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه،

أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح، ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد، فكذلك ههنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحدا فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف، والذي يدل على أن المراد من قوله {لو يطيعكم فى كثير من الامر لعنتم} بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢)

وقوله تعالى: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: ٨٢) فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير اللّه.

ثم قال تعالى: {ولاكن اللّه حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم} إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله {فتبينوا} وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد، بل اللّه بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف واللّه إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان، فكأنه تعالى قال: توقفوا فيما يكون مشكوكا فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله، وعلى قولنا المخاطب بقوله {حبب إليكم} هو المخاطب بقوله {لو يطيعكم} إذا علمت معنى الآية جملة، فاسمعه مفصلا ولنفصله في مسائل:

المسألة الأولى: لو قال قائل إذا كان المراد بقوله {واعلموا أن فيكم رسول اللّه} الرجوع إليه والاعتماد على قوله، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقا عليه، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده، فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ، وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي، بخلاف ما لو قال راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلا بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق، وبين الكلامين بون بعيد، فكذلك قوله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول اللّه} يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح.

المسألة الثانية: إذا كان المراد من قوله {لو يطيعكم} بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به؟ نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله (ليس فيهما آلهة) لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢) فكذلك ههنا لو قال لا يطيعكم، وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم، كما قال تعالى: {عزيز عليه ما عنتم} (التوبة: ١٢٨) فإن طاعتكم لا تفيده شيئا فلا يطيعكم، فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم.

المسألة الثالثة: قال {فى كثير من الامر} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى: {وشاورهم فى الامر}.

المسألة الرابعة: إذا كان المراد بقوله تعالى {حبب إليكم الايمان}، فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به؟

قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوما متفقا عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني.

المسألة الخامسة: ما المعنى في قوله {حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم} نقول قوله تعالى: {حبب إليكم} أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئا منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسنا، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول: {حبب إليكم} وقال ثانيا: {وزينه فى قلوبكم} كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.

المسألة السادسة: ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان؟

فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان

أحدها: قوله تعالى: {وكره إليكم الكفر} وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب

وثانيها: هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ} (الحجرات: ٦) سمي من كذب فاسقا فيكون الكذب فسوقا

ثالثها: ما ذكره بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الايمان} (الحجرات: ١١) فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم، وسنبين تفسيره إن شاء اللّه تعالى

ورابعها: وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل: فسقت الرطبة إذا خرجت، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا للّه تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك

أما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطىء أو متعمد،

وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب،

وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣).

ثم قال تعالى: {والفسوق} يعني ما يظهر لسانكم أيضا، ثم قال: {والعصيان} وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة، والعصيان هو الصغيرة، وما ذكرناه أقوى.

ثم قال تعالى: {أولئك هم الرشدون}. خطابا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيه معنى لطيف: وهو أن اللّه تعالى في أول الأمر قال: {واعلموا أن فيكم رسول اللّه} أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين، فقال في الأول كفى النبي مرشدا لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم، وعلى هذا قوله {الرشدون} أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.

٨

{فضلا من اللّه ونعمة واللّه عليم حكيم}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: نصب فضلا لأجل أمور،

أما لكونه مفعولا له، وفيه وجهان

أحدهما: أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله {الرشدون}

فإن قيل: كيف يجوز أن يكون فضل اللّه الذي هو فعل اللّه مفعولا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد؟

نقول لما كان الرشد توفيقا من اللّه كان كأنه فعل اللّه فكأنه تعالى أرشدهم فضلا، أي يكون متفضلا عليهم منعما في حقهم

والوجه الثاني: هو أن العامل فيه هو قوله {حبب إليكم الايمان وكره إليكم الكفر} (الحجرات: ٧) فضلا وقوله {أولئك هم الرشدون} (الحجرات: ٧) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلا مقدرا، فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلا من اللّه،

وأما لكونه مصدرا، وفيه وجهان

أحدهما: أن يكون مصدرا من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشدا

وثانيهما: هو أن يكون مصدرا لفعل مضمر، كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلا وأنعم نعمة، والقول بكونه منصوبا على أنه مفعول مطلق وهو المصدر، أو مفعول له قول الزمخشري،

وأما أن يكون فضلا مفعولا به، والفعل مضمرا دل عليه قوله تعالى: {أولئك هم الرشدون} أي يبتغون فضلا من اللّه ونعمة.

المسألة الثانية: ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية؟ نقول فضل اللّه إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه، لأن الفضل في الأصل ينبىء عن الزيادة، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه، والنعمة تنبىء عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء، وذلك لأن المحتاج يقول للغني: أعطني ما فضل عنك وعندك، وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي، فإذن قوله {فضلا من اللّه} إشارة إلى ما هو من جانب اللّه الغني، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة، وهذا مما يؤكد قولنا فضلا منصوب بفعل مضمر، وهو الابتغاء والطلب.

المسألة الثالثة: ختم الآية بقوله {واللّه عليم حكيم} فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق، قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور، فإن اللّه عليم، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا اللّه بما نقول، فإن اللّه حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته

وثانيها: لما قال اللّه تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول اللّه لو يطيعكم} (الحجرات: ٧) بمعنى لا يطيعكم، بل يتبع الوحي، قال فإن اللّه من كونه عليما يعلمه، ومن كونه حكيما يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه

ثالثها: المناسبة التي بين قوله تعالى: {عليم حكيم} وبين قوله {حبب إليكم الايمان} أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان، واختار له من يشاء بحكمته

رابعها: وهو الأقرب، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: {فضلا من اللّه ونعمة} ولما كان الفضل هو ما عند اللّه من الخير المستغني عنه، قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة.

٩

{وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ...}.

لما حذر اللّه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق، أشار إلى ما يلزم منه استدراكا لما يفوت، فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما {فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى} أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية، فالواجب على الأمير دفعهم، وإن كان هو الأمير، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: {وأن} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين،

فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وأن} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي، وكذلك {إن جاءكم فاسق بنبإ} (الحجرات: ٦) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلا، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولا من قول الصادق الصالح.

المسألة الثانية: قال تعالى: {وإن طائفتان} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، ولهذا قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} (التوبة: ١٢٢).

المسألة الثالثة: قال تعالى: {من المؤمنين} ولم يقل منكم، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى: {رحيم ياأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} (الحجرات: ٦) تنبيها على قبح ذلك وتبعيدا لهم عنهم، كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحدا من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعا للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك ههنا قال: {وإن طائفتان من المؤمنين} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.

المسألة الرابعة: قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة {ءان} اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {ءان} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما،

فإن قيل فلم لم يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم، أو إن أحد من الفساق جاءكم، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه، وهو كونه فاسقا؟

نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقا، أو يزداد بسببه فسقه، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه.

وأما الاقتتال فلا يقع سببا للإيمان أو الزيادة، فقال: {إن جاءكم فاسق} أي سواء كان فاسقا أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقا به، ولو قال: وإن أحد من الفساق جاءكم، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ.

المسألة الخامسة: قال تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل: يقتتلوا، لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم.

المسألة السادسة: قال: {اقتتلوا} ولم يقل اقتتلا، وقال: {فأصلحوا بينهما} ولم يقل بينهم، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وكل أحد برأسه يكون فاعلا فعلا، فقال: {اقتتلوا} وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال: {بينهما} لكون الطائفتين حينئذ كنفسين.

ثم قال تعالى: {فإن بغت * أحدهما} إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع،

فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة {ءان} مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسنا، فقوله {ءان} تكون من قبيل قول القائل: إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن اللّه تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال: {فإن بغت إحداهما على الاخرى} يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله {فإن بغت } في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع،

وفيه أيضا مباحث

الأول: قال: {فإن بغت} ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل يقتتلوا

الثاني: قال: {حتى تفىء} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم

الثالث: هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال

الرابع: هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمنا لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس: قوله تعالى: {إلى أمر اللّه} يحتمل وجوها

أحدها: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم} (النساء: ٥٩).

وثانيها: إلى أمر اللّه، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}،

ثالثها: إلى أمر اللّه بالتقوى، فإن من خاف اللّه حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} (فاطر: ٦)،

السادس: لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال: {فإن فاءت}؟

نقول قول القائل لعبده: إن مت فأنت حر، مع أن الموت لا بد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى: {فإن فاءت} بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف اللّه وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرا

السابع: قال ههنا: {فأصلحوا بينهما بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا} نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل} فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن: إذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل} فأية فائدة في قوله {وأقسطوا} نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله {وأقسطوا} أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة اللّه، والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضا غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط.

١٠

ثم قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} تتميما للإرشاد وذلك لأنه لما قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات: ٩) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال،

وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال: {بين أخويكم} وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح.

وقوله {واتقوا اللّه لعلكم ترحمون}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فاللّه تعالى قال: {إنما المؤمنون إخوة} تأكيدا للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب، قال قائلهم:

( أبي الإسلام لا أب (لي) سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم )

المسألة الثانية: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال ههنا اتقوا مع أن ذلك أهم؟ نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى،

وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال: {فأصلحوا بين أخويكم واتقوا اللّه} أو نقول قوله {فأصلحوا} إشارة إلى الصلح، وقوله {واتقوا اللّه} إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى اللّه شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، ولهذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "المسلم من سلم الناس من لسانه و (يده)" لأن المسلم يكون منقادا لأمر اللّه مقبلا على عباد اللّه فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن، وإليه أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم : "المؤمن من يأمن جاره بوائقه" يعني اتق اللّه فلا تتفرغ لغيره.

المسألة الثالثة: {إنما} للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين،

وأما بين المؤمن والكافر فلا، لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر،

وأما الكافر فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعا، حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر، فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة، ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار، كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث،

فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية، بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب، فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقا حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب؟

نقول هذا سؤال فاسد، وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخا من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قال النحاة (ما) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنما المؤمنين إخوة، وفي قوله تعالى: {فبما رحمة من اللّه} (آل عمران: ١٥٩) وقوله {عما قليل} (المؤمنون: ٤) ليست كافة.

والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك، وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة، والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاما، ويمكن جعله مستقلا ولو حذف ربما وإنما لم ضر،

فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار، ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح، وكذلك في إنما ولكيما،

وأما عما وبما فليست كذلك، لأن قوله تعالى: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} لو أذهبت بما وقلت رحمة من اللّه لنت لهم، لما كان كلاما فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة، ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم،

فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام، فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيدا قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم؟

نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة، تقول إن رجلا جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه، وتقول جاءني رجل وأخبرني، ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما، وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاما فلم يكف، والكلام في لعل قد تقدم مرارا.

١١

{ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم ...}.

وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللّه تعالى ومع النبي صلى اللّه عليه وسلم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، وقد ذكرنا أن المؤمن

أما أن يكون حاضرا

وأما أن يكون غائبا، فإن كان حاضرا فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم، وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز، فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر، وأقل من أن يلتفت إليه، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم

الثاني: هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول، لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه

الثالث: هو النبز وهو دون الثاني، لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفا ثابتا فيه يوجب بغضه وحط منزلته،

وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجودا فإن من يسمى سعدا وسعيدا قد لا يكون كذلك، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة، وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنما كان ذلك سمة ونسبة، ولا يكون اللفظ مرادا إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك، فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد اللّه أنت عبد اللّه فلا تعبد غيره، وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة، فقال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلا وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو (هم) طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم، وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة وذكر في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله {لا يسخر قوم من قوم} القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم، والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة:

وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال، لأن المرأة في نفسها ضعيفة، فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه"

وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها (إليه)،

وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر.

المسألة الثانية: قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر {عسى أن يكونوا خيرا منهم} كسرا له وبغضا لنكره،

وقال في المرتبة الثانية {لا * تلمزوا أنفسكم} جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم اللّه درجة

وفي الأول جعل المسخور منه خيرا

وفي الثاني جعل المسخور منه مثلا، وفي قوله {عسى أن يكونوا خيرا منهم} حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى إلهمال وجعل نفسه خيرا منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال: {أنا خير منه} (الأعراف: ١٢) فصار هو خيرا، ويمكن أن يقال المراد من قوله {أن يكونوا} يصيروا فإن من استحقر إنسانا لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير، ويضعف هو ويقوى الضعيف.

المسألة الثالثة: قال تعالى: {قوم من قوم} ولم يقل نفس من نفس، وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعا، فذكرهم بلفظ القوم منعا لهم عما يفعلونه.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم}

فيه وجهان

أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفسا فكأنما عاب نفسه

وثانيهما: هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملا للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: ٢٩) أي إنكم إذا قتلتم نفسا قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجها آخر ثالثا وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه، وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}.

المسألة الخامسة: إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته، لكن قوله تعالى: {ولا تلمزوا} قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان، نقول ليس كذلك بل العكس أولى، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس، لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم،

والأول: يدل على القرب،

والثاني: على البعد،

فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد قيل بمعنى واحد.

المسألة السادسة: قال تعالى: {ولا تنابزوا} ولم يقل لا تنبزوا، وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيبا يلمزه به، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب،

وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز.

وقوله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الايمان}. قيل فيه إن المراد {بئس} أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر، ويحتمل وجها أحسن من هذا: وهو أن يقال هذا تمام للزجر، كأنه تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى: {الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} (الأنعام: ٨٢) ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.

قال تعالى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}

وهذا يحتمل وجهين

أحدهما: أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالما فاسقا وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم

وثانيهما: أن يقال قوله تعالى: {لا يسخر قوم} {ولا تلمزوا} {ولا تنابزوا} منع لهم عن ذلك في المستقبل، وقوله تعالى: {ومن لم يتب} أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديدا في الزجر، والأصل في قوله تعالى: {ولا تنابزوا} لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال: {سواء عليهم} (البقرة: ٦) والحذف ههنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة، ولهذا وجب الإدغام في قولنا: مد، ولم يجب في قولنا امدد، و (في) قولنا: مر، (دون) قوله: أمر ربنا.

١٢

{ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن...}.

لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيبا فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا، وقوله {خيرا كثيرا} إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ظنوا بالمؤمن خيرا" وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين، فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله {اجتنبوا كثيرا} وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.

ثم قال تعالى: {ولا تجسسوا} إتماما لما سبق لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كثيرا من الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلانا يعني أعلمه يقينا وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى: ولا تتبعوا الظن، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس.

ثم قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان

أحدها: في قوله تعالى: {بعضكم بعضا} فإنه للعموم في الحقيقة كقوله {لا * تلمزوا أنفسكم} (الحجرات: ١١)

وأما من اغتاب فالمغتاب أولا يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه، والعيب حامل على العيب

ثانيها: لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلا بقوله تعالى: لا تغتابوا، مع الاقتصار عليه نقول لا، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال: {بعضكم بعضا}

وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة

ثالثها: قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: ١٠) فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر

رابعها: ما الحكمة في هذا التشبيه؟ نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم،

وقوله {لحم أخيه} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو، فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك، فأكل لحمه أقبح ما يكون، وقوله تعالى: {ميتا} إشارة إلى دفع وهم، وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم،

وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضا لا يؤلم، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم

كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى: وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، وقوله تعالى: {ميتا} حال عن اللحم أو عن الأخ،

فإن قيل اللحم لا يكون ميتا،

قلنا بلى قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ما أبين من حي فهو ميت" فسمى الغلفة ميتا،

فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال، كما يقول القائل: مررت بأخي زيد قائما، ويريد كون زيدا قائما،

قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل، فصار الأخ مأكولا مفعولا، بخلاف المرور بأخي زيد، فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثما أي وهو آثم، أي صاحب الوجه، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته، ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثما، فتجعل الآثم حالا من غيرك، وقوله تعالى: {فكرهتموه}

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: العائد إليه الضمير يحتمل وجوها

الأول: وهو الظاهر أن يكون هو الأكل، لأن قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل} معناه أيحب أحدكم الأكل، لأن أن مع الفعل تكون للمصدر، يعني فكرهتم الأكل

الثاني: أن يكون هو اللحم، أي فكرهتم اللحم

الثالث: أن يكون هو الميت في قوله {ميتا} وتقديره: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا متغيرا فكرهتموه، فكأنه صفة لقوله {ميتا} ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادرا، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلا، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.

المسألة الثانية: الفاء في قوله تعالى: {فكرهتموه} تقتضي وجود تعلق، فما ذلك؟ نقول فيه وجوه

أحدها: أن يكون ذلك تقدير جواب كلام، كأنه تعالى لما قال: {أيحب} قيل في جوابه ذلك

وثانيها: أن يكون الاستفهام في قوله {أيحب} للانكار كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا ولا يحتاج إلى إضمار

وثالثها: أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب، وترتبه عليه كما تقول: جاء فلان ماشيا فتعب، لأن المشي يورث التعب، فكذا قوله {ميتا} لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت، فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذا كراهة شديدة، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة.

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه إن اللّه تواب رحيم} عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي، أي اجتنبوا واتقوا، وفي الآية لطائف: منها أن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها، هو أنه تعالى قال: {اجتنبوا كثيرا} أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن، ثم إذا سئلتم على المظنونات، فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها،

ثم إن علمتم منها شيئا من غير تجسس، فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا، ففي الأول نهى عما لم أن يعلم، ثم نهى عن طلب ذلك العلم، ثم نهى عن ذكر ما علم، ومنها أن اللّه تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمرا على خلاف ما تعلمونه، ولا قال اجتنبوا الشك، بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن، وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء، والقول بالشك، والرجم بالغيب سفه وهزء، وهما في غاية القبح، فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى: {ذلك بأن الذين كفروا} لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر.

وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين، وذلك قال في الآية {لا يسخر} ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة

فقال في الأولى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات: ١١) وقال في الأخرى {إن اللّه تواب} (الحجرات: ١٢) لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله {لا يسخر قوم من قوم} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي، وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله {اجتنبوا} ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر. ثم قال تعالى:

١٣

{ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ...}.

تبيينا لما تقدم وتقريرا له، وذلك لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان، فهو جائز لما بينا أن قوله {لا * يغتب بعضكم بعضا} (الحجرات: ١٢)

وقوله {ولا تلمزوا أنفسكم} (الحجرات: ١١) منع من عيب المؤمن وغيبته، وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز، لأن الناس بعمومهم كفارا كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر، والافتخار إن كان بسبب الغنى، فالكافر قد يكون غنيا، والمؤمن فقيرا وبالعكس، وإن كان بسبب النسب، فالكافر قد يكون نسيبا، والمؤمن قد يكون عبدا أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون، وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى، فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه، وإن كان أرفع نسبا أو أكثر نشبا، فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ، وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره،

وقوله تعالى: { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}

فيه وجهان

أحدهما: من آدم وحواء

ثانيهما: كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم،

فإن قلنا إن المراد هو الأول، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد، وامرأة واحدة،

وإن قلنا إن المراد هو الثاني، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام، بل أضل، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى، فلا يبقى لذلك عند هذ اعتبار، وفيه مباحث:

البحث الأول: فإن قيل هذا مبني على عدم اعتبار النسب، وليس كذلك فإن للنسب اعتبارا عرفا وشرعا، حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنبطي،

فنقول إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبرا، وذلك في الحس والشرع والعرف، أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي،

وأما في العرف، فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه التفات، إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك، إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى الأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما صالحا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب، ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين، وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند اللّه لأن اللّه تعالى يقول {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: ٣٩) وشرف النسب ليس مكتسبا ولا يحصل بسعي.

البحث الثاني: ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال؟

نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به، والحسن والسن، وغير ذلك غير ثابت دائم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره اللّه للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى.

البحث الثالث: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى: {إنا خلقناكم} فائدة؟

نقول نعم، وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه، ويترتب عليه بعد وجوده،

وأما أن يترجح عليه بأمر هو قبله، والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة، ويقال هذا عمل فلان، وهذا عمل فلان، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم اللّه، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل}

وفيه وجهان:

أحدهما: {جعلناكم * شعوبا} متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل

وثانيهما: {جعلناكم * شعوبا} داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفضائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة، ثم بين فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان:

أحدهما: أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر

وثانيهما: أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى: قال تعالى: {إنا خلقناكم} وقال: {وجعلناكم} لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل {شعوبا} فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوبا للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع،

فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوبا يتحقق بعد ما يتحقق الخلق، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية: قوله تعالى: {خلقناكم * وجعلناكم} إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه؟

فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} (الإنسان: ٣) {نهدى به من نشاء} (الشورى: ٥٢)

فنقول أثبت اللّه لنا فيه كسبا مبنيا على فعل، كم قال اللّه تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}.

ثم قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه}

وأما في النسب فلا الثالثة: قوله تعالى: {لتعارفوا} إشارة إلى قياس خفي، وبيانه هو أنه تعالى قال: إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة: فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفا صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفا لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد؟ اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإن أحدا لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى اللّه عليه وسلم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب، فقال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".

وقال: "العلماء ورثة الأنبياء" أي لا نورث بالانتساب، وإنما نورث بالاكتساب، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول اللّه، أذل وتجلا وأذم وتكرما وأهان وتعانا فهم الناس بضربه فقال الشيخ: لا هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود لحده، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيكا

ثم قال تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم}

وفيه وجهان:

أحدهما: أن المراد من يكون أتقى يكون عند اللّه أكرم أي التقوى تفيد الإكرام

ثانيهما: أن المراد أن من يكون أكرم عند اللّه يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال: المخلصون على خطر عظيم، والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانيا ينبغي أن يكون محمولا على المذكور أولا في الظاهر فيقال الإكرام للتقي، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول، يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة،

فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" نقول التقوى ثمرة العلم قال اللّه تعالى: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨) فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم،

وأما العابد الذي يفضل اللّه عليه الفقيه فهو الذي لا علم له، وحينئذ لا يكون عنده من خشية اللّه نصاب كامل، ولعله يعبده مخافة الإلقاء في النار، فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته، والمتقي هو العالم باللّه، المواظب لبابه، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت.

وفيه مباحث:

البحث الأول: الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة للكافر، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام.

نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} (الإسراء: ٧٠) لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة

الثاني: ما حد التقوى ومن الأتقى؟ تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة ومتى ارتكب منهيا وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق،

أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير اللّه، فينور اللّه قلبه، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه، وللأولين النجاة لقوله تعالى: {ثم ننجى الذين اتقوا} (مريم: ٧٢) وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} فبين من أعطاه السلطان بستانا وأسكنه فيه، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعا بون عظيم.

ثم قال تعالى: {إن اللّه عليم خبير} أي عليم بظواهركم، يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم.

١٤

{قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ...}.

لما قال تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} (الحجرات: ١٣) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى، وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك، قالت الأعراب لنا النسب الشريف، وإنما يكون لنا الشرف، قال اللّه تعالى: ليس الإيمان بالقول، إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور، {ولاكن قولوا أسلمنا} أي انقدنا واستسلمنا، قيل إن الآية نزلت في بني أسد، أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئنا بالإيمان، وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم، لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك، لأن التقوى من عمل القلب، وقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا}

في تفسيره مسائل:

المسألة الأولى: قال تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} (النساء: ٩٤) وقال ههنا {قل لم تؤمنوا} مع أنهم ألقوا إليهم السلام،

نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب، وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلا هو مرائي، ولا لمن أسلم هو منافق، ولكن اللّه خبير بما في الصدور، إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم، وقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا} فهو الذي جوز لنا ذلك القول، وكان معجزة للنبي صلى اللّه عليه وسلم حيث أطلعه اللّه على الغيب وضمير قلوبهم، فقال لنا: أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا لعدم علمكم بما في قلبه.

المسألة الثانية: لم ولما حرفا نفي، وما وإن ولا كذلك من حروف النفي، ولم ولما يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم، فما الفرق بينهما؟

نقول لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي، تقول لم يؤمن أمس وآمن اليوم، ولا تقول لا يؤمن أمس، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما،

فإن قيل مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل، ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟

نقول لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية، فإن من قال قام حصل القطع بقيامه، ولا يجوز أن يكون ما قام والأفعال المستقبلة

أما متوقعة الحصول

وأما ممكنة غير متوقعة، ولا يحصل القطع والجزم فيه، فإذا كان لم ولما يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى فجعل لهما تناسبا بالمعنى وهو الجزم لفظا، وعلى هذا نقول السبب في الجزم ما ذكرنا، وهذا في الأمر يجزم كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه، فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغير، وذلك لأن إن تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي، تقول: إن جئتني جئتك، وإن أكرمتني أكرمتك، فلما كان إن مثل لم في كونه حرفا، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييره معنى الفعل صار جازما لشبه لفظي،

أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى، فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط، فالجزم إذا

أما لمعنى أو لشبه لفظي، كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {ولاكن قولوا} يقتضي قولا سابقا مخالفا لما بعده كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم {من} فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال: {لم تؤمنوا} فإن كنتم تقولون شيئا فقولوا أمرا عاما، لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم {أسلمنا} فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل.

المسألة الرابعة: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا؟

نقول بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان، والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره، مثاله الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمرا ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، فكذلك المؤمن والمسلم، وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} (الذاريات: ٣٦٣) إن شاء اللّه تعالى.

المسألة الخامسة: قوله تعالى: {ولما يدخل الايمان فى قلوبكم} هل فيه معنى قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا}؟

نقول نعم وبيانه من وجوه

الأول: هو أنهم لما قالوا آمنا

وقيل لهم {لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا} قالوا إذا أسلمنا فقد آمنا، قيل لا فإن الإيمان من عمل القلب لا غير والإسلام قد يكون عمل اللسان، وإذا كان ذلك عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا

الثاني: لما قالوا آمنا

وقيل لهم لم تؤمنوا قالوا جدلا قد آمنا عن صدق نية مؤكدين لما أخبروا فقال: {ولما يدخل الايمان فى قلوبكم} لأن لما يفعل يقال في مقابلة قد فعل، ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم بعده ضعيفا قال لهم {لم تؤمنوا} لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام {وإن تطيعوا اللّه ورسوله} يكمل لكم الأجر، والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار، والإيمان

أما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل،

وأما أن يكون إلهاما يقع في قلب المؤمن فقوله {قل لم تؤمنوا} أي ما فعلتم ذلك، وقوله تعالى: {ولما يدخل الايمان فى قلوبكم} أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهاما من غير فعلكم فلا إيمان لكم حينئذ.

ثم إنه تعالى عند فعلهم قال: {لم تؤمنوا} بحرف ليس فيه معنى الانتظار لقصور نظرهم وفتور فكرهم، وعند فعل الإيمان قال لما يدخل بحرف فيه معنى التوقع لظهور قوة الإيمان، كأنه يكاد يغشي القلوب بأسرها.

ثم إنه تعالى قال: {وإن تطيعوا اللّه ورسوله لا يلتكم} أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء، وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهما، وأعطاه الملك درهما أو دينارا ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل، فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص، بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص. وفيه تحريض على الإيمان الصادق، لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجرا فقال:

وإن تطيعوا وتصدقوا لا ينقص عليكم، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، وفيه أيضا تسلية لقلوب من تأخر إيمانه، كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيدا وآواه حين كان ضعيفا ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته، فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر، فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون، غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم، وماذا عليكم إذا أرضاكم اللّه أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة، وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحدا شيئا وقال لغيره ماذا تتمنى؟ فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالا فأعطاه ووفاه،

ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه فإن تأذى من ذلك يكون بخلا وحسدا، وذلك في الآخرة لا يكون، وفي الدنيا هو من صفة الأرازل، وقوله تعالى: {إن اللّه غفور رحيم} أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به. ثم قال تعالى:

١٥

{إنما المؤمنون الذين ءامنوا باللّه ورسوله...}.

إرشادا للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان فقال إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان، وثم للتراخي في الحكاية، كأنه يقول آمنوا، ثم أقول شيئا آخر لم يرتابوا، ويحتمل أن يقال هو للتراخي في الفعل تقديره آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من الحشر والنشر، وقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} يحقق ذلك، أي أيقنوا أن بعد هذه الدار دارا فجاهدوا طالبين العقبى، وقوله {أولئك هم الصادقون} في إيمانهم، لا الأعراب الذين قالوا قولا ولم يخلصوا عملا.

١٦

{قل أتعلمون اللّه بدينكم واللّه يعلم ما فى السماوات...}.

فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون للّه وأنتم أظهرتموه لنا لا للّه، فلا يقبل منكم ذلك.

١٧

{يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم ...}.

يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لمن يكن للّه،

و فيه لطائف الأولى: في قوله تعالى: {يمنون عليك} زيادة بيان لقبيح فعلهم، وذلك لأن الإيمان له شرفان

أحدهما: بالنسبة إلى اللّه تعالى وهو تنزيه اللّه عن الشرك وتوحيده في العظمة،

وثانيهما: بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب اللّه ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا.

اللطيفة الثانية: قال: {قل لا تمنوا على إسلامكم} أي الذي عندكم إسلام، ولهذا قال تعالى: {ولاكن قولوا أسلمنا} ولم يقل: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقا لهم في الإسلام أيضا كما لم يصدقوا في الإيمان،

فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم، والإسلام هو الانقياد، وقد وجد منهم قولا وفعلا وإن لم يوجد اعتقادا وعلما وذلك القدر كاف في صدقهم؟

نقول التكذيب يقع على وجهين

أحدهما: أن لا يوجد نفس المخبر عنه

وثانيهما: أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة، فاللّه تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول، أي ما آمنتم أصلا ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.

اللطيفة الثالثة: قال: {بل اللّه يمن عليكم} يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأسا برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة، بل المنة عليكم، وقوله تعالى: {بل اللّه يمن عليكم} حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم، ثم في مقابلة هذا الأدب قال اللّه تعالى: {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} (الشورى: ٥٢).

اللطيفة الرابعة: لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال: {أن هداكم للايمان} لأن إسلامهم كان ضلالا حيث كان نفاقا فما من به عليهم،

فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بين أنهم لم يؤمنوا؟

نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه

أحدها: أنه تعالى لم يقل: بل اللّه يمن عليكم أن رزقكم الإيمان، بل قال: {أن هداكم للايمان} وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية

ثانيها: هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا، فكأنه قال أنتم قلتم آمنا، فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار، فقال هداكم في زعمكم

ثالثها: وهو الأصح، هو أن اللّه تعالى بين بعد ذلك شرطا فقال: {إن كنتم صادقين}.

١٨

{إن اللّه يعلم غيب السماوات والارض واللّه بصير بما تعملون}.

إشارة إلى أنه لا يخفى عليه أسراركم، وأعمال قلوبكم الخفية، وقال: {بصير بما تعملون} يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة، وآخر السورة مع التئامه بما قبله فيه تقرير ما في أول السورة، وهو قوله تعالى: {لا تقدموا بين يدى اللّه ورسوله واتقوا اللّه} (الحجرات: ١) فإنه لا يخفى عليه سر، فلا تتركوا خوفه في السر ولا يخفى عليه علن فلا تأمنوه في العلانية، والحمد للّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

﴿ ٠