ÓõæÑóÉõ ÇáúæóÇÞöÚóÉö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ÓöÊøñ æóÊöÓúÚõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة الواقعة

وهي ست وتسعون آية مكية

_________________________________

١

{إذا وقعت الواقعة}.

أما تعلق هذه السورة بما قبلها، فذلك من وجوه

أحدها: أن تلك السورة مشتملة على تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه عن التكذيب كما مر، وهذه السورة مشتملة على ذكر الجزاء بالخير لمن شكر وبالشر لمن كذب وكفر

ثانيها: أن تلك السورة متضمنة للتنبيهات بذكر الآلاء في حق العباد، وهذه السورة كذلك لذكر الجزاء في حقهم يوم التناد

ثالثها: أن تلك السورة سورة إظهار الرحمة وهذه السورة سورة إظهار الهيبة على عكس تلك السورة مع ما قبلها،

وأما تعلق الأول بالآخر ففي آخر تلك السورة إشارة إلى الصفات من باب النفي والإثبات، وفي أول هذه السورة إلى القيامة وإلى ما فيها من المثوبات والعقوبات، وكل واحد منهما يدل على علو اسمه وعظمة شأنه، وكمال قدرته وعز سلطانه.

ثم في الآية مسائل:

المسألة الأولى: ففي تفسيرها جملة وجوه

أحدها: المراد إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد، ولا يتمكن أحد من إنكارها، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار، وترفع المؤمنين في درجات الجنة، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم

الثاني: {وقعت الواقعة} تزلزل الناس، فتخفض المرتفع، وترفع المنخفض، وعلى هذا فهي كقوله تعالى: {فجعلنا عاليها سافلها} (الحجر: ٧٤) في الإشارة إلى شدة الواقعة، لأن العذاب الذي جعل العالي سافلا بالهدم، والسافل عاليا حتى صارت الأرض المنخفضة كالجبال الراسية، والجبال الراسية كالأرض المنخفضة أشد وأبلغ، فصارت البروج العالية مع الأرض متساوية، والواقعة التي تقع ترفع المنخفضة فتجعل من الأرض أجزاء عالية ومن السماء أجزاء سافلة، ويدل عليه قوله تعالى: {إذا رجت الارض رجا * وبست الجبال بسا} (الواقعة: ٤، ٥) فإنه إشارة إلى أن الأرض تتحرك بحركة مزعجة، والجبال تتفتت، فتصير الأرض المنخفضة كالجبال الراسية، والجبال الشامخة كالأرض السافلة، كما يفعل هبوب الريح في الأرض المرملة

الثالث: {إذا وقعت الواقعة} يظهر وقوعها لكل أحد، وكيفية وقوعها، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله: {خافضة رافعة} معطوف على {كاذبة} نسقا، فيكون كما يقول القائل: ليس لي في الأمر شك ولا خطأ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع.

المسألة الثانية: {إذا وقعت الواقعة} يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئا غير معين، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله، كما يقال: كانت الكائنة والمراد كان الأمر كائنا ما كان،

وقولنا: الأمر كائن لا يفيد إلا حدوث أمر ولو كان يسيرا بالنسبة إلى

قوله: كانت الكائنة، إذ في الكائنة وصف زائد على نفس كونه شيئا، ولنبين هذا ببيان كون الهاء للمبالغة في قولهم: فلان راوية ونسابة، وهو أنهم إذا أرادوا أن يأتوا بالمبالغة في كونه راويا كان لهم أن يأتوا بوصف بعد الخبر ويقولون: فلان راو جيد أو حسن أو فاضل، فعدلوا عن التطويل إلى الإيجاز مع زيادة فائدة، فقالوا: نأتي بحرف نيابة عن كلمة كما أتينا بهاء التأنيث حيث

قلنا: ظالمة بدل قول القائل: ظالم أنثى، ولهذا لزمهم بيان الأنثى عند مالا يمكن بيانها بالهاء في قولهم شاة أنثى وكالكتابة في الجمع حيث

قلنا: قالوا بدلا عن قول القائل: قال وقال وقال، وقالا بدلا عن قوله: قال وقال فكذلك في المبالغة أرادوا أن يأتوا بحرف يغني عن كلمة والحرف الدال على الزيادة ينبغي أن يكون في الآخر لأن الزيادة بعد أصل الشيء، فوضعوا الهاء عند عدم كونها للتأنيث والتوحيد في اللفظ المفرد لا في الجمع للمبالغة إذا ثبت هذا

فنقول: في كانت الكائنة ووقعت الواقعة حصل هذا معنى لا لفظا،

أما معنى فلأنهم قصدوا بقولهم: كانت الكائنة أن الكائن زائد على أصل ما يكون،

وأما لفظا فلأن الهاء لو كانت للمبالغة لما جاز إثبات ضمير المؤنث في الفعل، بل كان ينبغي أن يقولوا: كان الكائنة ووقع الواقعة، ولا يمكن ذلك لأنا نقول: المراد به المبالغة.

المسألة الثالثة: العامل في {إذا} ماذا؟

نقول: فيه ثلاث أوجه

أحدها: فعل متقدم يجعل إذا مفعولا به لا ظرفا وهو اذكر، كأنه قال: اذكر القيامة

ثانيها: العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول: يوم الجمعة ليس لي شغل

ثالثها: يخفض قوم ويرفع قوم، وقد دل عليه {خافضة رافعة}،

وقيل: العامل فيها قوله: {وأصحاب * الميمنة ما أصحاب الميمنة} (الواقعة: ٨) أي في يوم وقوع الواقعة.

٢

المسألة الرابعة: {ليس لوقعتها} إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة،  وقوله: {كاذبة}

يحتمل وجوها

أحدها: كاذبة صفة لمحذوف أقيمت مقامه تقديره ليس لها نفس تكذب

ثانيها: الهاء للمبالغة كما تقول في الواقعة وقد تقدم بيانه

ثالثها: هي مصدر كالعاقبة فإن قلنا بالوجه الأول فاللام تحتمل وجهين

أحدهما: أن تكون للتعليل أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها كما يقال: لا كاذب عند الملك لضبطه الأمور فيكون نفيا عاما بمعنى أن كل أحد يصدقه فيما يقول وقال: وقبله نفوس كواذب في أمور كثيرة ولا كاذب فيقول: لا قيامة لشدة وقعتها وظهور الأمر وكما يقال: لا يحتمل الأمر الإنكار لظهوره لكل أحد فيكون نفيا خاصا بمعنى لا يكذب أحد فيقول: لا قيامة وقبله نفوس قائلة به كاذبة فيه

ثانيهما: أن تكون للتعدية وذلك كما يقال: ليس لزيد ضارب، وحينئذ تقديره إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب إن أخبر عنها فهي خافضة رافعة تخفض قوما وترفع قوما وعلى هذا لا تكون عاملا في {إذا} وهو بمعنى ليس لها كاذب يقول: هي أمر سهل يطاق يقال لمن يقدم على أمر عظيم ظانا أنه يطيقه سل نفسك أي سهلت الأمرعليك وليس بسهل،

وإن قلنا بالوجه الثاني وهو المبالغة

ففيه وجهان

أحدهما: ليس لها كاذب عظيم بمعنى أن من يكذب ويقدم على الكذب العظيم لا يمكنه أن يكذب لهول ذلك اليوم

وثانيهما: أن أحدا لو كذب وقال في ذلك اليوم لا قيامة ولا واقعة لكان كاذبا عظيما ولا كاذب لهذه العظمة في ذلك اليوم والأول أدل على هول اليوم، وعلى الوجه الثالث يعود ما ذكرنا إلى أنه لا كاذب في ذلك اليوم بل كل أحد يصدقه.

٣

المسألة الخامسة: {خافضة رافعة} تقديره هي خافضة رافعة وقد سبق ذكره في التفسير الجملي

وفيه وجوه أخرى

أحدها: خافضة رافعة صفتان للنفس الكاذبة أي ليس لوقعتها من يكذب ولا من يغير الكلام فتخفض أمرا وترفع آخر فهي خافضة أو يكون هو زيادة لبيان صدق الخلق في ذلك اليوم وعدم إمكان كذبهم والكاذب يغير الكلام،

ثم إذا أراد نفي الكذب عن نفسه يقول ما عرفت مما كان كلمة واحدة وربما يقول ما عرفت حرفا واحدا، وهذا لأن الكاذب قد يكذب في حقيقة الأمر وربما يكذب في صفة صفاته والصفة قد يكون ملتفتا إليها وقد لا يكون ملتفتا إليها التفاتا معتبرا وقد لا يكون ملتفتا إليها أصلا

مثال الأول: قول القائل: ما جاء زيد ويكون قد جاء

ومثال الثاني: ما جاء يوم الجمعة

ومثال الثالث: ما جاء بكرة يوم الجمعة ويكون قد جاء بكرة يوم الجمعة وما جاء أول بكرة يوم الجمعة والثاني دون الأول وثالثها دون الكلف

إذا قال القائل: ما أعرف كلمة كاذبة نفى عنه الكذب في الإخبار وفي صفته والذي يقول: ما عرفت حرفا واحدا نفى أمرا وراءه، والذي يقول: ما عرفت أعرافة واحدة يكون فوق ذلك فقوله: {ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة} أي من يغير تغييرا ولو كان يسيرا.

 ٤

انظر تفسير الآية:٦

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

بم ثم قال تعالى: {إذا رجت الارض رجا}. أي كانت الأرض كثيبا مرتفعا والجبال مهيلا منبسطا، وقوله تعالى: {فكانت هباء منبثا} كقوله تعالى في وصف الجبال: {كالعهن المنفوش} (القارعة: ٥) وقد تقدم بيان فائدة ذكر المصدر وهي أنه يفيد أن الفعل كان قولا معتبرا ولم يكن شيئا لا يلتفت إليه، ويقال فيه: إنه ليس بشيء فإذا قال القائل: ضربته ضربا معتبرا لا يقول القائل فيه: ليس بضرب محتقرا له كما يقال: هذا ليس بشيء، والعامل في: {إذا رجت}

يحتمل وجوها

أحدها: أن يكون إذا رجت بدلا عن إذا وقعت فيكون العامل فيها ما ذكرنا من قبل

ثانيها: أن يكون العامل في: {إذا وقعت} (الواقعة: ١) هو قوله: {ليس لوقعتها} (الواقعة: ٢) والعامل في: {إذا رجت} هو قوله: {خافضة رافعة} (الواقعة: ٣) تقديره تخفض الواقعة وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال والفاء للترتيب الزماني لأن الأرض مالم تتحرك والجبال مالم تنبس لا تكون هباء منبثا، والبس التقليب، والهباء هو الهواء المختلط بأجزاء أرضية تظهر في خيال الشمس إذا وقع شعاعها في كوة،

وقال: الذين يقولون: إن بين الحروف والمعاني مناسبة إن الهواء إذا خالطه أجزاء ثقيلة أرضية ثقل من لفظه حرف فأبدلت الواو الخفيفة بالباء التي لا ينطق بها إلا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما.

٧

انظر تفسير الآية:٨

٨

{وكنتم أزواجا ثلاثة}. أي في ذلك اليوم أنتم أزواج ثلاثة أصناف وفسرها بعدها بقوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الفاء تدل على التفسير، وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال:

(أزواجا ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة)

إلخ، ثم بين حال كل قوم، فقال: {ما أصحاب الميمنة} فترك التقسيم أولا واكتفى بما يدل عليه، فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، وسبق قوله تعالى: {وكنتم أزواجا ثلاثة} يغني عن تعديد الأقسام، ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها.

المسألة الثانية: {الميمنة ما} هم أصحاب الجنة، وتسميتهم بأصحاب الميمنة

أما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم،

وأما لكون أيمانهم تستنير بنور من اللّه تعالى، كما قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: ١٢)

وأما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير، والعرب تتفاءل بالسانح، و(هو) الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره، حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحا غير قدرة اللّه وإرادته لا يقدرون عليه، فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول: إن الكبد في الجانب الأيمن، وبها قوة التغذية، والطحال في الجانب الأيسر، وليس فيه قوة ظاهرة النفع فصار الجانب الأيمن قويا لمكان الكبد على اليمين؟

فنقول: هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال، وتخصيص اللّه اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله، فضلوا اليمين على الشمال، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر،

وقيل: لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين، ووضعوا له لفظا على وزن العزيز، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير، ومالا يتغير كالطويل والقصير

وقيل له: اليمين، وهو يدل على القوة، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن، وهو الفعال، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر، فيقال: يا فجار يا فساق يا خباث،

وقيل: اليمين اليسار، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين،

وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا: ملعبة.

المسألة الثالثة: جعل اللّه تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة، يمينه وشماله، وخلفه وقدامه، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام

ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن وهم المقربون بين يدي اللّه يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغيرويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين،

ثم إنه تعالى لم يقل: في مقابلتهم قوما يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر: ٣٢) لم يقل: منهم متخلف عن الكل.

المسألة الرابعة: ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب

والجواب: أن نقول: ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة اللّه تعالى ما يكفه مانعا عن المعصية،

وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب، فلما ذكر تعالى: {إذا وقعت الواقعة} (اواقعة: ١١) وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر،

وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من اللّه فإن السابق يناله ما يناله بجذب، وإليه الإشارة بقوله: جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة.

المسألة الخامسة: ما معنى قوله: {ما أصحاب الميمنة}؟

نقول: هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره: أخبرك بما جرى علي ثم يقول هناك هو مجيبا لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل: من يعرف فلانا فيكون أبلغ من أن يصفه، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول: هذا نهاية ما هو عليه، فإذا قال: من يعرف فلانا بفرض السامع من نفسه شيئا، ثم يقول: فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه.

المسألة السادسة: ما إعرابه ومنه يعرف معناه؟

نقول: {فأصحاب الميمنة} مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه

وقوله: {ما أصحاب الميمنة} جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول: لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهما ممتحنا زاعما أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول: إنك لا تعرف الجواب، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلا ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحنا زاعما أنك لا تعرف كنهه، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ

ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر، كما أن قائلا: إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيدا وصل، وقال: إن زيدا

ثم قبل قوله: جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسا عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال: من جاء فإنه إن قال: زيد يكون جوابا وكثيرا ما نقول: زيد ولا نقول: جاء، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل: الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول: ماذا أقول عنه.

إذا علم هذا فنقول لما قال: {فأصحاب الميمنة} كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه: إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال: {ما أصحاب الميمنة} ممتحنا زاعما أنه لا يفهم ليكونذلك دليلا على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته، وهذا وجه بليغ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال: معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال: وأصحاب الميمنة ما هم؟ على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهرا مرتين

٩

وكذلك القول في قوله تعالى: {وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة}

وكذلك في قوله: {الحاقة * ما الحاقة} (الحاقة: ١، ٢)

وفي قوله: {القارعة * ما القارعة} (القارعة: ١٢).

المسألة السابعة: ما الحكمة في اختيار لفظ {المشئمة} في مقابلة {الميمنة}، مع أنه قال في بيان أحوالهم: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال}؟

نقول: اليمين وضع للجانب المعروف أولا ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظا في مواضع وقالوا: هذا ميمون وقالوا: أيمن به ووضعوا للجانب المقابل له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال: في مقابلة اليمنى اليسرى، وفي مقابلة الأيمن الأيسر، وفي مقابلة الميمنة الميسرة، ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين، فلا يقال: الأشمل ولا المشملة، وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة، فلا يقال: في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم،

وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان، إذا علم هذا

فنقول: بعد ما قالوا باليمين لم يتركوه واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي، ولفظ الشمال في مقابلته وحدث لهم لفظان آخران فيه

أحدهما: الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا

أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان، فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال: غضوب ورءوف، ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانبا آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالا واللفظ الآخر: المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن، وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرها لجعل جانب من جوانب نفسه شؤما، ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره، فاللّه تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال: {وأصحاب المشئمة} {وأصحاب الشمال} وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر، فقال ههنا: {وأصحاب المشئمة} بأفظع الاسمين، ولهذا قالوا في العساكر: الميمنة والميسرة اجتنابا من لفظ الشؤم.

١٠

انظر تفسير الآية:١١

١١

بم ثم قال تعالى: {والسابقون السابقون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في إعرابه ثلاثة أوجه

أحدها: {والسابقون} عطف على {وأصحاب * الميمنة} (الواقعة: ٨) وعنده تم الكلام،

وقوله: {والسابقون * أولئك المقربون} جملة واحدة

والثاني: أن قوله: {والسابقون السابقون} جملة واحدة، كما يقول القائل: أنت أنت وكما قال الشاعر:

أنا أبو النجم وشعري شعري

وفيه وجهان

أحدهما: أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة

والثاني: للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ، وهو كمايقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول: لا أعرف من الملك إلا أنه ملك فقوله: {والسابقون السابقون} أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر وههنا لطيفة: وهي أنه في أصحاب الميمنة قال: {ما أصحاب الميمنة} (الواقعة: ٨) بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وههنا لم يقل: والسابقون ما السابقون، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له: إن كنت تعلم فبين الكلام

وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له: كذبت ولا يقال: كيف كذا، وما الجواب عن ذلك، فكذلك في: {والسابقون} ما جعلهم بحيث يدعون، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز، وعلى هذا فقوله تعالى: {والسابقون السابقون} كقول العالم: لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان

وثالثها: هو أن السابقون ثانيا تأكيد لقوله: {والسابقون} والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح، وعلى الوجه الأوسط قول آخر: وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى.

المسألة الثانية: {أولئك المقربون} يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقربا، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون،

نقول: {أولئك المقربون} من الأزواج الثلاثة،

فإن قيل: {فأصحاب الميمنة} ليسوا من المقربين،

نقول: للتقريب درجات {والسابقون} في غاية القرب، ولا حد هناك، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقال: المراد السابقون مقربون من الجنات حال كون أصحاب اليمين متوجهين إلى طريق الجنة لأنه بمقدار ما يحاسب المؤمن حسابا يسيرا ويؤتى كتابه بيمينه يكون السابقون قد قربوا من المنزل أو قربهم إلى اللّه في الجنة وأصحاب اليمين بعد متوجهون إلى ما وصل إليه المقربون،

ثم إن السير والارتفاع لا ينقطع فإن السير في اللّه لا انقطاع له، والارتفاع لا نهاية له، فكلما تقرب أصحاب اليمين من درجة السابق، يكون قد انتقل هو إلى موضع أعلى منه، فأولئك هم المقربون في جنات النعيم، في أعلى عليين حال وصول أصحاب اليمين إلى الحور العين.

المسألة الثالثة: بعد بيان أقسام الأزواج لم يعد إلى بيان حالهم على ترتيب ذكرهم، بل بين حال السابقين مع أنه أخرهم، وأخر ذكر أصحاب الشمال مع أنه قدمهم أولا في الذكر على السابقين،

نقول: قد بينا أن عند ذكر الواقعة قدم من ينفعه ذكر إلهوال، وأخر من لا يختلف حاله بالخوف والرجاء،

وأما عند البيان فذكر السابق لفضيلته وفضيلة حاله.

١٢

بم ثم قال تعالى: {فى جنات النعيم}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: عرف النعيم باللام ههنا وقال في آخر السورة: {فروح وريحان * وجنة *نعيم} (الواقعة: ٨٩) بدون اللام، والمذكور في آخر السورة هو واحد من السابقين فله جنة من هذه الجنات وهذه معرفة بالإضافة إلى المعرفة، وتلك غير معرفة فما الفرق بينهما؟

فنقول: الفرق لفظي ومعنوي فاللفظي هو أن السابقين معرفون باللام المستغرقة لجنسهم، فجعل موضع المعرفين معرفا،

وأما هناك فهو غير معرف، لأن قوله: {إن كان من المقربين} (الواقعة: ٨٨) أي إن كان فردا منهم فجعل موضعه غير معرف

مع جواز أن يكون الشخص معرفا وموضعه غير معرف، كما قال تعالى: {إن المتقين فى جنات وعيون} (الذاريات: ١٥) و {إن المتقين فى جنات ونهر} (القمر: ٥٤) وبالعكس أيضا،

وأما المعنوي: فنقول: عند ذكر الجمع جمع الجنات في سائر المواضع فقال تعالى: {إن المتقين فى جنات}

وقال تعالى: {أولئك المقربون * في جنات} (الواقعة: ١١، ١٢) لكن السابقون نوع من المتقين، وفي المتقين غير السابقون أيضا، ثم إن السابقين لهم منازل ليس فوقها منازل، فهي صارت معروفة لكونها في غاية العلو أو لأنها لا أحد فوقها،

وأما باقي المتقين فلكل واحد مرتبة وفوقها مرتبة فهم في جنات متناسبة في المنزلة لا يجمعها صقع واحد لاختلاف منازلهم، وجنات السابقين على حد واحد في على عليين يعرفها كل أحد،

وأما الواحد منهم فإن منزلته بين المنازل، ولا يعرف كل أحد أنه لفلان السابق فلم يعرفها،

وأما منازلهم فيعرفها كل أحد، ويعلم أنها للسابقين، ولم يعرف الذي للمتقين على وجه كذا.

المسألة الثانية: إضافة الجنة إلى النعيم من أي الأنواع؟

نقول: إضافة المكان إلى ما يقع في المكان يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة، ودار العدل، فكذلك جنة النعيم، وفائدتها أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم، وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها، بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير.

المسألة الثالثة: في {جنات النعيم}، يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، ويحتمل أن يكون خبرا واحدا،

أما الأول فتقديره: أولئك المقربون كائنون في جنات، كقوله: {ذو العرش المجيد * فعال لما يريد}،

وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من اللّه كما يقال: هو المختار عند الملك في هذه البلدة، وعلى

الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند اللّه فهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم، بخلاف المقربين عند الملوك، فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال،ولهذا قال: {في جنات النعيم} ولم يقتصر على جنات، وعلى

الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة، فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة: وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال، فهم ليسوا في نعيم، وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب اللّه يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف، والسابقون لهم قرب عند اللّه، كما يكون لجلساء الملوك، فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة.

١٣

انظر تفسير الآية:١٤

١٤

 بم ثم قال تعالى: {ثلة من الاولين}.

وهذا خبر بعد خبر، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: قد ذكرت أن قوله: {والسابقون السابقون} (الواقعة: ١٠) جملة، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم، فكيف جاء خبر بعده؟

نقول: ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر، كما أن واحدا يقول: زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال: لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال: {والسابقون السابقون} لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم.

المسألة الثانية: {الاولين} من هم؟

نقول: المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى اللّه عليه وسلم وإنما قال: {ثلة} والثلة الجماعة العظيمة، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى هذا قيل: إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم، فنزل بعده: {ثلة من الاولين} (الواقعة: ١٣)، {وثلة من الاخرين} (الواقعة: ٤٠) هذا في غاية الضعف من وجوه

أحدها: أن عدد أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام اللّه على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز

وثانيها: أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد

ثالثها: ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم كثروا ورحمهم اللّه تعالى فعفا عنهم أمورا لم تعف عن غيرهم، وجعل للنبي صلى اللّه عليه وسلم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين،

وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فهم في غاية القلة وهم السابقون

ورابعها: هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال: {ثلة من الاولين} دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا جعل قليلا من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة، يكون ذلك إنعاما في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"

الوجه الثاني: المراد منه: {السابقون * الاولون من المهاجرين والانصار} (التوبة: ١٠٠) فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا، لقوله تعالى: {لا يستوى منكم من أنفق} (الحديد: ١٠) الآية.

{وقليل من الاخرين} الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وعلى هذا فقوله: {وكنتم أزواجا ثلاثة} (الواقعة: ٧) يكون خطابا مع الموجودين وقت التنزيل، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام، وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ، ويدخل فيه غيرهم بالدليل

الوجه الثالث: {ثلة من الاولين} الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم {وقليل من الاخرين} الذين قال اللّه تعالى فيهم: {واتبعتهم} (الطور: ٢١) فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء، لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين،

وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين، فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيرا ما يكون ولد المؤمن أحسن حالا من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله: {ثم الاخرين} المراد منه الآخرون التابعون من الصغار.

١٥

بم ثم قال تعالى: {على سرر موضونة}.

والموضونة هي المنسوجة القوية اللحمة والسدى، ومنه يقال للدرع المنسوجة: موضونة والوضين هو الحبل العريض الذي يكون منه الحزم لقوة سداه ولحمته، والسرر التي تكون للملوك يكون لها قوائم من شيء صلب ويكون مجلسهم عليها معمولا بحرير وغير ذلك لأنه أنعم من الخشب وما يشبهه في الصلابة وهذه السرر قوائمها من الجواهر النفيسة، وأرضها من الذهب الممدود،

١٦

وقوله تعالى: {متكئين عليها} للتأكيد، والمعنى أنهم كائنون على سرر متكئين عليها متقابلين، ففائدة التأكيد هو أن لا يظن أنهم كائنون على سرر متكئين على غيرها كما يكون حال من يكون على كرسي صغير لا يسعه للاتكاء فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه، فلما قال: على سرر متكئين عليها دل هذا على أن استقرارهم واتكاءهم جميعا على سرر،

وقوله تعالى: {متقابلين}

فيه وجهان

أحدهما: أن أحدا لا يستدبر أحدا

وثانيهما: أن أحدا من السابقين لا يرى غيره فوقه، وهذا أقرب لأن قوله: {متقابلين} على الوجه الأول يحتاج إلى أن يقال: متقابلين معناه أن كل أحد يقابل أحدا في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور، فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه كالنور الذي يقابل كل شيء ولا يستدبر أحدا، و الوجه الأول أقرب إلى أوصاف المكانيات.

١٧

بم ثم قال تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون}.

والولدان جمع الوليد، وهو في الأصل فعيل بمعنى مفعول وهو المولود لكن غلب على الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين، والدليل أنهم قالوا للجارية الصغيرة وليدة، ولو نظروا إلى الأصل لجردوها عن الهاء كالقتيل، إذا ثبت هذا

فنقول: في الولدان وجهان

أحدهما: أنه على الأصل وهم صغار المؤمنين وهو ضعيف، لأن صغار المؤمنين أخبر اللّه تعالى عنهم أنه يلحقهم بآبائهم، ومن الناس المؤمنين الصالحين من لا ولد له فلا يجوز أن يخدم ولد المؤمن مؤمنا غيره، فيلزم

أما أن يكون لهم اختصاص ببعض الصالحين وأن لا يكون لمن لا يكون له ولد من يطوف عليه من الولدان،

وأما أن يكون ولد الآخر يخدم غير أبيه وفيه منقصة بالأب، وعلى هذا الوجه قيل: هم صغار الكفار وهو أقرب من الأول إذ ليس فيه ما ذكرنا من المفسدة

والثاني: أنه على الاستعمال الذي لم يلحظ فيه الأصل وهو إرادة الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين وهو حينئذ كقوله تعالى: {ويطوف عليهم غلمان لهم} (الطور: ٢٤)

وفي قوله تعالى: {مخلدون}

وجهان

أحدهما: أنه من الخلود والدوام، وعلى هذا الوجه يظهر وجهان آخران

أحدهما: أنهم مخلدون ولا موت لهم ولا فناء

وثانيهما: لا يتغيرون عن حالهم ويبقون صغارا دائما لا يكبرون ولا يلتحون

والوجه الثاني: أنه من الخلدة وهو القرط بمعنى في آذانهم حلق، والأول أظهر وأليق.

١٨

بم ثم قال تعالى: {بأكواب وأباريق وكأس من معين}.

أواني الخمر تكون في المجالس،

وفي الكوب وجهان

أحدهما: أنه من جنس الأقداح وهو قدح كبير

وثانيهما: من جنس الكيزان ولا عروة له ولا خرطوم والإبريق له عروة وخرطوم، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: ما الفرق بين الأكواب والأباريق والكأس حيث ذكر الأكواب والأباريق بلفظ الجميع والكأس بلفظ الواحد ولم يقل: وكئوس؟

نقول: هو على عادة العرب في الشرب يكون عندهم أوان كثيرة فيها الخمر معدة موضوعة عندهم،

وأما الكأس فهو القدح الذي يشرب به الخمر إذا كان فيه الخمر ولا يشرب واحد في زمان واحد إلا من كأس واحد،

وأما أواني الخمر المملوءة منها في زمان واحد فتوجد كثيرا،

فإن قيل: الطواف بالكأس على عادة أهل الدنيا

وأما الطواف بالأكواب والأباريق فغير معتاد فما الفائدة فيه؟

نقول: عدم الطواف بها في الدنيا لدفع المشقة عن الطائف لثقلها وإلا فهي محتاج إليها بدليل أنه عند الفراغ يرجع إلى الموضع الذي هو فيه،

وأما في الآخرة فالآنية تدور بنفسها والوليد معها إكراما لا للحمل، وفيه وجه آخر من حيث اللغة وهو أن الكأس إناء فيه شراب فيدخل في مفهومه المشروب، والإبريق آنية لا يشترط في إطلاق اسم الإبريق عليها أن يكون فيها شراب، وإذا ثبت هذا فنقول الإناء المملوء الاعتبار لما فيه لا للإناء، وإذا كان كذلك فاعتبار الكأس بما فيه لكن فيه مشروب من جنس واحد وهو المعتبر، والجنس لا يجمع إلا عند تنوعه فلا يقال للأرغفة من جنس واحد: أخباز، وإنما يقال: أخباز عندما يكون بعضها أسود وبعضها أبيض وكذلك اللحوم يقال عند تنوع الحيوانات التي منها اللحوم ولا يقال للقطعتين من اللحم لحمان،

وأما الأشياء المصنفة فتجمع، فالأقداح وإن كانت كبيرة لكنها لما ملئت خمرا من جنس واحد لم يجز أن يقال لها: خمور فلم يقل: كئوس وإلا لكان ذلك ترجيحا للظروف، لأن الكأس من حيث إنها شراب من جنس واحد لا بجمع واحد فيترك الجمع ترجيحا لجانب المظروف بخلاف الإبريق فإن المعتبر فيه الإناء فحسب، وعلى هذا يتبين بلاغة القرآن حيث لم يرد فيه لفظ الكئوس إذ كان ما فيها نوع واحد من الخمر، وهذا بحث عزيز في اللغة.

المسألة الثانية: في تأخير الكأس ترتيب حسن، فكذلك في تقديم الأكواب إذا كان الكوب منه يصب الشراب في الإبريق ومن الإبريق الكأس.

المسألة الثالثة: {من معين} بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق، نقول: يحتمل أن يكون الكل من معين

والأول أظهر بالوضع،

والثاني ليس كذلك، فلما قال: {وكأس} فكأنه قال: ومشروب، وكأن السامع محتاجا إلى معرفة المشروب،

وأما الإبريق فدلالته على المشروب ليس بالوضع،

وأما المعنى فلأن كون الكل ملآنا هو الحق، ولأن الطواف بالفارغ لا يليق فكان الظاهر بيان ما في الكل، ومما يؤيد

الأول هو أنه تعالى عند ذكر الأواني ذكر جنسها لا نوع ما فيها فقال تعالى: {ويطاف عليهم بئانية من فضة وأكواب} (الإنسان: ١٥) الآية، وعند ذكر الكأس بين ما فيها فقال: {وكأس من معين} فيحتمل أن الطواف بالأباريق، وإن كانت فارغة للزينة والتجمل وفي الآخرة تكون للإكرام والتنعم لا غير.

المسألة الرابعة: ما معنى المعين؟

قلنا: ذكرنا في سورة الصافات أنه فعيل أو مفعول ومضى فيه خلاف، فإن

قلنا: فعيل فهو من معن الماء إذا جرى وإن

قلنا: مفعول فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه، والأول أصح وأظهر لأن المعيون يوهم بأنه معيوب لأن قول القائل: عانني فلان معناه ضرني إذا أصابتني عينه ولأن الوصف بالمفعول لا فائدة فيه،

وأما الجريان في المشروب فهو إن كان في الماء فهو صفة مدح وإن كان في غيره فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا، فيكون كقوله تعالى: {وأنهار من خمر} (محمد: ١٥).

١٩

بم ثم قال تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: {لا يصدعون}

فيه وجهان

أحدهما: لا يصيبهم منها صداع يقال: صدعني فلان أي أورثني الصداع

والثاني: لا ينزفون عنها ولا ينفدونها من الصدع، والظاهر أن أصل الصداع منه، وذلك لأن الألم الذي في الرأس يكون في أكثر الأمر بخلط وريح في أغشية الدماغ فيؤلمه فيكون الذي به صداع كأنه يتطرف في غشاء دماغه.

المسألة الثانية: إن كان المراد نفي الصداع فكيف يحسن عنها مع أن المستعمل في السبب كلمة من، فيقال: مرض من كذا وفي المفارقة يقال: عن، فيقال: برىء عن المرض؟

نقول: الجواب هو أن السبب الذي يثبت أمرا في شيء كأنه ينفصل عنه شيء ويثبت في مكانه فعله، فهناك أمران ونظران إذا نظرت إلى المحل ورأيت فيه شيئا تقول: هذا من ماذا، أي ابتداء وجوده من أي شيء فيقع نظرك على السبب فتقول: هذا من هذا أي ابتداء وجوده منه، وإذا نظرت إلى جانب المسبب ترى الأمر الذي صدر عنه كأنه فارقه والتصق بالمحل، ولهذا لا يمكن أن يوجد ذلك مرة أخرى، والسبب كأنه كان فيه وانتقل عنه في أكثر الأمر فههنا يكون الأمران من الأجسام والأمور التي لها قرب وبعد، إذا علم هذا

فنقول: المراد ههنا بيان خمر الآخرة في نفسها وبيان ما عليها، فالنظر وقع عليها لا على الشاربين ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم لما كان مدحا لها،

وأما إذا قال: هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحا لها فلما وقع النظر عليها قال عنها،

وأما إذا كنت تصف رجلا بكثرة الشرب وقوته عليه، فإنك تقول: في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر، فإذا وصفت الخمر تقول هذه لا يصدع عنها أحد.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {ولا ينزفون} تقدم تفسيره في الصافات والذي يحسن ذكره هنا أن نقول: إن كان معنى {لا * ينزفون} لا يسكرون،

فنقول: أما أن نقول معنى: {لا يصدعون} أنهم لا يصيبهم الصداع،

وأما أنهم لا يفقدون، فإن

قلنا: بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن لأنه على طريقة الارتقاء، فإن قوله تعالى: {لا يصدعون} معناه لا يصيبهم الصداع لكن هذا لا ينفي السكر فقال: بعده ولا يورث السكر، كقول القائل: ليس فيه مفسدة كثيرة، ثم يقول: ولا قليلة، تتميما للبيان، ولو عكست الترتيب لا يكون حسنا، وإن

قلنا: {لا * ينزفون} لا يفقدون فالترتيب أيضا كذلك لأن قولنا: {لا يصدعون} أي لا يفقدونه ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجب، لكن عدم سكرهم مع أنهم مستديمون للشراب عجيب وإن

قلنا: {لا * ينزفون} بمعنى لا ينفد شرابهم كما بينا هناك.

فنقول: أيضا إن كان لا يصدعون بمعنى لا يصيبهم صداع فالترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن قوله: {لا يصدعون} لا يكون بيان أمر عجيب إن كان شرابهم قليلا فقال: {لا يصدعون عنها} مع أنهم لا يفقدون الشراب ولا ينزفون الشراب، وإن كان بمعنى لا ينزفون عنها فالترتيب حسن لأن معناه لا ينزفون عنها بمعنى لا يخرجون عما هم فيه ولا يؤخذ منهم ما أعطوا من الشراب، ثم إذا أفنوها بالشراب يعطون.

٢٠

انظر تفسير الآية:٢١

٢١

بم ثم قال تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما وجه الجر، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك؟

نقول: الجواب عنه من وجهين

أحدهما: أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين

أحدهما: حالة الشرب والأخرى حال عدمه، فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ، كما قال تعالى: {قطوفها دانية} (الحاقة: ٢٣)

وقال: {وجنى الجنتين دان} (الرحمان: ٥٤) إلى غير ذلك،

وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركا للآخر في القرب منها

والوجه الثاني: أن يكون عطفا في المعنى على جنات النعيم، أي هم المقربون في جنات وفاكهة، ولحم وحور، أي في هذه النعم يتقلبون، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى، وكيف لا يجوز هذا، وقد جاز تقلد سيفا ورمحا.

المسألة الثانية: هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة؟ قلت: وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل، ولا يصل إليها على القليل، والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة، والجائع مشته والشبعان غير مشته، وإنما هو مختار إن أراد أكل، وإن لم يرد لا يأكل، ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك، إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فحص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار، والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى

أحدهما، ثم يتفكر ويتروى، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة،

وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة،

وأما فواكه الجنة تكون أولا عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم،

وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم، وميل النفس إلى المأكول شهوة، ويدل على هذا قوله تعالى: {قطوفها دانية} (الحاقة: ٢٣)

وقوله: {وجنى الجنتين دان} (الرحامن: ٥٤)

وقوله تعالى: {وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: ٣٢، ٣٣) فهو دليل على أنها دائمة الحضور،

وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشويا ومقليا على حسب ما يشتهيه، فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل، وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها، واللحم لا تلذ الأعين بحضوره،

ثم إن في اللفظ لطيفة، وهي أنه تعالى قال: {مما يتخيرون} ولم يقل: مما يختارون مع قرب

أحدهما إلى الآخر في المعنى، وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال، وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار.

المسألة الثالثة: ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم؟

نقول: الجواب عنه من وجوه

أحدها: العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها ولا سيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة

وثانيها: الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولا لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للّهضم، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها

وثالثها: يخرج مما ذكرنا جوابا خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود، واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال: {وفاكهة} لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها، وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام، فلا يصح الأول جوابا في الكل.

٢٢

بم ثم قال تعالى: {وحور عين}.

وفيها قراءات

الأولى: الرفع وهو المشهور، ويكون عطفا على ولدان،

فإن قيل قال قبله: {حور مقصورات فى الخيام} (الرحمان: ٧٢) إشارة إلى كونها مخدرة ومستورة، فكيف يصح قولك: إنه عطف على ولدان؟

نقول: الجواب عنه من وجهين

أحدهما: وهو المشهور أن نقول: هو عطف عليهم في اللفظ لا في المعنى، أو في المعنى على التقدير والمفهوم لأن قوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان} (الواقعة: ١٧) معناه لهم ولدان كما قال تعالى: {ويطوف عليهم غلمان لهم} (الطور: ٢٤) فيكون: {وحور عين} بمعنى ولهم حور عين

وثانيهما: وهو أن يقال: ليست الحور منحصرات في جنس، بل لأهل الجنة: {حور مقصورات} في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم، وحور تطوف مع الولدان السقاة فيكون كأنه قال: يطوف عليهم ولدان ونساء

الثانية: الجر عطفا على أكواب وأباريق،

فإن قيل: كيف يطاف بهن عليهم؟

نقول: الجواب سبق عند قوله: {ولحم طير} (الواقعة: ٢١) أو عطفا على: {جنات} أي: {أولئك المقربون * في جنات النعيم} (الواقعة: ١٢) وحور وقرىء {وقرى عينا} بالنصب، ولعل الحاصل على هذه القراءة على غير العطف بمعنى العطف لكن هذا القارىء لا بد له من تقدير ناصب فيقول: يؤتون حورا فيقال: قد رافعا فقال: ولهم حور عين فلا يلزم الخروج عن موافقة العاطف

٢٣

وقوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون}

فيه مباحث.

الأول: الكاف للتشبيه، والمثل حقيقة فيه، فلو قال: أمثال اللؤلؤ المكنون لم يكن إلى الكاف حاجة، فما وجه الجمع بين كلمتي التشبيه؟

نقول: الجواب المشهور أن كلمتي التشبيه يفيدان التأكيد والزيادة في التشبيه،

فإن قيل: ليس كذلك بل لا يفيدان ما يفيد أحدهما لأنك إن قلت مثلا: هو كاللؤلؤة للمشبه، دون المشبه به في الأمر الذي لأجله التشبيه؟

نقول: التحقيق فيه، هو أن الشيء إذا كان له مثل فهو مثله، فإذا قلت هو مثل القمر لا يكون في المبالغة مثل قولك هو قمر وكذلك قولنا: هو كالأسد، وهو أسد، فإذا قلت: كمثل اللؤلؤ كأنك قلت: مثل اللؤلؤ وقولك: هو اللؤلؤ أبلغ من قولك: هو كاللؤلؤ، وهذا البحث يفيدنا ههنا، ولا يفيدنا في قوله تعالى: {ليس كمثله شىء} لأن النفي في مقابلة الإثبات، ولا يفهم معنى النفي من الكلام مالم يفهم معنى الإثبات الذي يقابله، فنقول قوله: {ليس كمثله شىء} في مقابلة قول من يقول: كمثله شيء، فنفى ما أثبته لكن معنى قوله: {كمثله شىء} إذا لم نقل بزيادة الكاف هو أن مثل مثله شيء، وهذا كلام يدل على أن له مثلا، ثم إن لمثله مثلا، فإذا

قلنا: ليس كذلك كان ردا عليه، والرد عليه صحيح بقي أن يقال: إن الراد على من يثبت أمورا لا يكون نافيا لكل ما أثبته، فإذا قال قائل: زيد عالم جيد، ثم قيل ردا عليه: ليس زيد عالما جيدا لا يلزم من هذا أن يكون نافيا لكونه عالما، فمن يقول: {ليس كمثله شىء} بمعنى ليس مثل مثله شيء لا يلزم أن يكون نافيا لمثله، بل يحتمل أن يكون نافيا لمثل المثل، فلا يكون الراد أيضا موحدا فيخرج الكلام عن إفادة التوحيد، فنقول: يكون مفيدا للتوحيد لأنا إذا

قلنا: ليس مثل مثله شيء لزم أن لا يكون له مثل لأنه لو كان له مثل لكان هو مثل مثله، وهو شيء بدليل قوله تعالى: {قل أى شىء أكبر شهادة قل اللّه} (الأنعام: ١٩) فإن حقيقة الشيء هو الموجود فيكون مثل مثله شيء وهو منفي بقولنا: ليس مثل مثله شيء، فعلم أن الكلام لا يخرج عن إفادة التوحيد، فعلم أن الحمل على الحقيقة يفيد في الكلام مبالغة في قوله تعالى: {كأمثال}

وأما عدم الحمل عليها في قوله: {ليس كمثله شىء} فهو أوجز فتجعل الكاف زائدة لئلا يلزم التعطيل، وهو نفي الإله،

نقول: فيه فائدة، وهو أن يكون ذلك نفيا مع الإشارة إلى وجه الدليل على النفي، وذلك لأنه تعالى واجب الوجود، وقد وافقنا من قال بالشريك، ولا يخالفنا إلا المعطل، وذلك إثباته ظاهرا، وإذا كان هو واجب الوجود فلو كان له مثل لخرج عن كونه واجب الوجود، لأنه مع مثله تعادلا في الحقيقة، وإلا لما كان ذلك مثله وقد تعدد فلا بد من انضمام مميز إليه به يتميز عن مثله، فلو كان مركبا فلا يكون واجبا لأن كل مركب ممكن، فلو كان له مثل لما كان هو هو فيلزم من إثبات المثل له نفيه، فقوله: {ليس كمثله شىء} إذا حملناه أنه ليس مثل مثله شيء، ويكون في مقابلته قول الكافر: مثل مثله شيء فيكون مثبتا لكونه مثل مثله ويكون مثله يخرج عن حقيقة نفسه ومنه لا يبقى واجب الوجود فذكر المثلين لفظا يفيد التوحيد مع الإشارة إلى وجه الدليل على بطلان قول المشرك ولو

قلنا: ليس مثله شيء يكون نفيا من غير إشارة إلى دليل،

والتحقيق فيه أنا نقول: في نفي المثل ردا على المشرك لا مثل للّه، ثم نستدل عليه

ونقول: لو كان له مثل لكان هو مثلا لذلك المثل فيكون ممكنا محتاجا فلا يكون إلها ولو كان له مثل لما كان اللّه إلها واجب الوجود، لأن عند فرض مثل له يشاركه بشيء وينافيه بشيء، فيلزم تركه فلو كان له مثل لخرج عن حقيقة كونه إلها فإثبات الشريك يفضي إلى نفي الإله فقوله: {ليس كمثله شىء} توحيد بالدليل وليس مثله شيء توحيد من غير دليل وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه اللّه بعدما فرغت من كتابة هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائدلا لا أحصيها،

وأما قوله تعالى: {اللؤلؤ المكنون} إشارة إلى غاية صفائهن أي اللؤلؤ الذي لم يغير لونه الشمس والهواء.

٢٤

بم ثم قال تعالى: {جزآء بما كانوا يعملون}.

وفي نصبه وجهان

أحدهما: أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم، وعلى هذا فيه لطيفة: وهي أن نقول: المعنى أن هذا كله جزاء عملكم

وأما الزيادة فلا يدركها أحد منكم

وثانيهما: أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله اللّه فهو جزاء فكأنه قال: تجزون جزاء،

وقوله: {بما كانوا} قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال

في حق المؤمنين: {فينبئهم بما كانوا يعملون} (الواقعة: ٢٤)

وفي حق الكافرين: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} (التحريم: ٧) إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم، والثواب: {جزاء * مما * كانوا يعملون} (السجدة: ١٧) فلا يعطيهم اللّه عين عملهم، بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم، والكافر يعطيه عين ما فعل، فيكون فيه معنى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا * يجزى * إلا مثلها} (الأنعام: ١٦٠)

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه اللّه في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها

فالأولى: قالت المعتزلة: هذا يدل على أن يقال: الثواب على اللّه واجب، لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به، وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه اللّه بأجوبة كثيرة، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه.

ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من اللّه لا يوجد علم أن اللّه يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية، وإيصال الجزاء واجب،

وأما إذا قلنا: بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة، لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم، لا يقال: الجزاء كان واجبا على اللّه

وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشرا،

لأنا نقول: إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا اللّه تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلا منه، غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله: هذا جزاؤكم، أي جعلته لكم جزاء، ولم يكن متعينا ولا واجبا، كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئا كثيرا، فيظن أنه يودعه إيداعا أو يأمره بحمله إلى موضع، فيقول له: هذا لك فيفرح، ثم إنه يقول: هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة، فيقول له هذا جزاء ما أتيت به، ولا أطلب منك على هذا خدمة، فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد، فيكون هذا غاية الفضل، وعند هذا نقول: هذا كله إذا كان الآتي غير العبد،

وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجرا، ولا سيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال، فما ظنك بحالنا مع اللّه عز وجل، مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية، واللّه تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا، ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق، واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئا ولا يجب للعبد على السيد دين، والمعتزلة لم يحققوا العبودية، وجعلوا بينهم وبين اللّه معاملة توجب مطالبة، ونرجوا أن يحقق اللّه تعالى معنا المالكية غاية التحقيق، ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا، كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته، ويطهر صومه بزكاة فطره، وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه، بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية، كذلك يدفع اللّه حاجاتنا في الآخرة، وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا، ويتغمدنا بالمغفرة والرضوان، حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير، والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير.

المسألة الثانية: قالوا: لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء، وقد حصر اللّه الجزاء فيما ذكر  والجواب عنه: أن نقول: لم قلتم: إنها لو كانت تكون جزاء، بل تكون فضلا منه فوق الجزاء، وهب أنها تكون جزاء، ولكن لم قلتم: إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك، لأن من قال لغيره: أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله: وأعطيتك شيئا آخر فوقه أيضا جزاء عليه، وهب أنه حصر، لكن لم قلتم: إن القربة لا تدل على الرؤية،

فإن قيل: قال في حق الملائكة: {ولا الملئكة المقربون} (النساء: ١٧٢)، ولم يلزم من قربهم الرؤية، نقول: أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال، فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه، كما قال تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم: ٦) وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك، وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا، لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه

وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق.

والذي يدل على أن قوله: {أولئك المقربون} (الواقعة: ١١) فيه إشارة إلى الرؤية هو أن اللّه تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار، ثم إنه تعالى قال في حق الفجار: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}

(المطففين: ١٥) وقال في الأبرار: {يشرب بها المقربون} (المطففين: ٢٨) ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب، لأن قوله: {لفى عليين} (المطففين: ١٨) وإن كان دليلا على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله: {لفى سجين} (المطففين: ٧) فقوله تعالى في حقهم: {يشرب بها المقربون} مع قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} (الإنسان: ٢١) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك، وقوله في حق الملائكة في تلك السورة: {يشهده المقربون} (المطففين: ٢١) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد

أحدهما الآخر، فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب، بل قرب النديم، ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره، وفي سورة المطففين قوله: {لمحجوبون} يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى اللّه تعالى، وينبغي أن لا ينظر إلى اللّه قولنا: جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.

المسألة الثالثة: قالوا قوله تعالى: {بما كانوا يعملون} يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه، وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس، وكل أحد يرى الحركة من الجسمين فيقول: تحرك وسكن على سبيل الحقيقة، كما يقول: تدور الرحا ويصعد الحجر، وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي، وذلك خارج عن وضع اللغة.

بم ثم قال تعالى:

٢٥

ثم قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة؟ نقول فيه لطائف

الأولى: أن هذا من أتم النعم، فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال، وإنما

قلنا: إنها من أتم النعم، لأنها نعمة سماع كلام اللّه تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله: {سلاما} هو ما قال في سورة يس: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) فلم يذكرها فيما جعله جزاء، وهذا على قولنا: {أولئك المقربون} (الواقعة: ١١) ليس فيه دلالة على الرؤية

الثانية: أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها، وهي نعمة المخاطبة

الثالثة: هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال: {جزاء بما كانوا يعملون} (الواقعة: ٢٤) ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم، لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع، فما يعطيهم اللّه تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن، وإليه الإشارة بقوله صلى اللّه عليه وسلم فيها: "مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" وقوله عليه السلام: "ولا خطر" إشارة إلى الزيادة، والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا} إلى قوله: {نزلا من غفور رحيم} (فصلت: ٣٠ ـ ٣٢).

المسألة الثانية: قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما} نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر، لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه، ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها، كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم، ولو قال: إن فلانا في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو، وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلبا أو ما يشبهه من السباع،

وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلا ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل،

وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثما كما تقول: إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء، فقال تعالى:

لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له: الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال: لا يأثم أحد.

المسألة الثالثة: قال تعالى في سورة النبأ: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذبا} (النبأ: ٣٥) فهل بينهما فرق؟

قلنا: نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذبا ولا أحدا يقول لآخر: كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذبا من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذابا لأن أحدهم يقول لصاحبه: كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب، وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذابا بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها، وقال ههنا: {ولا تأثيما} وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه: إنه زان أو شارب الخمر مثلا فإنه يأثم وقد يكون صادقا، فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد: قلت مالا علم لك به فالكلام ههنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون، وقد بينا أن السابق فوق المتقي.

٢٦

المسألة الرابعة: {إلا قيلا} استثناء متصل منقطع، فنقول:

فيه وجهان

أحدهما: وهو الأظهر أنه منقطع لأن السلام ليس من جنس اللغو تقديره لكن يسمعون: قيلا سلاما سلاما

ثانيهما: أنه متصل ووجهه أن نقول: المجاز قد يكون في المعنى، ومن جملته أنك تقول: مالي ذنب إلا أحبك، فلهذا تؤذيني فتستثني محبته من الذنب ولا تريد المنقطع لأنك لا تريد بهذا القول بيان أنك تحبه إنما تريد في تبرئتك عن الذنوب ووجهه هو أن بينهما غاية الخلاف وبينهما أمور متوسطة، مثاله: الحار والبارد وبينهما الفاتر الذي هو أقرب إلى الحار من البارد وأقرب إلى البارد من الحار، والمتوسط يطلق عليه اسم البارد عند النسبة إلى الحار فيقال: هذا بارد ويخبر عنه بالنسبة إلى البارد فيقال: إنه حار، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذنب إلا أني أحبك، معناه لا تجد ما يقرب من الذنب إلا المحبة فإن عندي أمورا فوقها إذا نسبتها إلى الذنب تجد بينها غاية الخلاف فيكون ذلك كقوله: درجات الحب عندي طاعتك وفوقها إن أفضل جانب أقل أمر من أمورك على جانب الحفظ لروحي، إشارة إلى المبالغة كما يقول القائل: ليس هذا بشيء مستحقرا بالنسبة إلى ما

فوقه فقوله: {لا يسمعون فيها لغوا} أي يسمعون فيها كلاما فائقا عظيم

الفائدة كامل اللذة أدناها وأقربها إلى اللغو قول بعضهم لبعض: سلام عليك فلا يسمعون ما يقرب من اللغو إلا سلاما، فما ظنك بالذين يبعد منه كما يبعد الماء البارد الصادق والماء الذي كسرت الشمس برودته وطلب منه ماء حار ليس عندي ماء حار إلا هذا أي ليس عندي ما يبعد من البارد الصادق البرودة ويقرب من الحار إلا هذا وفيه المبالغة الفائقة والبلاغة الرائقة وحينئذ يكون اللغو مجازا، والاستثناء متصلا

فإن قيل: إذا لم يكن بد من مجاز وحمل اللغو على ما يقرب منه بالنسبة إليه فليحمل إلا على لكن لأنهما مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم،

نقول: المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال، ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازا إلا بالاقتران باسم والإسم يصير مجازا من غير الاقتران بحرف فإنك تقول: رأيت أسدا يرمي ويكون مجازا ولا اقتران له بحرف، وكذلك إذا قلت لرجل: هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة، ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك، لا يحصل بما ذكرت من المجاز، ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة.

المسألة الخامسة: في قوله تعالى: {قيلا}

قولان:

أحدهما: إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدرا، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف

ثانيهما: إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر، وعلى هذا نقول: الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو: قال

وقيل، لما لم يذكر فاعله، وما قيل: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن القيل والقال، يكون معناه نهى عن المشاجرة، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى اللّه عليه وسلم : "رحم اللّه عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم" وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله، تقول: قال فلان كذا،

ثم قيل له: كذا، فقال: كذا، فيكون حاصل كلامه قيل وقال، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال مأخوذ من قيل هو قال، ولقائل أن يقول: هذا باطل لقوله تعالى: {وقيله يارب * رب إن *هؤلاء قوم لا يؤمنون} (الزخرف: ٨٨) فإن الضمير للرسول صلى اللّه عليه وسلم أي يعلم اللّه قيل محمد: {وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}، كما قال نوح عليه السلام: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} (نوح: ٢٧)، وعلى هذا فقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} (الزخرف: ٨٩) إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده، وإذا كان القول مضافا إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فلا يكون القيل اسما لقول لم يعلم قائله؟

فنقول: الجواب عنه من وجهين

أحدهما: إن قولنا: إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع

وثانيهما: وهو الجواب الدقيق أن نقول: الهاء في: {وقيله} ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن، وعند البصريين قال: {فإنها لا * لاولى الابصار} (الحج: ٤٦) والهاء غير عائد إلى مذكور، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة، والظاهر في هذه

المسألة قول الكوفيين، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم اللّه تعالى قيل القائل منهم: {يستبشرون قال إن هؤلآء}، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون، وأهل السماء علموا بأن عند اللّه علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول: {وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} (الزخرف: ٨٨) من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائدا إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله، ولا شيء فيما قبله يصح عود الضمير إليه،

وأما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لكن الخطاب بقوله: {فاصفح} (الحجر: ٨٥) كان يقتضي أن يقول، وقيلك يا رب لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو المخاطب أولا بكلام اللّه، وقد قال قبله: {ولئن سألتهم} (الزخرف: ٨٧)

وقال من قبل: {قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين} (الزخرف: ٨١) وكان هو المخاطب أولا، إذا تحقق هذا؟

نقول: إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظا مراعى، فقال ههنا: {إلا قيلا سلاما سلاما} لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائما من الملائكة والناس كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام} (الرعد: ٢٣، ٢٤)

وقال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) حيث كان المسلم منفردا، وهو اللّه كأنه قال: سلام قولا منا،

وقال تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحا} (فصلت: ٣٣)

وقال: {هى أشد * وطأ وأقوم قيلا} (المزمل: ٦) لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلا فإن قوله: قويم، ونهجه مستقيم،

وقال تعالى: {وقيله يارب * رب} (الزخرف: ٨٨) لأن كل أحد يقول: إنهم لا يؤمنون.

أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم

وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما} والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله، فقال: {إلا قيلا} وهو سلام عليك،

وأما قول من يعرف وهو اللّه فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال: {سلام قولا} (يس: ٥٨).

المسألة السادسة: {سلام}، فيه ثلاثة أوجه

أحدها: أنه صفة وصف اللّه تعالى بها {قيلا} كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال: رجل عدل، وقوم صوم، ومعناه إلا قيلا سالما عن العيوب،

وثانيها: هو مصدر تقديره، إلا أن يقولوا سلاما

وثالثها: هو بدل من {قيلا}، تقديره: إلا سلاما.

المسألة السابعة: تكرير السلام هل فيه فائدة؟

نقول: فيه إشارة إلى تمام النعمة، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر: السلام عليك، فيقول الآخر: وعليك السلام، فكذلك في الآخرة يقولون: {سلاما سلاما} ثم إنه تعالى لما قال: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) لم يكن له رد لأن تسليم اللّه على عبده مؤمن له، فأما اللّه تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن: سلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

المسألة الثامنة: ما الفرق بين قوله تعالى: {سلاما سلاما} بنصبهما، وبين قوله تعالى: {قالوا سلاما قال سلام} (هود: ٦٩)

قلنا: قد ذكرنا هناك أن قوله: (سلام عليك) أتم وأبلغ من قولهم سلاما عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا،

وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيرا.

المسألة التاسعة: إذا كان قول القائل: (سلام عليك) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة صارت بالنصب، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى،

أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب، فالنصب بقوله: {لا يسمعون فيها لغوا}

وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل، وقولهم: {سلام} أبعد من اللغو من قولهم: {سلاما} فقال: {إلا قيلا سلاما} ليكون أقرب إلى اللغو من غيره، وإن كان في نفسه بعيدا عنه.

 ٢٧

بم ثم قال تعالى: {وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين}.

لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما

الفائدة في ذكرهم بلفظ: {الميمنة ما} (الواقعة: ٨) عند ذكر الأقسام، وبلفظ : {اليمين ما} عند ذكر الإنعام؟

نقول: الميمنة مفعلة

أما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم، أي الأرض التي فيها اليمين

وأما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار، والمجمرة موضع الجمر، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض، ويتفرقون لقوله تعالى: {يومئذ يتفرقون} (الروم) ١٤)

وقال: {يصدعون} (الروم: ٤٣) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان،

فقال: {وأصحاب اليمين}

وفيه وجوه

أحدها: أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم

ثانيها: أصحاب القوة

ثالثها: أصحاب النور، وقد تقدم بيانه.

٢٨

المسألة الثانية: ما الحكمة في قوله تعالى: {فى سدر} وأية نعمة تكون في كونهم في سدر، والسدر من أشجار البوادي، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب؟

نقول: فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر، واقتصروا في

الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزا محمودا، وهو صواب ولكنه غير فائق، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام اللّه لائق، هو أن نقول: إنا قد بينا مرارا أن البليغ يذكر طرفي أمرين، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما، ويقال: فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك،

فنقول: لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به، وتارة يقصد إلى ثمارها، وتارة يجمع بينهما، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة، ويجمعها نوعان: أوراث صغار، وأوراق كبار، والسدر في غاية الصغر، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر،

٢٩

فقوله تعالى: {وطلح منضود} إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها، وكذلك

قلنا في النخيل والأعناب، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة، وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، وهذا جواب فائق وفقنا اللّه تعالى له.

المسألة الثالثة: ما معنى المخضود؟

نقول فيه وجهان

أحدهما: مأخوذ الشوك، فإن شوك السدر يستقصف ورقها، ولولاه لكان منتزه العرب، ذلك لأنها تظل لكثرة أوراقها ودخول بعضها في بعض

وثانيهما: مخضود أي متعطف إلى أسفل، فإن رؤوس أغصان السدر في الدنيا تميل إلى فوق بخلاف أشجار الثمار، فإن رؤوسهما تتدلى، وحينئذ معناه أنه يخالف سدر الدنيا، فإن لها ثمرا كثيرا.

المسألة الرابعة: ما الطلح؟

نقول: الظاهر أنه شجر الموز، وبه يتم ما ذكرنا من الفائدة روي أن عليا عليه السلام سمع من يقرأ: {وطلح منضود} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو (وطلع)، واستدل بقوله تعالى: {لها طلع نضيد} (ق: ١٠) فقالوا: في المصاحف كذلك، فقال: لا تحول المصاحف،

فنقول: هذا دليل معجزة القرآن، وغزارة علم علي رضي اللّه عنه.

أما المعجزة فلأن عليا كان من فصحاء العرب ولما سمع هذا حمله على الطلع واستمر عليه، وما كان قد اتفق حرفه لمبادرة ذهنه إلى معنى، ثم قال في نفسه: إن هذا الكلام في غاية الحسن، لأنه تعالى ذكر الشجر المقصود منه الورق للاستظلال به، والشجر المقصود منه الثمر للاستغلال به، فذكر النوعين، ثم إنه لما اطلع على حقيقة اللفظ علم أن الطلح في هذا الموضع أولى، وهو أفصح من الكلام الذي ظنه في غاية الفصاحة فقال: المصحف بين لي أنه خير مما كان في ظني فالمصحف لا يحول.

والذي يؤيد هذا أنه لو كان طلع لكان قوله تعالى: {وفاكهة كثيرة} (الواقعة: ٣٢) تكرار أحرف من غير فائدة،

وأما على الطلح فتظهر فائدة قوله تعالى: {وفاكهة} وسنبينها إن شاء اللّه تعالى.

المسألة الخامسة: ما المنضود؟ فنقول:

أما الورق

وأما الثمر، والظاهر أن المراد الورق، لأن شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقا بعد ورق، وهو ينبت كشجر الحنطة ورقا بعد ورق وساقه يغلظ وترتفع أوراقه، ويبقى بعضها دون بعض، كما في القصب، فموز الدنيا إذا ثبت كان بين القصب وبين بعضها فرجة، وليس عليها ورق، وموز الآخرة يكون ورقه متصلا بعضه ببعض فهو أكثر أوراقا،

وقيل: المنضود المثمر،

فإن قيل: إذا كان الطلح شجرا فهو لا يكون منضودا وإنما يكون له ثمر منضود، فكيف وصف به الطلح؟

نقول: هو من باب حسن الوجه وصف بسبب اتصاف ما يتصل به، يقال: زيد حسن الوجه، وقد يترك الوجه ويقال: زيد حسن والمراد حسن الوجه ولا يترك إن أوهم فيصح أن يقال: زيد مضروب الغلام، ولا يجوز ترك الغلام لأنه يوهم الخطأ،

وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه.

٣٠

بم ثم قال تعالى: {وظل ممدود}.

وفيه وجوه

الأول: ممدود زمانا، أي لا زوال له فهو دائم، كما قال تعالى: {أكلها دائم وظلها} (الرعد: ٣٥) أي كذلك

الثاني: ممدود مكانا، أي يقع على شيء كبير ويستره من بقعة الجنة

الثالث: المراد ممدود أي منبسط، كما قال تعالى: {والارض مددناها} (الحجر: ١٩)

فإن قيل: كيف يكون

الوجه الثاني؟ نقول: الظل قد يكون مرتفعا، فإن الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو فيتراكم الظل فيسود وجه الأرض وإذا كانت على أحد جانبيها قريبة من الأفق ينبسط على وجه الأرض فيضيء الجو ولا يسخن وجه الأرض، فيكون في غاية الطيبة،

فقوله: {وظل ممدود} أي عند قيامه عمودا على الأرض كالظل بالليل، وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار بل ظل يخلقه اللّه تعالى.

٣١

[بم وقوله تعالى:] {ومآء مسكوب}

الأول: مسكوب من فوق، وذلك لأن العرب أكثر ما يكون عندهم الآبار والبرك فلا سكب للماء عندهم بخلاف المواضع التي فيها العيون النابعة من الجبال الحاكمة على الأرض تسكب عليها

الثاني: جار في غير أخدود، لأن الماء المسكوب يكون جاريا في الهواء ولا نهر هناك، كذلك الماء في الجنة

الثالث: كثير وذلك الماء عند العرب عزيز لا يسكب، بل يحفظ ويشرب، فإذا ذكروا النعم يعدون كثرة الماء ويعبرون عن كثرتها بإراقتها وسكبها، والأول أصح.

٣٢

بم ثم قال تعالى: {وفاكهة كثيرة}. لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ذكر بعدها الأشجار التي يقصد ثمرها،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما الحكمة في تقديم الأشجار المورقة على غير المورقة؟

نقول: هي ظاهرة، وهو أنه قدم الورق على الشجر على طريقة الارتقاء من نعمة إلى ذكر نعمة فوقها، والفواكه أتم نعمة.

المسألة الثانية: ما الحكمة في ذكر الأشجار المورقة بأنفسها، وذكر أشجار الفواكه بثمارها؟

نقول: هي أيضا ظاهرة، فإن الأوراق حسنها عند كونها على الشجر،

وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة سواء كانت عليها أو مقطوعة، ولهذا صارت الفواكه لها أسماء بها تعرف أشجارها، فيقال: شجر التين وورقه.

المسألة الثالثة: ما الحكمة في وصف الفاكهة بالكثرة، لا بالطيب واللذة؟

نقول: قد بينا في سورة الرحمن أن الفاكهة فاعلة كالراضية في قوله: {فى عيشة راضية} (الحاقة: ٢١) أي ذات فكهة، وهي لا تكون بالطبيعة إلا بالطيب واللذة،

وأما الكثرة، فبينا أن اللّه تعالى حيث ذكر الفاكهة ذكر ما يدل على الكثرة، لأنها ليست لدفع الحاجة حتى تكون بقدر الحاجة، بل هي للتنعم، فوصفها بالكثرة والتنوع.

٣٣

المسألة الرابعة: {لا مقطوعة} أي ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن {ولا ممنوعة} أي لا تمنع من الناس لطلب الأعواض والأثمان، والممنوع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ظاهر في الحس، لأن الفاكهة في الدنيا تمنع عن البعض فهي ممنوعة، وفي الآخرة ليست ممنوعة.

وأما القطع فيقال في الدنيا: إنها انقطعت فهي منقطعة لا مقطوعة، فقوله تعالى: {لا مقطوعة} في غاية الحسن، لأن فيه إشارة إلى دليل عدم القطع، كما أن في: {لا * ممنوعة} دليلا على عدم المنع، وبيانه هو أن الفاكهة في الدنيا لا تمنع إلا لطلب العوض، وحاجة صاحبها إلى ثمنها لدفع حاجة به، وفي الآخرة مالكها اللّه تعالى ولا حاجة له، فلزم أن لا تمنع الفاكهة من أحد كالذي له فاكهة كثيرة، ولا يأكل ولا يبيع، ولا يحتاج إليها بوجه من الوجوه لا شك في أن يفرقها ولا يمنعها من أحد.

وأما الانقطاع فنقول الذي يقال في الدنيا: الفاكهة انقطعت، ولا يقال عند وجودها: امتنعت، بل يقال: منعت، وذلك ون الإنسان لا يتكلم إلا بما يفهمه الصغير والكبير، ولكن كل أحد إذا نظر إلى الفاكهة زمان وجودها يرى أحدا يحوزها ويحفظها ولا يراها ينفسها تمتنع فيقول: إنها ممنوعة،

وأما عند انقطاعها وفقدها لا يرى أحدا قطعها حسا وأعدمها فيظنها منقطعة بنفسها لعدم إحساسه بالقاطع ووجود إحساسه بالمانع،

فقال تعالى: لو نظرتم في الدنيا حق النظر علمتم أن كل زمان نظرا إلى كونه ليلا ونهارا ممكن فيه الفاكهة فهي بنفسها لا تنقطع، وإنما لا توجد عند المحقق لقطع اللّه إياها وتخصيصها بزمان دون زمان، وعند غير المحقق لبرد الزمان وحره، وكونه محتاجا إلى الظهور والنمو والزهر ولذلك تجري العادة بأزمنة فهي يقطعها الزمان في نظر غير المحقق فإذا كانت الجنة ظلها ممدودا لا شمس هناك ولا زمهرير استوت الأزمنة واللّه تعالى يقطعها فلا تكون مقطوعة بسبب حقيقي ولا ظاهر، فالمقطوع يتفكر الإنسان فيه ويعلم أنه مقطوع لا منقطع من غير قاطع، وفي الجنة لا قاطع فلا تصير مقطوعة.

المسألة الخامسة: قدم نفي كونها مقطوعة لما أن القطع للموجود والمنع بعد الوجود لأنها توجد أولا ثم تمنع فإن لم تكن موجودة لا تكون ممنوعة محفوظة فقال: لا تقطع فتوجد أبدا ثم إن ذلك الموجود لا يمنع من أحد وهو ظاهر غير أنا نحب أن لا نترك شيئا مما يخطر بالبال ويكون صحيحا.

٣٤

بم ثم قال تعالى: {وفرش مرفوعة} وقد ذكرنا معنى الفرش ونذكر وجها آخر فيها إن شاء اللّه تعالى،

أحدها: وأما المرفوعة ففيها ثلاثة أوجه مرفوعة القدر يقال: ثوب رفيع أي عزيز مرتفع القدر والثمن ويدل عليه قوله تعالى: {على فرش بطائنها} (الرحمان: ٥٤)

وثانيها: مرفوعة بعضها فوق بعض

ثالثها: مرفوعة فوق السري

٣٥

بم ثم قال تعالى: {إنآ أنشأناهن إنشآء}

وفي الإنشاء مسائل:

المسألة الأولى: الضمير في: {أنشأناهن} عائد إلى من؟

فيه ثلاثة أوجه

أحدها: إلى {حور * عين} (الواقعة: ٢٢) وهو بعيد لبعدهن ووقوعهن في قصة أخرى

ثانيها: أن المراد من الفرش النساء والضمير عائد إليهن لقوله تعالى: {هن لباس لكم} (البقرة: ١٨٧)، ويقال للجارية صارت فراشا وإذا صارت فراشا رفع قدرها بالنسبة إلى جارية لم تصر فراشا، وهو أقرب من  الأول لكن يبعد ظاهرا لأن وصفها بالمرفوعة ينبىء عن خلاف ذلك

وثالثها: أنه عائد إلى معلوم دل عليه فرش لأنه قد علم في الدنيا وفي مواضع من ذكر الآخرة، أن في الفرش حظايا تقديره وفي فرش مرفوعة حظايا منشآت وهو مثل ما ذكر في قوله تعالى: {قاصرات الطرف} (الرحمان: ٥٦) {*ومقصورات} (الرحمان: ٧٢) فهو تعالى أقام الصفة مقام الموصوف ولم يذكر نساء الآخرة بلفظ حقيقي أصلا وإنما عرفهن بأوصافهن ولباسهن إشارة إلى صونهن وتخدرهن، وقوله تعالى: {مرفوعة إنا أنشأناهن} يحتمل أن يكون المراد الحور فيكون المراد الإنشاء الذي هو الابتداء، ويحتمل أن يكون المراد بنات آدم فيكون الإنشاء بمعنى إحياء الإعادة،

٣٦

فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا

وقوله تعالى: {أبكارا} يدل على الثاني لأن الإنشاء لو كان بمعنى الابتداء لعلم من كونهن أبكارا من غير حاجة إلى بيان ولما كان المراد إحياء بنات آدم قال: {أبكارا} أي نجعلهن أبكارا وإن متن ثيبات،

فإن قيل: فما الفائدة على الوجه الأول؟

نقول: الجواب من وجهين

الأول: أن الوصف بعدها لا يكون من غيرها إذا كن أزواجهم الفائدة لأن البكر في الدنيا لا تكون عارفة بلذة الزوج فلا ترضى بأن تتزوج من رجل لا تعرفه وتختار التزويج بأقرانها ومعارفها لكن أهل الجنة إذا لم يكن من جنس أبناء آدم وتكون الواحدة منهن بكرا لم تر زوجا ثم تزوجت بغير جنسها فربما يتوهم منها سوء

عشرة فقال: {أبكارا} فلا يوجد فيهن ما يوجد في أبكار الدنيا

الثاني: المراد أبكارا بكارة تخالف بكارة الدنيا، فإن البكارة لا تعود إلا على بعد.

٣٧

عُرُبًا أَتْرَابًا

وقوله تعالى: {أترابا} يحتمل وجوها

أحدها: مستويات في السن فلا تفضل إحداهن على الأخرى بصغر ولا كبر كلهن خلقن في زمان واحد، ولا يلحقهن عجز ولا زمانة ولا تغير لون، وعلى هذا إن كن من بنات آدم فالفظ فيهن حقيقة، وإن كن من غيرهن فمعناه ما كبرن سمين به لأن كلا منهن تمس وقت مس الأخرى لكن نسي الأصل، وجعل عبارة عن ذلك كاللذة للمتساويين من العقلاء، فأطلق على حورالجنة أترابا

ثانيها: أترابا متماثلات في النظر إليهن كالأتراب سواء وجدن في زمان أو في أزمنة، والظاهر أنه في أزمنة لأن المؤمن إذا عمل عملا صالحا خلق له منهن ما شاء اللّه

ثالثها: أترابا لأصحاب اليمين، أي على سنهم، وفيه إشارة إلى الاتفاق، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشاب يعيره.

المسألة الثانية: إن قيل ما الفائدة في قوله: {فجعلناهن}؟

٣٨

نقول: فائدته ظاهرة تتبين بالنظر إلى اللام في: {لاصحاب اليمين}

فنقول: إن كانت اللام متعلقة بأترابا يكون معناه: {أنشأناهن} وهذا لا يجوز وإن كانت متعلقة بأنشأناهن يكون معناه أنشأناهن لأصحاب اليمين والإنشاء حال كونهن أبكارا وأترابا فلا يتعلق الإنشاء بالأبكار بحيث يكون كونهن أبكارا بالإنشاء لأن الفعل لا يؤثر في الحال تأثيرا واجبا

فنقول: صرفه للإنشاء لا يدل على أن الإنشاء كان بفعل فيكون الإنعام عليهم بمجرد إنشائهن لأصحاب اليمين: {فجعلناهن أبكارا} ليكون ترتيب المسبب على السبب فاقتضى ذلك كونهن أبكارا،

وأما إن كان الإنشاء أولا من غير مباشرة للأزواج ما كان يقتضي جعلهن أبكارا فالفاء لترتيب المقتضى على المقتضى.

٣٩

انظر تفسير الآية:٤٠

٤٠

بم ثم قال تعالى: {ثلة من الاولين}.

وقد ذكرنا ما فيه لكن هنا لطيفة: وهي أنه تعالى قال في السابقين: {ثلة من الاولين} (الواقعة: ١٣) قبل ذكر السرر والفاكهة والحور وذكر في أصحاب اليمين: {ثلة من الاولين} بعد ذكر هذه النعم،

نقول: السابقون لا يلتفتون إلى الحور العين والمأكول والمشروب ونعم الجنة تتشرف بهم، وأصحاب اليمين يلتفتون إليها فقدم ذكرها عليهم ثم قال: هذا لكم

وأما السابقون فذكرهم أولا ثم ذكر مكانهم، فكأنه قال لأهل الجنة هؤلاء واردون عليكم.

والذي يتمم هذه اللطيفة أنه تعالى لم يقدم ثلة السابقين إلا لكونهم مقربين حسا فقال: {المقربون * في جنات} (الواقعة: ١١، ١٢)

ثم قال: {ثلة} ثم ذكر النعم لكونها فوق الدنيا إلا المودة في القربى من اللّه فإنها فوق كل شيء، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى} (الشورى: ٢٣) أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله: {وإن له عندنا لزلفى} (ص: ٢٥)

وأما قوله: {في جنات النعيم} (الواقعة: ١٢) فقد ذكرنا أنه لتمييز مقربي المؤمنين من مقربي الملائكة، فإنهم مقربون في الجنة وهم مقربون في أماكنهم لقضاء الأشغال التي للناس وغيرهم بقدرة اللّه وقد بان من هذا أن المراد من أصحاب اليمين هم الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا وعفا اللّه عنهم بسبب أدنى حسنة لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت وسنذكر الدليل عليه في قوله تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} (الواقعة: ٩١).

٤١

انظر تفسير الآية:٤٢

٤٢

بم ثم قال تعالى: ( {وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما الحكمة في ذكر السموم والحميم وترك ذكر النار وأهوالها؟

نقول: فيه إشارة بالأدنى إلى الأعلى فقال: هواؤهم الذي يهب عليهم سموم، وماؤهم الذي يستغيثون به حميم، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء، وهما أي السموم والحميم من أضر الأشياء بخلاف الهواء والماء في الدنيا فإنهما من أنفع الأشياء فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أيضا أحر، ولو قال: هم في نار، كنا نظن أن نارهم كنارنا لأنا ما رأينا شيئا أحر من التي رأيناها، ولا أحر من السموم، ولا أبرد من الزلال، فقال: أبرد الأشياء لهم أحرها فكيف حالهم مع أحرها،

فإن قيل: ما السموم؟

نقول: المشهور هي ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا، والأولى أن يقال: هي هواء متعفن، يتحرك من جانب إلى جانب فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتل الإنسان، وأصله من السم كسم الحية والعقرب وغيرهما، ويحتمل أن يكون هذا السم من السم، وهو خرم الإبرة، كماقال تعالى: {حتى يلج الجمل فى سم الخياط} (الأعراف: ٤٠) لأن سم الأفعى ينفذ في المسام فيفسدها،

وقيل: إن السموم مختصة بما يهب ليلا، وعلى هذا فقوله: {سموم} إشارة إلى ظلمة ما هم فيه غير أنه بعيد جدا، لأن السموم قد ترى بالنهار بسبب كثافتها.

المسألة الثانية: الحميم هو الماء الحار وهو فعيل بمعنى فاعل من حمم الماء بكسر الميم، أو بمعنى مفعول من حمم الماء إذا سخنه، وقد ذكرناه مرارا غير أن ههنا لطيفة لغوية: وهي أن فعولا لما تكرر منه الشيء والريح لما كانت كثيرة الهبوب تهب شيئا بعد شيء خص السموم بالفعول، والماء الحار لما كان لا يفهم منه الورود شيئا بعد شيء لم يقل: فيه حموم،

فإن قيل: ما اليحموم؟

نقول: فيه وجوه

أولها: أنه اسم من أسماء جهنم

ثانيها: أنه الدخان

ثالثها: أنه الظلمة، وأصله من الحمم وهو الفحم فكأنه لسواده فحم فسموه باسم مشتق منه، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه، وربما تكون الزيادة فيه جاءت لمعنيين: الزيادة في سواده والزيادة في حرارته، وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى دونهم في العذاب دائما لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم الهواء الذي هو السموم،

٤٣

وإن استكنوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكن يكونوا في ظل من يحموم وإن أرادوا الرد عن أنفسهم السموم بالاستكنان في مكان من حميم فلا انفكاك لهم من عذاب الحميم، ويحتمل أن يقال فيه ترتيب وهو أن السموم يضربه فيعطش وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه ويريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل ظل اليحموم،

فإن قيل: كيف وجه استعمال (من) في قوله تعالى: {من يحموم}؟

فنقول: إن قلنا إنه اسم جهنم فهو لابتداء الغاية كما تقول: جاءني نسيم من الجنة،

وإن قلنا: إنه دخان فهو كما في قولنا : خاتم من فضة،

وإن قلنا: إنه الظلمة فكذلك،

فإن قيل: كيف يصح تفسيره بجهنم مع أنه اسم منصرف منكر فكيف وضع لمكان معرف، ولو كان اسما لها،

قلنا: استعماله بالألف واللام كالجحيم، أو كان غير منصرف كأسماء جهنم يكون مثله على ثلاثة مواضع كلها يحموم.

٤٤

بم ثم قال تعالى: {لا بارد ولا كريم}.

قال الزمخشري: كرم الظل نفعه الملهوف، ودفعه أذى الحر عنه، ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد، والأقرب أن يقال: فائدة الظل أمران:

أحدهما دفع الحر، والآخر كون الإنسان فيه مكرما، وذلك لأن الإنسان في البرد يقصد عين الشمس ليتدفأ بحرها إذا كان قليل الثياب، فإذا كان من المكرمين يكون أبدا في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه في الظل،

أما الحر فظاهر،

وأما البرد فيدفعه بإدفاء الموضع بإيقاد ما يدفئه، فيكون الظل في الحر مطلوبا للبرد فيطلب كونه باردا، وفي البرد يطلب لكونه ذا كرامة لا لبرد يكون في الظل فقال: {لا بارد} يطلب لبرده، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه، وذلك لأن المواضع التي يقع عليها ظل كالمواضع التي تحت أشجار وأمام الجدار يتخذ منها مقاعد فتصير تلك المقاعد محفوظة عن الفاذورات، وباقي المواضع تصير مزابل، ثم إذا وقعت الشمس في بعض الأوقات عليها تطلب لنظافتها، وكونها معدة للجلوس، فتكون مطلوبة في مثل هذا الوقت لأجل كرامتها لا لبردها، فقوله تعالى: {لا بارد ولا كريم} يحتمل هذا، ويحتمل أن يقال: إن الظل يطلب لأمر يرجع إلى الحس، أو لأمر يرجع إلى العقل، فالذي يرجع إلى الحس هو برده، والذي يرجع إلى العقل أن يكون الرجوع إليه كرامة، وهذا لا برد له ولا كرامة فيه، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي عن الفراء أن العرب تتبع كل منفي بكريم إذا كان المنفي أكرم فيقال: هذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة، والتحقيق فيه ما ذكرنا أن وصف الكمال،

أما حسي،

وأما عقلي، والحسي يصرح بلفظه،

وأما العقلي فلخفائه عن الحس يشار إليه بلفظ جامع، لأن الكرامة، والكرامة عند العرب من أشهر أوصاف المدح ونفيهما نفي وصف الكمال العقلي، فيصير قوله تعالى: {لا بارد ولا كريم} معناه لا مدح فيه أصلا لا حسا ولا عقلا.

٤٥

بم ثم قال تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين}.

وفي الآيات لطائف، نذكرها في مسائل: 

المسألة الأولى: ما الحكمة في بيان سبب كونهم في العذاب مع أنه تعالى لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم، ولم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين؟

فنقول: قد ذكرنا مرارا أن اللّه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة، وعند إيصال العقاب يذكر أعمال المسيئين لأن الثواب فضل والعقاب عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم،

وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلما فقال: هم فيها بسبب ترفهم، والذي يؤيد هذه اللطيفة أن اللّه تعالى قال في حق السابقين: {جزاء بما كانوا يعملون} (الواقعة: ٢٤) ولم يقل: في حق أصحاب اليمين، ذلك لأنا أشرنا أن أصحاب اليمين هم الناجون بالفضل العظيم، وسنبين ذلك في قوله تعالى: {فسلام لك} (الواقعة: ٩١) وإذا كان كذلك فالفضل في حقهم متمحض فقال: هذه النعم لكم، ولم يقل جزاء لأن قوله: {جزاء} في مثل هذا الموضع، وهو موضع العفو عنهم لا يثبت لهم سرورا بخلاف من كثرت حسناته، فيقال له: نعم ما فعلت خذ هذا لك جزاء.

المسألة الثانية: جعل السبب كونهم مترفين وليس كل من هو من أصحاب الشمال يكون مترفا فإن فيهم من يكون فقيرا؟ نقول قوله تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} ليس بذم، فإن المترف هو الذي جعل ذا ترف أي نعمة، فظاهر ذلك لا يوجب ذما، لكن ذلك يبين قبح ما ذكر عنهم بعده وهو قوله تعالى: {وكانوا يصرون} لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال: إنهم كانوا مترفين، ولم يشكروا نعم اللّه بل أصروا على الذنب وعلى هذا

فنقول: النعم التي تقتضي شكر اللّه وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل، غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب، فيقال في حقل البعض بالنسبة إلى بعض: إنه في ضر، ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها مفتقرة إلى مسكني يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس، ثم إن أحدا لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات، لا تفقد مدخلا أو مغارة،

وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد، كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان، بقي أمر المأكول والمشروب، فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء، غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتا مزخرفا ولباسا فاخرا ومأكولا طيبا، وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق، وطلب الغنى يورث فقره، وارتياد الارتفاع يحط قدره، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره على أننا نقول في قوله تعالى: {كانوا قبل ذلك مترفين} لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة، والأعين الباصرة، وبان لهم الحقائق، علموا {إنهم كانوا * قبل ذلك مترفين} بالنسبة إلى تلك الحالة.

٤٦

وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ

المسألة الثالثة: ما الإصرار على الحنث العظيم؟

نقول: الشرك، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) وفيها لطيفة وهي أنه أشار في الآيات الثلاث إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} من حيث الاستعمال يدل على ذمهم بإنكار الرسل، إذ المترف متكبر بسبب الغنى فينكر الرسالة، والمترفون كانوا يقولون: {أبشر * منا واحدا نتبعه} (القمر: ٣٤)

وقوله: {يصرون على الحنث العظيم} (الواقعة: ٤٦) إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد،

وقوله تعالى: {وكانوا يقولون * أءذا متنا وكنا ترابا} إشارة إلى إنكار الحشر والنشر،

وقوله تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} فيه مبالغات من وجوه

أحدها: قوله تعالى: {كانوا * يصرون} وهو آكد من قول القائل: إنهم قبل ذلك أصروا لأن

اجتماع لفظي الماضي والمستقبل يدل على الاستمرار، لأن قولنا: فلان كان يحسن إلى الناس، يفيد كون ذلك عادة له

ثانيها: لفظ الإصرار فإن الإصرار مداومة المعصية والغلول، ولا يقال: في الخير أصر

ثالثها: الحنث فإنه فوق الذنب فإن الحنث لا يكاد في اللغة يقع على الصغيرة والذنب يقع عليها،

وأما الحنث في اليمين فاستعملوه لأن نفس الكذب عند العقلاء قبيح، فإن مصلحة العالم منوطة بالصدق وإلا لم يحصل لأحد بقول أحد ثقة فلا يبنى على كلامه مصالح، ولا يجتنب عن مفاسد، ثم إن الكذب لما وجد في كثير من الناس لأغراض فاسدة أرادوا توكيد الأمر بضم شيء إليه يدفع توهمه فضموا إليه الأيمان ولا شيء فوقها، فإذا حنث لم يبق أمر يفيد الثقة فيلزم منه فساد فوق فساد الزنا والشرب، غير أن اليمين إذا كانت على أمر مستقبل ورأى الحالف غيره جوز الشرع الحنث ولم يجوزه في الكبيرة كالزنا والقتل لكثرة وقوع الأيمان وقلة وقوع القتل والذي يدل على أن الحنث هو الكبيرة قولهم للبالغ: بلغ الحنث، أي بلغ مبلغا بحيث يرتكب الكبيرة وقبله ما كان ينفي عنه الصغيرة، لأن الولي مأمور بالمعاقبة على إساءة الأدب وترك الصلاة.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {العظيم} هذا يفيد أن المراد الشرك، فإن هذه الأمور لا تجتمع في غيره.

٤٧

وَكَانُوا يَقُولُونَ أَاِذَا مِتْنَا

المسألة الخامسة: كيف اشتهر {متنا} بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام: {ويوم أموت} (مريم: ٣٣) ولم يقرأ أمات على وزن أخاف، وقال تعالى: {قل موتوا} (آل عمران: ١١٩) ولم يقل: قل ماتوا،

وقال تعالى: {ولا تموتن} (آل عمران: ١٠٢) ولم يقل: ولا تماتوا كما قال: {لا * تخافوا} (الصافات: ٣٠) أقلنا: فيه وجهان

أحدهما: أن هذه الكلمة خالفت غيرها، فقيل فيها: {أموات} والسماع مقدم على القياس

والثاني: مات يمات لغة في مات يموت، فاستعمل ما فيها الكسر لأن الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين

أحدهما: كثرة يفعل على يفعل

وثانيهما: كونه على فعل يفعل، مثل خاف يخاف، وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين

أحدهما: كون الفعل على فعل يفعل، مثل طال يطول، فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر،

وثانيهما : كونه على فعل يفعل، تقول: فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم. 

المسألة السادسة: كيف أتى باللام المؤكدة في قوله: {لمبعوثون} مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال: إن زيدا ليجيء وإن زيدا لا يجيء، فلا تذكر اللام، وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث؟

نقول:  الجواب عنه من وجهين

أحدهما: عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته

ثانيهما: أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولا: {أءذا متنا} ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده: {وكنا ترابا وعظاما} أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتا حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا، ثم زادوا وقالوا: مع هذا يقال لنا: {إنكم * لمبعوثون} بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه

أحدها: استعمال كلمة إن

ثانيها: إثبات اللام في خبرها

ثالثها: ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، فقالوا لنا: {إنكم * لمبعوثون}

٤٨

ثم زادوا وقالوا: {أو ءاباؤنا الاولون} يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث؟ وقد بينا في سورة والصافات هذا كله

وقلنا: إن قوله: {أو ءاباؤنا الاولون} (الصافات: ١٧) معناه: أو يقولوا: آباؤنا الأولون، إشارة إلى أنهم في الإشكال أعظم، ثم إن اللّه تعالى أجابهم ورد عليهم في الجواب في كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال:

٤٩

{قل إن الاولين والاخرين}.

فقوله: {قل} إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور، وذلك أن في الرسالة أسرارا لا تقال إلا للأبرار، ومن جملتها تعيين وقت القيامة لأن العوام لو علموا لاتكلوا والأنبياء ربما اطلعوا على علاماتها أكثر مما بينوا وربما بينوا للأكابر من الصحابة علامات على ما نبين

ففيه وجوه

أولها: قوله: {قل} يعني أن هذا من جملة الأمور التي بلغت في الظهور إلى حد يشترك فيه العوام والخواص، فقال: قل قولا عاما وهكذا في كل موضع، قال: قل كان الأمر ظاهرا، قال اللّه تعالى: {قل هو اللّه أحد} (الصمد: ١)

وقال: {قل إنما أنا بشر مثلكم} (الكهف: ١١٠)

وقال: {قل الروح من أمر ربى} (الإسراء: ٨٥) أي هذا هو الظاهر من أمر الروح وغيره خفي

ثانيها: قوله تعالى: {إن الاولين والاخرين} بتقديم الأولين على الآخرين في جواب قولهم: {أو ءاباؤنا الاولون} (الواقعة: ٤٨) فإنهم أخروا ذكر الآباء لكون الاستبعاد فيهم أكثر، فقال إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم وتؤخرونهم يبعثهم اللّه في أمر مقدم على الآخرين، يتبين منه إثبات حال من أخرتموه مستبعدين، إشارة إلى كون الأمر هينا

٥٠

ثالثها: قوله تعالى: {لمجموعون} فإنهم أنكروا قوله: {لمبعوثون} (الواقعة: ٤٧) فقال: هو واقع مع أمر زائد، وهو أنهم يحشرون ويجمعون في عرصة الحساب، وهذا فوق البعث، فإن من بقي تحت التراب مدة طويلة ثم حشر ربما لا يكون له قدرة على الحركة، وكيف لو كان حيا محبوسا في قبره مدة لتعذرت عليه الحركة، ثم إنه تعالى بقدرته يحركه بأسرع حركة ويجمعه بأقوى سير، وقوله تعالى: {لمجموعون} فوق قول القائل: مجموعون كما

قلنا: إن قول قول القائل: إنه يموت في إفادة التوكيد دون قوله: إنه ميت

رابعها: قوله تعالى: {إلى ميقات يوم معلوم} فإنه يدل على أن اللّه تعالى يجمعهم في يوم واحد معلوم، واجتماع عدد من الأموات لا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى في وقت واحد أعجب من نفس البعث وهذا كقوله تعالى في سورة والصافات: {فإنما هى زجرة واحدة} (الصافات: ١٩) أي أنتم تستبعدون نفس البعث، والأعجب من هذا أنه يبعثهم بزجرة واحدة أي صيحة واحدة: {فإذا هم ينظرون} أي يبعثون مع زيادة أمر، وهو فتح أعينهم ونظرهم، بخلاف من نعس فإنه إذا انتبه يبقى ساعة ثم ينظر في الأشياء، فأمر الإحياء عند اللّه تعالى أهون من تنبيه نائم خامسها: حرف {إلى} أدل على البعث من اللام، ولنذكر هذا في جواب سؤال هو أن اللّه تعالى قال: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} (التغابن: ٩)

وقال هنا: {لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} ولم يقل: لميقاتنا وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} (التغابن: ١٤٣)

نقول: لما كان ذكر الجمع جوابا للمنكرين المستبعدين ذكر كلمة {إلى} الدالة على التحرك والانتقال لتكون أدل على فعل غير البعث ولا يجمع هناك قال: {يوم يجمعكم ليوم} ولا يفهم النشور من نفس الحرف وإن كان يفهم من الكلام، ولهذا قال ههنا: {لمجموعون} بلفظ التأكيد، وقال هناك: {يجمعكم} وقال ههنا: {إلى ميقات} وهو مصير الوقت إليه،

وأما قوله تعالى: {فلما جآء * موسى لميقاتنا} فنقول: الموضع هناك لم يكن مطلوب موسى عليه السلام، وإنما كان مطلوبه الحضور، لأن من وقت له وقت وعين له موضع كانت حركته في الحقيقة لأمر بالتبع إلى أمر

وأما هناك فالأمر الأعظم الوقوف في موضعه لا زمانه فقال بكلمة دلالتها على الموضع والمكان أظهر.

٥١

بم ثم قال تعالى: {ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون}.

في تفسير الآيات مسائل:

المسألة الأولى: الخطاب مع من؟

نقول: قال بعض المفسرين مع أهل مكة، والظاهر أنه عام مع كل ضال مكذب وقد تقدم مثل هذا في مواضع، وهو تمام كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم كأنه تعالى قال لنبيه: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون ثم إنكم تعذبون بهذه الأنواع من العذاب.

المسألة الثانية: قال ههنا: {الضالون المكذبون} بتقديم الضال وقال في آخر السورة: {وأما إن كان من المكذبين الضالين} (الواقعة: ٩٢) بتقديم المكذبين، فهل بينهما فرق؟ قلت: نعم، وذلك أن المراد من الضالين ههنا هم الذين صدر منهم الإصرار على الحنث العظيم، فضلوا في سبيل اللّه ولم يصلوا إليه ولم يوحدوه، وذلك ضلال عظيم، ثم كذبوا رسله وقالوا: {أءذا متنا} فكذبوا بالحشر، فقال: {أيها الضالون} الذين أشركتم: {المكذبون} الذين أنكرتم الحشر لتأكلون ما تكرهون،

وأما هناك فقال لهم: {أيها * المكذبون} الذين كذبتم بالحشر: {الضالون} في طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هنا مع الكفار فقال: يا أيها الذين ضللتم أولا وكذبتم ثانيا، والخطاب في آخر السورة مع محمد صلى اللّه عليه وسلم يبين له حال الأزواج الثلاثة فقال: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم، وأصحاب اليمين في سلام،

وأما المكذبون الذين كذبوا فقد ضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامة محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم والذي يدل على أن الكلام هناك مع محمد صلى اللّه عليه وسلم قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} (الواقعة: ٩١).

٥٢

لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ

المسألة الثالثة: ما الزقوم؟

نقول: قد بيناه في موضع آخر واختلف فيه أقوال الناس ومآل الأقوال إلى كون ذلك في الطعم مرا وفي اللمس حارا، وفي الرائحة منتنا، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يسيغه فيكره على ابتلاعه، والتحقيق اللغوي فيه أن الزقوم لغية عربية دلنا تركيبه على قبحه، وذلك لأن زق لم يجتمع إلا في مهمل أو في مكروه منه مزق، ومنه زمق شعره إذا نتفه، ومنه القزم للدناءة، وأقوى من هذا أن القاف مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل على المكروه في أكثر الأمر، فالقاف مع الميم قمامة وقمقمة، وبالعكس مقامق، الغليظ الصوت والقمقمة هو السور،

وأما القاف مع الزاي فالزق رمي الطائر بذرقه، والزقزقة الخفة، وبالعكس القزنوب فينفر الطبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقبح، ثم قرن بالأكل فدل على أنه طعام ذو غضة،

وأما ما يقال بأن العرب تقول: زقمني بمعنى أطعمتني الزبد والعسل واللبن، فذلك للمجانة كقولهم: أرشقني بثوب حسن، وأرجمني بكيس من ذهب،

وقوله: {من شجر} لابتداء الغاية أي تناولكم منه،

٥٣

وقوله: {فمالئون منها} زيادة في بيان العذاب أي لا يكتفى منكم بنفس كما الأكل يكتفي من يأكل الشيء لتحلة القسم، بل يلزمون بأن تملأوا منها البطون والهاء عائدة إلى الشجرة، والبطون يحتمل أن يكون المراد منه مقابلة الجمع بالجمع أي يملأ كل واحد منكم بطنه ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد منكم يملأ البطون، والبطون حينئذ تكون بطون الأمعاء، لتخيل وصف المعي في باطن الإنسان له كيأكل في سبعة أمعاء، فيملأون بطون الأمعاء وغيرها، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب والوعيد،

٥٤

قوله: {فشاربون عليه} أي عقيب الأكل تجر مرارته وحرارته إلى شرب الماء فيشربون على ذلك المأكول وعلى ذلك الزقوم من الماء الحار، وقد تقدم بيان الحميم،

٥٥

وقوله: {فشاربون شرب الهيم} بيان أيضا لزيادة العذاب أي لا يكون أمركم أمر من شرب ماءا حارا منتنا فيمسك عنه بل يلزمكم أن تشربوا منه مثل ما تشرب الهيم وهي الجمال التي أصابها العطش فتشرب ولا تروى، وهذا البيان في الشرب لزيادة العذاب، وقوله: {فمالئون منها} في الأكل،

فإن قيل: إلهيم إذا شرب الماء الكثير يضره ولكن في الحال يلتذ به، فهل لأهل الجحيم من شرب الحميم الحار في النار لذة؟

قلنا: لا، وإنما ذلك لبيان زيادة العذاب، ووجهه أن يقال: يلزمون بشرب الحميم ولا يكتفي منهم بذلك الشرب بل يلزمون أن يشربوا كما يشرب الجمل إلهيم الذي به الهيام، أو هم إذا شربوا تزداد حرارة الزقوم في جوفهم فيظنون أنه من الزقوم لا من الحميم فيشربون منه شيئا كثيرا بناء على وهم الري، والقول في الهيم كالقول في البيض، أصله هوم، وهذا من هام يهيم كأنه من العطش يهيم، والهيام ذلك الداء الذي يجعله كالهائم من العطش.

٥٦

بم ثم قال تعالى: {هذا نزلهم يوم الدين}. يعني ليس هذا كل العذاب بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه وأقطع لأمعائهم.

٥٧

بم ثم قال تعالى: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون}.

دليلا على كذبهم وصدق الرسل في الحشر لأن قوله: {ءأنتم * تخلقونه} إلزام على الإقرار بأن الخالق في الابتداء هو اللّه تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا كان قادرا على الخلق ثانيا، ولا مجال للنظر في ذاته وصفاته تعالى وتقدس، وإن لم يعترفوا به، بل يشكون ويقولن: الخلق

الأول من مني بحسب الطبيعة،

فنقول: المنى من الأمور الممكنة ولا وجود للممكن بذاته بل بالغير على ما عرف، فيكون المنى من القادر القاهر، وكذلك خلق الطبيعة وغيرها من الحادثات أيضا، فقال لهم: هل تشكون في أن اللّه خلقكم أولا أم لا؟

فإن قالوا: لا نشك في أنه خالقا، فيقال: فهل تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا؟ فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء هي عنده معلومة، وإن كنتم تشكون وتقولون: الخلق لا يكون إلا من منى وبعد الموت لا والده ولا مني، فيقال لهم: هذا المنى أنتم تخلقونه أم اللّه، فإن كنتم تعترفون باللّه وبقدرته وإرادته وعمله، فذلك يلزمكم القول بجواز الحشر وصحته، و(لولا) كلمة مركبة من كلمتين معناها التحضيض والحث والأصل فيه: لم لا، فإذا قلت: لم لا أكلت ولم ما أكلت، جاز الاستفهامان، فإن معناه لا علة لعدم الأكل ولا يمكنك أن تذكر علة له، كما تقول: لم فعلت؟ موبخا، يكون معناه فعلت أمرا لا سبب له ولا يمكنك ذكر سبب له ثم إنهم تركوا حرف الاستفهام عن العلة وأتوا بحرف الاستفهام عن الحكم، فقالوا: هلا فعلت؟ كما يقولون في موضع: لم فعلت هذا وأنت تعلم فساده، أتفعل هذا وأنت عاقل؟ وفيه زيادة حث لأن قول القائل: لم فعلت حقيقته سؤال عن العلة، ومعناه أن علته غير معلومة وغير ظاهرة، فلا يجوز ظهور وجوده،

وقوله: أفعلت، سؤال عن حقيقته، ومعناه أنه في جنسه غير ممكن، والسائل عن العلة كأنه سلم الوجود وجعله معلوما وسأل عن العلة كما يقول القائل: زيد جاء فلم جاء، والسائل عن الوجود لم يسلمه، وقول القائل: لم فعلت وأنت تعلم ما فيه دون قوله: أفعلت وأنت تعلم ما فيه،

لأن في الأول جعله كالمصيب في فعله لعلة خفية تطلب منه،

وفي الثاني جعله مخطئا في أول الأمر، وإذا علم ما بين لم فعلت، وأفعلت، علم ما بين لم تفعل وهلا تفعل،

وأما (لولا) فنقول: هي كلمة شرط في الأصل والجملة الشرطية غير مجزومة بها كما أن جملة الاستفهام غير مجزوم به لكن لولا تدل على الاعتساف وتزيد نفي النظر والتواني، فيقول: لولا تصدقون، بدل قوله: لم لا، وهلا، لأنه أدل على نفي ما دخلت عليه وهو عدم التصديق وفيه لطيفة: وهي أن لولا تدخل على فعل ماض على مستقبل قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} (التوبة: ١٢٢) فما وجه اختصاص المستقبل ههنا بالذكر وهلا قال: فلولا صدقتم؟

نقول: هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال: لم لا تصدقون في ساعتكم، والدلائل واضحة مستمر

والفائدة حاصلة، فأما في قوله: {فلولا نفر} لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال: لو سافرتم لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك، فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضا في الاستقبال،

٥٨

انظر تفسير الآية: ٥٩

٥٩

ثم قال تعالى: {أفرءيتم ما تمنون} من تقرير قوله تعالى: {نحن خلقناكم} وذلك لأنه تعالى لما قال: {نحن خلقناكم}

قال الطبيعيون: نحن موجودون من نطف الخلق بجواهر كامنة وقبل كل واحد نطفة واحد فقال تعالى ردا عليهم: هل رأيتم هذا المنى وأنه جسم ضعيف متشابه الصورة لا بد له من مكون، فأنتم خلقتم النطفة أم غيركم خلقها، ولا بد من الاعتراف بخالق غير مخلوق قطعا للتسلسل الباطل وإلى ربنا المنتهى، ولا يرتاب فيه أحد من أول ما خلق اللّه النطفة وصورها وأحياها ونورها فلم لا تصدقون أنه واحد أحد صمد قادر على الأشياء، فإنه يعيدكم كما أنشأكم في الابتداء، والاستفهام يفيد زيادة تقرير وقد علمت ذلك مرارا.

٦٠

بم قال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين}.

وفيه مسائل.

المسألة الأولى: في الترتيب

فيه وجهان

أحدهما: أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى: {*}

وفيه مسائل.

المسألة الأولى: في الترتيب

فيه وجهان

أحدهما: أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى: {الذى خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) فقال: {نحن خلقناكم} (الواقعة: ٥٧)

ثم قال: {نحن قدرنا بينكم الموت} فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختارا فيمكن الإحياء ثانيا منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار، والموجب لا يقدر على كل شيء ممكن فقال: نحن خلقناكم وقدرنا الموت بينكم فانظروا فيه واعلموا أنا قادرون أن ننشئكم،

ثانيهما: أنه جواب عن قول مبطل يقول: إن لم تكن الحياة والموت بأمور طبيعية في الأجسام من حرارات ورطوبات إذا توفرت بقيت حية، وإذا نقصت وفنيت ماتت لم يقع الموت وكيف يليق بالحكيم أن يخلق شيئا يتقن خلقه ويحسن صورته ثم يفسده ويعدمه ثم يعيده وينشئه،

فقال تعالى: نحن قدرنا الموت، ولا يرد قولكم: لماذا أعدم ولماذا أنشأ، ولماذا هدم، لأن كمال القدرة يقتضي ذلك وإنما يقبح من الصائغ والباني صياغة شيء وبناؤه وكسره وإنشاؤه لأنه يحتاج إلى صرف زمان إليه وتحمل مشقة وما مثله إلا مثل إنسان ينظر إلى شيء فيقطع نظره عنه طرفة عين، ثم يعاوده ولا يقال له: لم قطعت النظر ولم نظرت إليه، وللّه المثل الأعلى من هذا، لأن هنا لا بد من حركة وزمان ولو توارد على الإنسان أمثاله لتعب لكن في المرة الواحدة لا يثبت التعب واللّه تعالى منزه عن التعب ولا افتقار لفعله إلى زمان ولا زمان لفعله ولا إلى حركة بجرم، وفيه وجه آخر ألطف منها، وهو أن قوله تعالى: {أفرءيتم ما تمنون} (الواقعة: ٥٨) معناه أفرأيتم ذلك ميتا لا حياة فيه وهو منى، ولو تفكرتم فيه لعلمتم أنه كان قبل ذلك حيا متصلا بحي وكان أجزاء مدركة متألمة متلذذة ثم إذا أمنيتموه لا تستريبون في كونه ميتا كالجمادات، ثم إن اللّه تعالى يخلقه آدميا ويجعله بشرا سويا فالنطفة كانت قبل الانفصال حية، ثم صارت ميتة ثم أحياها اللّه تعالى مرة أخرى فاعلموا أنما إذا خلقناكم أولا ثم قدرنا بينكم الموت ثانيا ثم ننشئكم مرة أخرى فلا تستبعدوا ذلك كما في النطف.

المسألة الثانية: ما الفرق بين هذا الموضع وبين أول سورة تبارك حيث قال هناك: {خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) بتقديم ذكر الموت؟

نقول: الكلام هنا على الترتيب الأصلي كما قال تعالى في مواضع منها قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: ١٢)

ثم قال بعد ذلك: {ثم إنكم بعد ذالك لميتون} (المؤمنون: ١٥)

وأما في سورة الملك فنذكر إن شاء اللّه تعالى فائدتها ومرجعها إلى ما ذكرنا أنه قال: خلق الموت في النطف بعد كونها حية عند الاتصال ثم خلق الحياة فيها بعد الموت وهو دليل الحشر،

وقيل: المراد من الموت هنا الموت الذي بعد الحياة، والمراد هناك الذي قبل الحياة.

المسألة الثالثة: قال ههنا: {نحن قدرنا} وقال في سورة الملك: {خلق الموت والحيواة} فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق، وههنا قال: {خلقناكم}

وقال: {قدرنا بينكم الموت}

فنقول: كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقا لا في الناس على الخصوص، وهنا لما قال: {خلقناكم} (الواقعة: ٥٧) خصصهم بالذكر فصار كأنه قال: خلقنا حياتكم، فلو قال: نحن قدرنا موتكم، كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك، ولهذا قال: {قدرنا بينكم}

وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص.

المسألة الرابعة: هل في قوله تعالى: {بينكم} بدلا عن غيره من الألفاظ فائدة؟

نقول: نعم فائدة جليلة، وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها

فنقول: قدرنا لكم الموت، وقدرنا فيكم الموت، فقوله: قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفا له

أما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال: البياض في الجسم والكحل في العين، فلو قال: قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقا فينا وليس كذلك، وإن

قلنا: قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبىء عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال: هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغدا لك، كما قال تعالى: {وتلك الايام نداولها بين الناس} (آل عمران: ١٤٠).

المسألة الخامسة: قوله: {وما نحن بمسبوقين} المشهور أن المراد منه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، يقال: فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب،

ونقول: إذا كان قوله: {نحن قدرنا بينكم} لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادرا مختارا فقال: {وما نحن بمسبوقين} عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين،

وأما إن قلنا بأنه ذكره ردا عليهم حيث قالوا: لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال: {وما نحن بمسبوقين} أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان واللّه تعالى يخلق بكن فيكون، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول: لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد، حيث يوهم أنه يفعل شيئا ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك: {خلق الموت والحيواة ليبلوكم} (الملك: ٢) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه موجبا لما عملتم شيئا على هذا التفسير المشهور، والظاهر أن المراد من

قوله: {وما نحن بمسبوقين} حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين

أحدهما: أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء

وثانيهما: في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان

أما إذا قلنا: {وما نحن بمسبوقين} معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى اللّه وتقفون عنده ولا تجاوزونه فإنكم إن كنتم تقولون: قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق، وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري، وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام، والعاقل الذي هداه اللّه تعالى الهداية القوية يعرف أولا والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة، والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب، ويقول: لا بد للكل من إله، وهو ليس بمسبوق فيما فعله، فمعناه أنه فعل ما فعل، ولم يكن لمفعوله مثال،

وأما إن قلنا: إنه ليس بمسبوق، وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى: {وهو أهون * عليه} (الروم: ٢٧) ويؤيده قوله تعالى: {على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فى * مالا * تعلمون}

فإن قيل: هذا لا يصح، لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل، والمراد ما ذكرنا كأنه قال: وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين، أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا، وذلك لأن قوله تعالى: {إنا لقادرون} أفاد فائدة انتفاء العجز عنه، فلا بد من أن يكون لقوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين} فائدة ظاهرة،

٦١

ثم قال تعالى: {على أن نبدل أمثالكم} في الوجه المشهور، قوله تعالى: {على أن نبدل}

يتعلق بقوله: {وما نحن بمسبوقين} أي على التبديل، ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل.

والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه، وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء، فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب، وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى: {نحن قدرنا} وتقديره: نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر، كما يقول القائل: خرج فلان على أن يرجع عاجلا، أي على هذا الوجه خرج، وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر،

فإن قيل: على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم، أي أشكالكم وأوصافكم، ويكون الأمثال جمع مثل، ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم، ونجعلكم في صورة قردة وخنازير، فيكون كقوله تعالى: {ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم} (يس: ٦٧) وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين، وجعلت المتعلق لقوله: {على أن نبدل أمثالكم} هو قوله: {نحن قدرنا} فيكون قوله: {نبدل أمثالكم} معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم،

نقول: هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل، وهو الظاهر كما في قوله تعالى: {ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد: ٣٨)

وقوله: {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} (الإنسان: ٢٨) فإن قوله: {إذا} دليل الوقوع، وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمرا يقع والجواب أن يقال: الأمثال

أما أن يكون جمع مثل،

وأما جمع مثل، فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا

الوجه، وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالا، ثم شبانا، ثم كهولا، ثم شيوخا، ثم يدرككم الأجل، وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن

قلنا: هو جمع مثل فنقول معنى: {نبدل أمثالكم} نجعل أمثالكم بدلا وبدله بمعنى جعله بدلا، ولم يحسن أن يقال: بدلناكم على هذا

الوجه، لأنه يفيد أنا جعلنا بدلا فلا يدل على وقوع الفناه عليهم، غاية ما في الباب أن قول القائل: جعلت كذا بدلا لا تتم فائدته إلا إذا قال: جعلته بدلا عن كذا لكنه تعالى لما قال: {نبدل أمثالكم} فالمثل يدل على المثل فكأنه قال: جعلنا أمثالكم بدلا لكم، ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعا ثم ننشئهم،

وقوله تعالى: {فيما * لا تعلمون} على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق، والظاهر أن المراد: {فيما * لا تعلمون} من الأوصاف والزمان، فإن أحدا لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا: ومتى الساعة والإنشاء؟ فقال: لا علم لكم بهما، هذا إذا

قلنا: إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة: وهي أن قوله: {فيما * لا تعلمون} تقرير لقوله: {تخلقونه أم نحن الخالقون نحن} (الواقعة: ٥٩) وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به؟ وهو كقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم} (النجم: ٣٢) وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح، لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعا في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة،

٦٢

وقال تعالى: {ولقد علمتم النشأة  الأولى} تقريرا لإمكان النشأة الثانية.

٦٣

انظر تفسير الآية:٦٤

٦٤

بم ثم قال تعالى: {أفرءيتم ما تحرثون}.

ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله: {أفرءيتم ما تمنون} إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء،

وقوله: {أفرءيتم ما تحرثون} إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء، وذكر أمورا ثلاثة المأكول، والمشروب، وما به إصلاح المأكول، ورتبه ترتيبا فذكر المأكول أولا لأنه هو الغذاء،

ثم المشروب لأن به الاستمراء، ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل، فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل، ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل، وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها، ودخل في كل واحد منها ما هو دونه، هذا هو الترتيب،

وأما التفسير فنقول: الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته من كراب الأرض، وإلقاء البذر، وسقي المبذور، والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق،

فقوله: {أفرءيتم ما تحرثون} أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم اللّه؟ ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس، وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي،

فإن قيل: هذا يدل على أن اللّه هو الزارع، فكيف قال تعالى: {يعجب الزراع} (الفتح: ٢٩) وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "الزرع للزارع"

قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع، فالحرث أوائل الزرع، والزرع أواخر الحرث، فيجوز إطلاق

أحدهما على الآخر، لكن قوله: {يعجب الزراع} بدلا عن قوله: يعجب الحراث، يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي، فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهى، ولا يعجبه إلا شيء عظيم، فقال: {يعجب الزراع} الذين تعودوا أخذ الحراث، فما ظنك بإعجابه الحراث، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : "الزرع للزارع"

فيه فائدة، لأنه لو قال: للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثا، وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر، أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة رحمة اللّه تعالى عليه وهذا أظهر، لأنه بمجرد الإلقاء في الأرض يجعل الزرع للملقى سواء كان مالكا أو غاصبا.

٦٥

بم ثم قال تعالى: ( {لو نشآء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}.

وهو تدريج في الإثبات، وبيانه هو أنه لما قال: {تزرعونه أم نحن الزرعون لو} (الواقعة: ٦٤) لم يبعد من معاند أن يقول: نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعا، لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، فقال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل هذا الباطل، فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه، فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده، أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه، فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات، كما تقولون: إنه بنفسه ينبت، ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن اللّه تعالى، وحفظه عنها بفضل اللّه، وعلى هذا أعاده ليذكر أمورا مرتبة بعضها على بعض فيكون الأمر

الأول: للمهتدين

والثاني: للظالمين

والثالث: للمعاندين الضالين فيذكر الأمر الذي لا شك فيه في آخر الأمر إقامة للحجة على الضال المعاند.

وفيه سؤال وهو أنه تعالى ههنا قال: {لجعلناه} بلام

الجواب وقال في الماء: {جعلناه أجاجا} (الواقعة: ٧) من غير لام فما الفرق بينهما؟ نقول: ذكر الزمخشري عنه جوابين أحدهما: قوله تعالى: {لو نشاء لجعلناه حطاما} كان قريب الذكر فاستغنى بذكر اللام فيه عن ذكرها ثانيا، وهذا ضعيف لأن

وقوله تعالى: {لو نشاء * لطمسنا على أعينهم}(يس: ٦٦) مع قوله: {لو نشاء * لمسخناهم} (يس: ٦٧) أقرب من قوله: {لجعلناه حطاما} و {جعلناه أجاجا} (الواقعة: ٣٠) اللّهم إلا أن نقول: هناك

أحدهما قريب من الآخر ذكرا لا معنى لأن الطمس لا يلزمه المسخ ولا بالعكس والمأكول معه المشروب في الدهر، فالأمران تقاربا لفظا ومعنى

والجواب الثاني: أن اللام يفيد نوع تأكيد فذكر اللام في المأكول ليعلم أن أمر المأكول أهم من أمر المشروب وأن نعمته أعظم وما ذكرنا أيضا وارد عليه لأن أمر الطمس أهون من أمر المسخ وأدخل فيهما اللام، وههنا جواب آخر يبين بتقديم بحث عن فائدة اللام في جواب لو،

فنقول: حرف الشرط آذا دخل على الجملة يخرجها عن كونها جملة في المعنى فاحتاجوا إلى علامة تدل على المعنى، فأتوا بالجزم في المستقبل لأن الشرط يقتضي جزاء، وفيه تطويل فالجزم الذي هو سكون أليق بالموضع وبينه وبين المعنى أيضا مناسبة لكن كلمة لو مختصة بالدخول على الماضي معنى فإنها إذا دخلت على المستقبل جعلته ماضيا، والتحقيق فيه أن الجملة الشرطية لا تخرج عن أقسام فإنها إذا ذكرت لا بد من أن يكون الشرط معلوم الوقوع لأن الشرط إن كان معلوم الوقوع فالجزاء لازم الوقوع فجعل الكلام جملة شرطية عدول عن جملة إسنادية إلى جملة تعليقية وهو تطويل من غير فائدة فقول القائل: آتيك إن طلعت الشمس تطويل والأولى أن يقول: آتيك جزما من غير شرط فإذا علم هذا فحال الشرط لا يخلو من أن يكون معلوم العدم أو مشكوكا فيه فالشرط إذا وقع على قسمين فلا بد لهما من لفظين وهما إن ولو، واختصت إن بالشكوك، ولو بمعلوم لأمر بيناه في موضع آخر لكن ما علم عدم يكون الآخر فقد أثبت منه فهو ماض أو في حكمه لأن العلم بالأمور يكون بعد وقوعها وما يشك فيه فهو مستقبل أو في معناه لأننا نشك في الأمور المستقبلة أنها تكون أولا تكون والماضي خرج عن التردد، وإذا ثبت هذا،

فنقول: لما دخل لو على الماضي وما اختلف آخر بالعامل لم يتبين فيه إعراب، وإن لما دخل على المستقبل بان فيه الإعراب، ثم إن الجزاء على حسب الشرط وكان الجزاء في باب لو ماضيا فلم يتبين فيه الحال ولا سكون فيضاف له حرف يدل على خروجه عن كونه جملة ودخوله في كونه جزء جملة، إذا ثبت هذا

فنقول: عندما يكون الجزاء ظاهرا يستغني عن الحرف الصارف، لكن كون الماء المذكور في الآية، وهو الماء المشروب المنزل من المزن أجاجا ليس أمرا واقعا يظن أنه خبر مستقل، ويقويه أنه تعالى يقول: {جعلناه أجاجا} على طريقة الإخبار والحرث والزرع كثيرا ما وقع كونه حطاما فلو قال: جعلناه حطاما، كان يتوهم منه الإخبار فقال هناك : {لو نشاء لجعلناه} ليخرجه عما هو صالح له في الواقع، وهو الحطامية وقال الماء المنزل المشروب من المزن جعلناه أجاجا لأنه لا يتوهم ذلك فاستغنى عن اللام، وفيه لطيفة: أخرى نحوية، وهي أن في القرآن إسقاط اللام عن جزاء لو حيث كانت لو داخلة على مستقبل لفظا،

وأما إذا كان ما دخل عليه لو ماضيا، وكان الجزاء موجبا فلا كما في قوله تعالى: {ولو شئنا لاتينا} (السجدة: ١٣) {لو هدانا اللّه لهديناكم} (إبراهيم: ٢١) وذلك لأن لو إذا دخلت على فعل مستقل كما في

قوله: {لو نشاء} فقد أخرجت عن حيزها لفظا، لأن لو للماضي فإذا خرج الشرط عن حيزه جاز في الجزاء الإخراج عن حيزه لفظا وإسقاط اللام عنه، لأن إن كان حيزها المستقبل وتدخل على المستقبل، فإذا جعل ما دخل إن عليه ماضيا كقولك: إن جئتني، جاز في الخبر الإخراج عن حيزه وترك الجزم فنقول: أكرمك بالرفع، وأكرمك بالجزم، كما تقول في: {لو نشاء لجعلناه} وفي: {لو نشاء جعلناه} (الواقعة: ٧٠) وما ذكرناه من

الجواب في قوله: {أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه} (يس: ٤٧) إذا نظرت إليه تجده مستقيما، وحيث لم يقل: لو شاء اللّه أطعمه، علم أن الآخر جزاء ولم يبق فيه توهم، لأنه

أما أن يكون عند المتكلم، وذلك غير جائز لأن المتكلم عالم بحقيقة كلامه،

وأما أن يكون عندهم وذلك غير جائز ههنا، لأن قولهم: لو شاء اللّه أطعمه رد على المؤمنين في زعمهم يعني أنتم تقولون: إن اللّه لو شاء فعل فلا نطعم من لو شاء اللّه أطعمه على زعمكم، فلما كان أطعمه جزاءا معلوما عند السامع والمتكلم استغنى عن اللام، والحطام كالفتات والجذاذ وهو من الحطم كما أن الفتات والجذاذ من الفت والجذ والفعال في أكثر الأمر يدل على مكروه أو منكر،

أما في المعاني: فكالسبات والفواق والزكام والدوار والصداع لأمراض وآفات في الناس والنبات.

وأما في الأعيان: فكالجذاذ والحطام والفتات وكذا إذا لحقته الهاء كالبرادة والسحالة، وفيه زيادة بيان وهو أن ضم الفاء من الكلمة يدل على ما ذكرنا في الأفعال فإنا نقول: فعل لما لم يسم فاعله وكان السبب أن أوائل الكلم لما لم يكن فيه التخفيف المطلق وهو السكون لم يثبت التثقيل المطلق وهو الضم، فإذا ثبت فهو لعارض، إن علم كما ذكرنا فلا كلام وإن لم يعلم كما في برد وقفل فالأمر خفي يطول ذكره والوضع يدل عليه في الثلاثي.

٦٦

وقوله تعالى: {إنا لمغرمون} وفيه وجهان:

أما على

الوجه الأول: كأنما هو كلام مقدر عنهم كأنه يقول: وحينئذ يحق أن تقولوا: إنا لمعذبون دائمون في العذاب.

وأما على

الوجه الثاني: فيقولون: إنا لمعذبون ومحرمون عن إعادة الزرع مرة أخرى، يقولون: إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع ومحرومون عن دفعه بغير الزرع لفوات الماء

والوجه الثاني: في الغرم إنا لمكرهون بالغرامة من غرم الرجل وأصل الغرم والغرام لزوم المكروه.

٦٧

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

٦٨

بم ثم قال تعالى: {أفرءيتم المآء الذى تشربون}.

خصه بالذكر لأنه ألطف وأنظف أو تذكيرا لهم بالإنعام عليهم، والمزن السحاب الثقيل بالماء لا بغيره من أنواع العذاب يدل على ثقله قلب اللفظ وعلى مدافعة الأمر وهو التزم في بعض اللغات السحاب الذي مس الأرض وقد تقدم تفسير الأجاج أنه الماء المر من شدة الملوحة، والظاهر أنه هو الحار من أجيج النار كالحطام من الحطيم، وقد ذكرناه في قوله تعالى: {هذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج} (الفرقان: ٥٣) ذكر في الماء الطيب صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية ملمسه وهي البرودة واللطافة، وفي الماء الآخر أيضا صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وهي الحرارة،

٦٩

أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ

٧٠

ثم قال تعالى: {فلولا تشكرون} لم يقل عند ذكر الطعام الشكر وذلك لوجهين

أحدهما: أنه لم يذكر في المأكول أكلهم، فلما لم يقل: تأكلون لم يقل: تشكرون وقال في الماء: {تشربون} فقال: {تشكرون}

والثاني: أن في المأكول قال: {تحرثون} (الواقعة: ٦٣) فأثبت لهم سعيا فلم يقل: تشكرون وقال في الماء: {أنزلتموه من المزن أم} لا عمل لكم فيه أصلا فهو محض النعمة فقال:

وفيه وجه

ثالث: وهو الأحسن أن يقال: النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ألا ترى أن في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل الإنسان شيئا مخافة العطش، فلما ذكر المأكول أولا وأتمه بذكر المشروب ثانيا قال: {فلولا تشكرون} على هذه النعمة التامة.

 ٧١

بم ثم قال تعالى: {أفرءيتم النار التى تورون}.

وفي شجرة النار وجوه

أحدها: أنها الشجرة التي تورى النار منها بالزند والزندة كالمرخ

وثانيها: الشجرة التي تصلح لإيقاد النار كالحطب فإنها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار، لأن النار لا تتعلق بكل شيء كما تتعلق بالحطب

وثالثها: أصول شعلها ووقود شجرتها ولولا كونها ذات شعل لما صلحت لإنضاج الأشياء والباقي ظاهر.

٧٢

أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ

٧٣

{نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين}.

في قوله: {تذكرة} وجهان

أحدهما: تذكرة لنار القيامة فيجب على العاقل أن يخشى اللّه تعالى وعذابه إذا رأى النار الموقدة وثانيهما: تذكرة بصحة البعث، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا} (يس: ٨٠) والمقوى: هو الذي  أوقده فقواه وزاده وفيه لطيفة: وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعا ليعلم أن

الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم.  بم ثم قال تعالى:

٧٤

{فسبح باسم ربك العظيم}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في وجه تعلقه بما قبله؟ نقول: لما ذكر اللّه تعالى حال المكذبين بالحشر والوحدانية ذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ولم يفدهم الإيمان قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم :

أن وظيفتك أن تكمل في نفسك وهو علمك بربك وعملك لربك: {فسبح باسم ربك} وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك * قبل طلوع الشمس} (طه: ١٣٠) وفي موضع آخر.

المسألة الثانية: التسبيح التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل: فسبح بربك العظيم؟ فنقول الجواب عنه من وجهين

أحدهما: هو المشهور وهو أن الاسم مقحم، وعلى هذا

الجواب فنقول: فيه فائدة زيادة التعظيم، لأن من عظم عظيما وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق، وذلك لأن من يعظم شخصا عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة،

فإن قيل: فعلى هذا فما فائدة الباء وكيف صار ذلك، ولم يقل: فسبح اسم ربك العظيم، أو الرب العظيم، نقول: قد تقدم مرارا أن الفعل إذا كان تعلقه بالمفعول ظاهرا غاية الظهور لا يتعدى إليه بحرف فلا يقال: ضربت بزيد بمعنى ضربت زيدا، وإذا كان في غاية الخفاء لا يتعدى إليه إلا بحرف فلا يقال: ذهبت زيدا بمعنى ذهبت بزيد، وإذا كان بينهما جاز

الوجهان فنقول: سبحته وسبحت به وشكرته وشكرت له، إذا ثبت هذا

فنقول: لما علق التسبيح بالاسم وكان الاسم مقحما كان التسبيح في الحقيقة متعلقا بغيره وهو الرب وكان التعلق خفيا من وجه فجاز ادخال الباء،

فإن قيل: إذا جاز الإسقاط والإثبات فما الفرق بين هذا الموضع وبين

قوله تعالى: {سبح اسم ربك الاعلى}؟ (الأعلى: ١)

فنقول: ههنا تقديم الدليل على العظمة أن يقال: الباء في قوله: {باسم} غير زائدة، وتقريره من وجهين

أحدهما: أنه لما ذكر الأمور وقال: نحن أم أنتم، فاعترف الكل بأن الأمور من اللّه، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم ونسميها آلهة والذي خلقها وخلق السموات هو اللّه فنحن ننزهه في الحقيقة فقال: {فسبح باسم ربك} وكما أنك أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراكهما في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم، ولا تقل لغيره إله، فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، وعلى هذا فالخطاب لا يكون مع النبي صلى اللّه عليه وسلم بل يكون كما يقول الواعظ: يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت عملك، ولا يريد أحدا بعينه، وتقديره يا أيها المسكين السامع

وثانيهما: أن يكون المراد بذكر ربك، أي إذا قلت: وتولوا، فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ، والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ، ولو قال: فسبح ربك، ما أفاد الذكر لهم، وكان ينبىء عن التسبيح بالقلب، ولما قال: فسبح باسم ربك، والاسم هو الذي يذكر لفظا دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال: فسبح مبتدئا باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة.

المسألة الثالثة: كيف يسبح ربنا؟

نقول: أما معنى، فبأن يعتقد فيه أنه واحد منزه عن الشريك وقادر بريء عن العجز فلا يعجز عن الحشر

وأما لفظا فبأن يقال: سبحان اللّه وسبحان اللّه العظيم، وسبحانه عما يشركون أو ما يقوم مقامه من الكلام الدال على تنزيهه عن الشريك والعجز فإنك إذا سبحته واعتقدت أنه واحد منزه عن كل مالا يجوز في حقيقته، لزم أن لا يكون جسما لأن الجسم فيه أشياء كثيرة وهو واحد حقيقي لا كثرة لذاته، ولا يكون عرضا ولا في مكان، وكل مالا يجوز له ينتفي عنه بالتوحيد ولا يكون على شيء، ولا في شيء، ولا عن شيء، وإذا قلت: هو قادر ثبت له العلم والإرادة والحياة وغيرها من الصفات وسنذكر ذلك في تفسير سورة الإخلاص إن شاء اللّه تعالى.

المسألة الرابعة: ما الفرق بين {العظيم} وبين {الاعلى}، وهل في ذكر {العظيم} هنا بدل {الاعلى} وذكر {الاعلى} في قوله: {سبح اسم ربك الاعلى} (الأعلى: ١) بدل {العظيم} فائدة؟ نقول:

أما الفرق بين العظيم والأعلى فهو أن العظيم يدل على القرب، والأعلى يدل على البعد، بيانه هو أن ما عظم من الأشياء المدركة بالحس قريب من كل ممكن، لأنه لو بعد عنه لخلا عنه موضعه، فلو كان فيه أجزاء أخر لكان أعظم مما هو عليه فالعظيم بالنسبة إلى الكل هو الذي يقرب من الكل،

وأما الصغير إذا قرب من جهة فقد بعد عن أخرى،

وأما العلي فهو البعيد عن كل شيء لأن ما قرب من شيء من جهة فوق يكون أبعد منه وكان أعلى فالعلي المطلق بالنسبة إلى كل شيء هو الذي في غاية البعد عن كل شيء، إذا عرفت هذا فالأشياء المدركة تسبح اللّه، وإذا علمنا من اللّه معنى سلبيا فصح أن نقول: هو أعلى من أن يحيط به إدراكنا وإذا علمنا منه وصفا ثبوتيا من علم وقدرة يزيد تعظيمه أكثر مما وصل إليه علمنا،

فنقول: هو أعظم وأعلى من أن يحيط به علمنا،

وقولنا: أعظم معناه عظيم لا عظيم مثله، ففيه مفهوم سلبي ومفهوم ثبوتي

وقوله: أعلى، معناه هو علي ولا علي مثله، والعلي إشارة إلى مفهوم سلبي والأعلى مثله بسبب آخر، فالأعلى مستعمل على حقيقته لفظا ومعنى، والأعظم مستعمل على حقيقته لفظا، وفيه معنى سلبي، وكأن الأصل في العظيم مفهوم ثبوتي لا سلب فيه فالأعلى أحسن استعمالا من الأعظم هذا هو الفرق.  بم ثم قال تعالى:

٧٥

{فلا أقسم بمواقع النجوم}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الترتيب ووجهه هو أن اللّه تعالى لما أرسل رسوله الهدى ودين الحق آتاه كل ما ينبغي له وطهره عن كل مالا ينبغي له فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها، والموعظة الحسنة وهي الأمور المفيدة المرققة للقلوب المنورة للصدور، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق فأتى بها وعجز الكل عن معارضته بشيء ولم يؤمنوا والذي يتلى عليه، كل ذلك ولا يؤمن لا يبقى له غير أنه يقول: هذا البيان ليس لظهور المدعى بل لقوة ذهن المدعى وقوته على تركيب الأدلة وهو يعلم أنه يغلب بقوة جداله لا بظهور مقاله وربما يقول أحد المناظرين للآخر عند انقطاعه أنت تعلم أن الحق بيدي لكن تستضعفني ولا تنصفني وحينئذ لا يبقى للخصم جواب غير القسم بالأيمان التي لا مخارج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف، وذلك لأنه لو أتى بدليل آخر لكان له أن يقول: وهذا الدليل أيضا غلبتني فيه بقوتك وقدرتك، فكذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم لما آتاه اللّه جل وعز ما ينبغي قالوا: إنه يريد التفضل علينا وهو يجادلنا فيما يعلم خلافه، فلم يبق له إلا أن يقسم فأنزل اللّه تعالى عليه أنواعا من القسم بعد الدلائل، ولهذا كثرت الأيمان في أوائل التنزيل وفي السبع الأخير خاصة.

المسألة الثانية: في تعلق الباء، نقول: إنه لما بين أنه خالق الخلق والرزق وله العظمة بالدليل القاطع ولم يؤمنوا قال: لم يبق إلا القسم فأقسم باللّه إني لصادق.

المسألة الثالثة: ما المعنى من قوله.

{فلا أقسم} مع أنك تقول: إنه قسم؟

نقول: فيه وجوه منقولة ومعقولة غير مخالفة للنقل،

أما المنقول فأحدها: أن (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم} (الحديد: ٢٩) معناه ليعلم

ثانيها: أصلها لأقسم بلام التأكيد أشبعت فتحتها فصارت لا كما في الوقف

ثالثها: لا، نافية وأصله على مقالتهم والقسم بعدها كأنه قال: لا، واللّه لا صحة لقول الكفار أقسم عليه،

أما المعقول فهو أن كلمة لا هي نافية على معناها غير أن في الكلام مجازا تركيبيا، وتقديره أن نقول: لا في النفي هنا كهي في قول القائل لا تسألني عما جرى علي، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله فإن غرضه من السؤال لا يحصل ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلا بيان عظمة الواقعة ويصير كأنه قال: جرى على أمر عظيم.

ويدل عليه أن السامع يقول: له ماذا جرى عليك ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن  السؤال لما قال: ماذا جرى عليك، فيصح منه أن يقول: أخطأت حيث منعتك عن  السؤال،

ثم سألتني وكيف لا، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال: لا تسألني عند سكون صاحبه عن  السؤال، أو لا تسألني، ولا تقول: ماذا جرى عليك ولا يكون للسامع أن يقول: إنك منعتني عن  السؤال كل ذلك تقرر في أفهامهم أن المراد تعظيم الواقعة لا النهي، إذا علم هذا

فنقول في القسم: مثل هذا موجود من أحد وجهين

أما لكون الواقعة في غاية الظهور فيقول: لا أقسم بأنه على هذا الأمر لأنه أظهر من أن يشهر، وأكثر من أن ينكر، فيقول: لا أقسم ولا يريد به القسم ونفيه، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة،

وأما لكون المقسم به فوق ما يقسم به، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول لا أقسم يمينا بل ألف يمين، ولا أقسم برأس الأمير بل برأس السلطان ويقول: لا أقسم بكذا مريدا لكونه في غاية الجزم

والثاني: يدل عليه أن هذه الصيغة لم ترد في القرآن والمقسم به هو اللّه تعالى أو صفة من صفاته وإنما جاءت أمور مخلوقة

والأول لا يرد عليه إشكال إن

قلنا إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء كما في قوله: {والصافات} (الصافات: ١) المراد منه رب الصافات ورب القيامة ورب الشمس إلى غير ذلك فإذا قوله: {لا أقسم * بمواقع النجوم} أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه، وأن يتطرق الشك إليه.

المسألة الرابعة: مواقع النجوم ما هي؟

فنقول: فيه وجوه

الأول: المشارق والمغارب أو المغارب وحدها، فإن عندها سقوط النجوم

الثاني: هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها

الثالث: مواقعها في اتباع الشياطين عند المزاحمة

الرابع: مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم،

وأما مواقع نجوم القرآن، فهي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين، أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها.

المسألة الخامسة: هل في اختصاص مواقع النجوم للقسم بها فائدة؟

قلنا: نعم فائدة جليلة، وبيانها أنا قد ذكرنا أن القسم بمواقعها كما هي قسم كذلك هي من الدلائل، وقد بيناه في الذاريات، وفي الطور، وفي النجم، وغيرها،

فنقول: هي هنا أيضا كذلك، وذلك من حيث إن اللّه تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المنى وموته، بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس قدرته واختياره، ثم لما ذكر دليلا من دلائل الأنفس ذكر من دلائل الآفاق أيضا قدرته واختياره، فقال: {أفرءيتم ما تحرثون} (الواقعة: ٦٣) {أفرءيتم الماء} (الواقعة: ٦٨) إلى غير ذلك، وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاما، وخلقه الماء فراتا عذبا، وجعله أجاجا، إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار، ولم يكن ذكر من الدلائل السماوية شيئا، فذكر الدليل السماوي في معرض القسم، وقال: مواقع النجوم، فإنها أيضا دليل الاختيار، لأن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار، فقال: {بمواقع النجوم} ليس إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر كما قال تعالى: {سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم} (فصلت: ٥٣)

وهذا كقوله تعالى: {وفى الارض ءايات للموقنين * وفى أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: ٢٠، ٢١)

{وفى السماء رزقكم وما توعدون} (الذاريات: ٢٢) حيث ذكر الأنواع الثلاثة كذلك هنا،

٧٦

ثم قال تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى: {فلا أقسم} فإنه يتضمن ذكر المصدر، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل، فيقال: ضربته قويا، وفيه مسائل نحوية ومعنوية،

أما النحوية:

فالمسألة الأولى: هو أن يقال: جواب {لو تعلمون} ماذا، وربما يقول بعض من لا يعلم: إن جوابه ما تقدم وهو فاسد في جميع المواضع، لأن جواب الشرط لا يتقدم، وذلك لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها، فلا يقال: زيدا إن قام ولا غيره من الحروف والسر فيه أن عمل الحروف مشبه بعمل المعاني، ويميز بين الفاعل والمفعول وغيرهما، فإذا كان العامل معنى لا موضع له في الحس فيعلم تقدمه وتأخر مدرك بالحس، جاز أن يقال: قائما ضربت زيد، أو ضربا شديدا ضربته،

وأما الحروف فلها تقدم وتأخر مدرك بالحس فلم يمكن بعد علمنا بتأخرها فرض وجودها متقدمة بخلاف المعاني، إذا ثبت هذا

فنقول: عمل حرف الشرط في المعنى إخراج كل واحدة من الجملتين عن كونها جملة مستقلة، فإذا قلت: من، وأن، لا يمكن إخراج الجملة

الأولى عن كونها جملة بعد وقوعها جمل، ليعلم أن حرفها أضعف من عمل المعنى لتوقفه على عمله مع أن المعنى أمكن فرضه متقدما ومتأخراوعمل الأفعال عمل معنوي، وعمل الحروف عمل مشبه بالمعنى، إذا ثبت هذا فنقول في قوله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى} (يوسف: ٢٤) قال بعض الوعاظ متعلق بلولا، فلا يكون الهم وقع منه، وهو باطل لما ذكرنا، وهنا أدخل في البطلان، لأن المتقدم لا يصلح جزاء للمتأخر، فإن من قال: لو تعلمون إن زيدا لقائم، لم يأت بالعربية، إذا تبين هذا فالقول يحتمل وجهين

أحدهما: أن يقال:

الجواب محذوف بالكلية لم يقصد بذلك جواب، وإنما يراد نفي ما دخلت عليه لو، وكأنه قال: وإنه لقسم لا تعلمون، وتحقيقه أن لو تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره، فلا بد من انتفاء

الأول، فإدخال لو على تعلمون أفادنا أن علمهم منتف، سواء علمنا

الجواب أو لم نعلم، وهو كقولهم في الفعل المتعدي فلان يعطى ويمنع، حيث لا يقصد به مفعول، وإنما يراد إثبات القدرة، وعلى هذا إن قيل: فما فائدة العدول إلى غير الحقيقة، وترك

قوله: إنه لقسم ولا تعلمون؟

فنقول: فائدته تأكيد النفي، لأن من قال: لو تعلمون كان ذلك دعوى منه، فإذا طولب

وقيل: لم قلت إنا لا نعلم يقول: لو تعلمون لفعلتم كذا، فإذا قال في ابتداء الأمر: لا تعلمون كان مريدا للنفي، فكأنه قال: أقول: إنكم لا تعلمون قولا من غير تعلق بدليل وسبب

وثانيهما: أن يكون له جواب تقديره: لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه، فعلم أنكم لا تعلمون، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم، ولا تعظيم فلا تعلمون.

المسألة الثانية: إن قيل قوله: {لو تعلمون} هل له مفعول أم لا؟

قلنا: على

الوجه الأول لا مفعول له، كما في قولهم: فلان يعطي ويمنع، وكأنه قال: لا علم لكم، ويحتمل أن يقال: لا علم لكم بعظم القسم، فيكون له مفعول،

والأول أبلغ وأدخل في الحسن، لأنهم لا يعلمون شيئا أصلا لأنهم لو علموا لكان أولى الأشياء بالعلم هذه الأمور الظاهرة بالبراهين القاطعة، فهو كقوله: {صم بكم} (الفرقان: ٤٤) وقوله: {كالانعام بل هم أضل} وعلى

الثاني أيضا يحتمل وجهين

أحدهما: لو كان لكم علم بالقسم لعظمتموه

وثانيهما: لو كان لكم علم بعظمته لعظمتموه.

المسألة الثالثة: كيف تعلق قوله تعالى: {لو تعلمون} بما قبله وما بعده؟

فنقول: هو كلام اعتراض في أثناء الكلام تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون لصدقتم،

فإن قيل: فما فائدة الاعتراض؟

نقول: إلهتمام بقطع اعتراض المعترض، لأنه لما قال: {وإنه لقسم} أراد أن يصفه بالعظمة

بقوله: عظيم والكفار كانوا يجهلون ذلك ويدعون العلم بأمور النجم، وكانوا يقولون: لو كان كذلك فما باله لا يحصل لنا علم وظن، فقال: لو تعلمون لحصل لكم القطع، وعلى ما ذكرنا الأمر أظهر من هذا، وذلك لأنا

قلنا: إن قوله: {لا أقسم} معناه الأمر واضح من أن يصدق بيمين، والكفار كانوا يقولون: أين الظهور ونحن نقطع بعدمه، فقال: لو تعلمون شيئا لما كان كذلك، والأظهر منه أنا بينا أن كل ما جعله اللّه قسما فهو في نفسه دليل على المطلوب وأخرجه مخرج القسم، فقوله: {وإنه لقسم} معناه عند التحقيق، وإنه دليل وبرهان قوي لو تعلمون وجهه لاعترفتم بمدلوله، وهو التوحيد والقدرة على الحشر، وذلك لأن دلالة اختصاص الكواكب بمواضعها في غاية الظهور ولا يلزم الفلاسفة دليل أظهر منه،

وأما المعنوية:

فالمسألة الأولى: ما المقسم عليه؟

نقول: فيه وجهان

الأول: القرآن كانوا يجعلونه تارة شعرا وأخرى سحرا وغير ذلك

وثانيهما: هو التوحيد والحشر وهو أظهر،

وقوله: {لقرءان} ابتداء كلام وسنبين ذلك.

المسألة الثانية: ما

الفائدة في وصفه بالعظيم في قوله: {وإنه لقسم} فنقول: لما قال: {فلا أقسم} وكان معناه: لا أقسم بهذا لوضوح المقسم به عليه.

قال: لست تاركا للقسم بهذا، لأنه ليس بقسم أو ليس بقسم عظيم، بل هو قسم عظيم ولا أقسم به، بل بأعظم منه أقسم لجزمي بالأمر وعلمي بحقيقته.

المسألة الثالثة: اليمين في أكثر الأمر توصف بالمغلظة، والعظم يقال: في المقسم حلف فلان بالأيمان العظام، ثم تقول في حقه يمين مغلظة لأن آثامها كبيرة.

وأما في حق اللّه عز وجل فبالعظيم وذلك هو المناسب، لأن معناه هو الذي قرب قوله من كل قلب وملأ الصدر بالرعب لما بينا أن معنى العظيم فيه ذلك، كما أن الجسم العظيم هو الذي قرب من أشياء عظيمة وملأ أماكن كثيرة من العظم، كذلك العظيم الذي ليس بجسم قرب من أمور كثيرة، وملأ صدورا كثيرة.

بم ثم قال تعالى:

٧٧

{إنه لقرءان كريم}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الضمير في قوله تعالى: {أنه} عائد إلى ماذا؟ فنقول: فيه وجهان

أحدهما: إلى معلوم وهو الكلام الذي أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكان معروفا عند الكل، وكان الكفار يقولون: إنه شعر وإنه سحر، فقال تعالى ردا عليهم: {إنه لقرءان} عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد، والحشر، والدلائل المذكورة عليهما، والقسم الذي قال فيه: {وإنه لقسم} (الواقعة: ٧٦) وذلك لأنهم قالوا: هذا كله كلام محمد ومخترع من عنده، فقال: {إنه لقرءان كريم * فى كتاب مكنون}.

المسألة الثانية: القرآن مصدر أو اسم غير مصدر؟ فنقول: فيه وجهان

أحدهما: مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى: {ولو أن قرانا سيرت به الجبال} (الرعد: ٣١) وهذا كما يقال في الجسم العظيم: أنظر إلى قدرة اللّه تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى: {هذا خلق اللّه فأرونى} (لقمان: ١١)

ثانيهما: اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن

وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة: يعطى شيئا أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطى شيئا دونه، ويعطى الجبران أيضا، حيث قال: الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى، فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء، ويجوز أن يقال: لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال: هو اسم لما يجبر به كالقربان.

المسألة الثالثة: إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءا فما

الفائدة في قوله: {إنه لقرءان}؟

نقول فيه وجهان

أحدهما: أنه إخبار عن الكل وهو قوله: {قرءان * كريم} فهم كانوا ينكرون كونه قرآنا كريما وهم ما كانوا يقرون به

وثانيهما: وهو أحسن من

الأول، أنهم قالوا: هو مخترع من عنده وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءا، وما كانوا يقولون: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ القرآن وفرق بين القراءة والإنشاء، فلما قال: {إنه لقرءان} أثبت كونه مقروءا على النبي صلى اللّه عليه وسلم ليقرأ ويتلى فقال تعالى: {إنه لقرءان} سماه قرآنا لكثرة ما قرىء، ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة.

المسألة الرابعة: قوله: {كريم} فيه لطيفة؟ وهي أن الكلام إذا قرىء كثيرا يهون في الأعين والآذان، ولهذا ترى من قال: شيئا في مجلس الملوك لا يذكره ثانيا، ولو قيل فيه: يقال لقائله لم تكرر هذا،

ثم إنه تعالى لما قال: {إنه لقرءان} أي مقروء قرىء ويقرأ، قال: {كريم} أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري، ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مددا فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة، وما قرع سمع الجماعة لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل، والكريم اسم جامع لصفات المدح، قيل: الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل، حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقا، بل يقال له: كريم في نفسه، ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له: كريم إلا مع تقييد، فيقال: هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه، ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس، أو يسهل عطاؤه ويسمى كريما، وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب، وهو أن الناس يحبون من يعطيهم، ويفرحون بمن يعطى أكثر مما يفرحون بغيره، فإذا رأوا زاهدا أو عالما لا يسمونه كريما، ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحدا لا يطلب منهم شيئا يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة،

وأما في الأصل فيقال: الكريم هو الذي استجمع فيه ما ينبغي من طهارة الأصل وظهور الفضل، ويدل على هذا أن السخي في معاملته ينبغي أن لا يوجد منه ما يقال بسببه إنه لئيم، فالقرآن أيضا كريم بمعنى طاهر الأصل ظاهر الفضل لفظه فصيح، ومعناه صحيح لكن القرآن أيضا كريم على مفهوم العوام فإن كل من طلب منه شيئا أعطاه، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد به ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، واللّه تعالى وصف القرآن بكونه كريما، وبكونه عزيزا، وبكونه حكيما، فلكونه كريما كل من أقبل عليه نال منه ما يريده فإن كثيرا من الناس لا يفهم من العلوم شيئا وإذا اشتغل بالقرآن سهل عليه حفظه، وقلما يرى شخص يحفظ كتابا يقرؤه بحيث لا يغير منه كلمة بكلمة، ولا يبدل حرفا بحرف وجميع القراء يقرأون القرآن من غير توقف ولا تبديل، ولكونه عزيزا أن كل من يعرض عنه لا يبقى معه منه شيء، بخلاف سائر الكتب، فإن من قرأ كتابا وحفظه ثم تركه يتعلق بقلبه معناه حتى ينقله صحيحا، والقرآن من تركه لا يبقى معه منه شيء لعزته ولا يثبت عند من لا يلزمه بالحفظ، ولكونه حكيما من اشتغل به وأقبل عليه بالقلب أغناه عن سائر العلوم.

وقوله تعالى: {فى كتاب} جعله شيئا مظروفا بكتاب فما ذلك؟ نقول فيه وجهان

أحدهما: المظروف: القرآن، أي هو قرآن في كتاب، كما يقال: فلان رجل كريم في بيته، لا يشك السامع أن مراد القائل: أنه في الدار قاعد ولا يريد به أنه كريم إذا كان في الدار، وغير كريم إذا كان خارجا ولا يشك أيضا أنه لا يريد به أنه كريم في بيته، بل المراد أنه رجل كريم وهو في البيت، فكذلك ههنا أن القرآن كريم وهو في كتاب، أو المظروف كريم على معنى أنه كريم في كتاب، كما يقال: فلان رجل كريم في نفسه، فيفهم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلا مظروفا فإن القائل: لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو نائم، وإنما أراد به أنه كريم كرمه في نفسه، فكذلك قرآن كريم فالقرآن كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار

ثانيهما: المظروف هو مجموع قوله تعالى: (لقرآن كريم) أي هو كذا في كتاب كما يقال: {وما أدراك ما عليون} (المطففين: ١٩) في كتاب اللّه تعالى، والمراد حينئذ أنه في اللوح المحفوظ نعته مكتوب: {إنه لقرءان كريم} والكل صحيح،

والأول أبلغ في التعظيم بالمقروء السماوي.

٧٨

فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ

المسألة الخامسة: ما المراد من الكتاب؟

نقول فيه وجوه

الأول: وهو الأصح أنه اللوح المحفوظ ويدل عليه قوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد * فى لوح محفوظ} (البروج: ٢٠، ٢١)

الثاني: الكتاب هو المصحف

الثالث: كتاب من الكتب المنزلة فهو قرآن في التوراة والإنجيل وغيرهما

فإن قيل كيف سمي الكتاب كتابا والكتاب فعال، وهو إذا كان للواحد فهو

أما مصدر كالحساب والقيام وغيرهما، أو اسم لما يكتب كاللباس واللثام وغيرهما، فكيفما كان فالقرآن لا يكون في كتاب بمعنى المصدر، ولا يكون في مكتوب، وإنما يكون مكتوبا في لوح أو ورق، فالمكتوب لا يكون في الكتاب، إنما يكون في القرطاس،

نقول: ما ذكرت من الموازين يدل على أن الكتاب ليس المكتوب ولا هو المكتوب فيه أو المكتوب عليه فإن اللثام ما يلثم به، والصوان ما يصان فيه الثوب، لكن اللوح لما لم يكن إلا الذي يكتب فيه صح تسميته كتابا.

المسألة السادسة: المكتوب هو المستور قال اللّه تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} (الواقعة: ٢٣)، قال: {بيض مكنون} (الصمد: ٢٤) فإن كان المراد من الكتاب اللوح فهو ليس بمستور وإنما الشيء فيه منشور، وإن كان المراد هو المصحف فعدم كونه مكتوبا مستورا،

فكيف الجواب عنه؟ فنقول: المكنون المحفوظ إذا كان غير عزيز يحفظ بالعين، وهو ظاهر للناس فإذا كان شريفا عزيزا لا يكتفي بالصون والحفظ بالعين بل يستر عن العيون، ثم كلما تزداد عزته يزداد ستره فتارة يكون مخزونا ثم يجعل مدفونا، فالستر صار كاللازم للصون البالغ فقال: {مكنون} أي محفوظ غاية الحفظ، فذكر اللام وأراد الملزوم وهو باب من الكلام الفصيح تقول مثلا: فلان كبريت أحمر، أي قليل الوجود

والجواب الثاني: إن اللوح المحفوظ مستور عن العين لا يطلع عليه إلا ملائكة مخصوصون، ولا ينظر إليه إلا قوم مطهرون،

وأما القرآن فهو مكتوب مستور أبد الدهر عن أعين المبدلين، مصون عن أيدي المحرفين،

٧٨

فإن قيل: فما فائدة كونه {فى كتاب} وكل مقروء في كتاب؟

نقول: هو لتأكيد الرد على الكفار لأنهم كانوا يقولون: إنه مخترع من عنده مفترى، فلما قال: مقروء عليه اندفع كلامهم، ثم إنهم قالوا: إن كان مقروءا عليه فهو كلام الجن فقال: {فى كتاب} أي لم ينزل به عليه الملك إلا بعدما أخذه من كتاب فهو ليس بكلام الملائكة فضلا أن يكون كلام الجن،

وأما إذا

قلنا: إذا كان كريما فهو في كتاب، ففائدته ظاهرة،

وأما فائدة كونه {فى كتاب مكنون} فيكون ردا على من قال: إنه أساطير الأولين في كتب ظاهرة، أي فلم لا يطالعها الكفار، ولم لا يطلعون عليه لا بل هو {فى كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون}، فإذا بين فيما ذكرنا أن وصفه بكونه قرآنا صار ردا على من قال: يذكره من عنده،

وقوله: {فى كتاب} رد على من قال: يتلوه عليه الجن حيث اعترف بكونه مقروءا ونازع في شيء آخر،

وقوله: {مكنون} رد على من قال: إنه مقروء في كتاب لكنه من أساطير الأولين.

٧٩

لمسألة السابعة: {لا يمسه} الضمير عائد إلى الكتاب على الصحيح، ويحتمل أن يقال: هو عائد إلى ما عاد إليه المضمر من قوله: {أنه} ومعناه: لا يمس القرآن إلا المطهرون، والصيغة إخبار، لكن الخلاف في أنه هل هو بمعنى النهي، كما أن قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} (البقرة: ٢٢٨) إخبار بمعنى الأمر، فمن قال: المراد من الكتاب اللوح المحفوظ، وهو الأصح على ما بينا، قال: هو إخبار معنى كما هو إخبار لفظا، إذا

قلنا: إن المضمر في {يمسه} للكتاب، ومن قال: المراد المصحف اختلف في قوله، وفيه وجه ضعيف نقله ابن عطية أنه نهي لفظا ومعنى وجلبت إليه ضمة الهاء لا للإعراب ولا وجه له.

المسألة الثامنة: إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ، فالصحيح أن الضمير في {لا يمسه} للكتاب، فكيف يصح قول الشافعي رحمة اللّه تعالى عليه: لا يجوز مس المصحف للمحدث،

نقول: الظاهر أنه ما أخذه من صريح الآية ولعله أخذه من السنة فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم: "لا يمس القرآن من هو على غير طهر" أو أخذه من الآية على طريق الاستنباط، وقال: إن المس يطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور نوع إهانة في المعنى، وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد، فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر، وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة إلهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة

فنقول: إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرما ولا مهينا وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس عن الطهر التعظيم، وفي المس على الحدث إلهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق بالشافعي رحمه اللّه ومن يقرب منه في الدرجة.

ثم إن ههنا لطيفة فقهية لاحت لهذا الضعيف في حال تفكره في تفسير هذه الآية فأراد تقييدها هنا فإنها من فضل اللّه فيجب علي إكرامها بالتقييد بالكتاب، وهي أن الشافعي رحمه اللّه منع المحدث والجنب من مس المصحف وجعلهما غير مطهرين

ثم منع الجنب عن قراءة القرآن ولم يمنع المحدث وهو استنباط منه من كلام اللّه تعالى، وذلك لأن اللّه تعالى منعه عن المسجد بصريح قوله: {ولا جنبا} (النساء: ٤٣) فدل ذلك على أنه ليس أهلا للذكر لأنه لو كان أهلا للذكر لما منعه من دخول المسجد لأنه تعالى أذن لأهل الذكر في الدخول بقوله تعالى: {فى بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور: ٣٦) الآية، والمأذون في الذكر في المسجد مأذون في دخول المسجد ضرورة فلو كان الجنب أهلا للذكر لما كان ممنوعا عن دخول المسجد والمكث فيه وأنه ممنوع عنهما وعن

أحدهما، وأما المحدث فعلم أنه غير ممنوع عن دخول المسجد فإن من الصحابة من كان يدخل المسجد وجوز النبي صلى اللّه عليه وسلم نوم القوم في المسجد وليس النوم حدثا إذ النوم الخاص يلزمه الحكم بالحدث على اختلاف بين الأئمة ومالم يكن ممنوعا من دخول المسجد لم يثبت كونه غير أهل للذكر فجاز له القراءة،

فإن قيل: وكان ينبغي أن لا يجوز للجنب أن يسبح ويستغفر لأنه ذكر،

نقول: القرآن هو الذكر المطلق قال اللّه تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤) وقال اللّه تعالى: {ص والقرءان ذى} (ص: ١)

وقوله: {يذكر فيها اسمه} مع أنا نعلم أن المسجد يسمى مسجدا، ومسجد القوم محل السجود، والمراد منه الصلاة والذكر الواجب في الصلاة هو القرآن، فالقرآن مفهوم من قوله: {يذكر فيها اسمه}، ومن حيث المعقول هو أن غير القرآن ربما يذكر مريدا به معناه فيكون كلاما غير ذكرا، فإن من قال: أستغفر اللّه أخبر عن نفسه بأمر، ومن قال: لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم كذلك أخبر عن أمر كائن بخلاف من قال: {قل هو اللّه أحد} (الصمد: ١) فإنه ليس بمتكلم به بل هو قائل له غير آمر لغيره بالقول، فالقرآن هو الذكر الذي لا يكون إلا على قصد الذكر لا على قصد الكلام فهو المطلق وغيره قد يكون ذكرا، وقد لا يكون،

فإن قيل: فإذا قال: {ادخلوها بسلام} (الحجر: ٤٦) وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآنا وذكرا،

نقول: هو في نفسه قرآن، ومن ذكره على قصد الإخبار، وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئا للقرآن، وإن كان لا يخرج عن كونه قرآنا، ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئا لما بطلت، وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب، وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال ليس قول القائل: {ادخلوها بسلام} على قصد الإذن قرآنا، وبين قوله: ليس القائل {ادخلوها بسلام} على غير قصد بقارىء للقرآن،

وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة، والشهوة

أما شهوة البطن،

وأما شهوة شهوة البطن،

وأما شهوة الفرج في أكثر الأمر، فإن أحدا لا يخلو عنهما، وإن لم يشته شيئا آخر من المأكول والمشروب والمنكوح، لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف، ولهذا قال تعالى: {ولحم طير مما يشتهون} (الواقعة: ٢١) أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة وقد بيناه في هذه السورة

وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة، فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة، والعبادة فيها منضمة للشهوة، فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع ببطلان الحج به، وبطلان الصوم والصلاة،

وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج، وربما لم تبطل به الصلاة أيضا، إذا ثبت هذا

فنقول: خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية، وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية، فواجب بهما تطهير النفس، لكن الظاهر والباطن متحاذيان، فأمر اللّه تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقه الباطن، والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند الاغتسال للجنابة، فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر وهنا تتمة لهذه اللطيفة وهي أن قائلا لو قال: لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة، وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال، لكونه دليل قضاء الشهوة، وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج، فكذلك الإحداث والأكل

فنقول: ههنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة

فنقول: الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة، فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة

وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان، فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين

أحدهما: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "إنما الماء من الماء" فإن الإنزال كالإحداث، وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء، كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر

وثانيهما: ما روي عنه صلى اللّه عليه وسلم : الوضوء من أكل ما مسته النار فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله، وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان، فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة، ونعود إلى

الجواب عن

السؤال ونقول: إذا تبين هذا فالشافعي رضي اللّه عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة، فلا تجامع العبادة الجنابة، فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن، والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة.

المسألة التاسعة: قوله: {إلا المطهرون} هم الملائكة طهرهم اللّه في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال: لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون، بتشديد الطاء والهاء، والقراءة المشهورة الصحيحة {المطهرون} من التطهير لا من الإطهار، وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول: هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون: النبي صلى اللّه عليه وسلم كاهن، فقال: لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث، ولا يكونون محلا للإفساد والسفك، فلا يفسدون ولا يسفكون، وغيرهم ليس بمطهر على هذا

الوجه، فيكون هذا ردا على القائلين: بكونه مفتريا، وبكونه شاعرا، وبكونه مجنونا بمس الجن، وبكونه كاهنا، وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر اللّه تعالى ههنا من أوصاف كتاب اللّه العزيز.

٨٠

المسألة العاشرة: قوله: {تنزيل من رب العالمين} مصدر، والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلا إنما هو منزل كما قال تعالى: {نزل به الروح الامين} (الشعراء: ١٩٣)

نقول: ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما

قلنا في قوله تعالى: {هذا خلق اللّه} (لقمان: ١١)

فإن قيل: ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع؟

فنقول: التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل، لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر، وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به،

فنقول: هذا في الكلام، فإن كلام اللّه أيضا وصف قائم باللّه عندنا، وإنما نقول: من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد،

فنقول: في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور، فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه، فإذا قال: هذا قدرة اللّه تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله: هذا مقدور اللّه، لأن عظمة الشيء بعظمة اللّه، فإذا جعلت الشيء قائما بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم، وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم باللّه وهو المفعول به كان دونه، فقال: {تنزيل} ولم يقل: منزل، ثم إن ههنا: بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا، كما في قوله: {مدخل صدق} (الإسراء: ٨٠) أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى: {كل ممزق} (سبأ: ٧) أي تمزيق، فالممزق بمعنى التمزيق، كالمنزل بمعنى التنزيل، وعلى العكس سواء، وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى، والمفعول به يصير مرئيا، والمرئي أقوى في العلم، فيقال: مزقهم تمزيقا وهو فعل معلوم لكل أحد علما بينا يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتا مرئيا، والكلام يختلف بمواضع الكلام، ويستخرج الموفق بتوفيق اللّه،

وقوله: {من رب العالمين} أيضا لتعظيم القرآن، لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم، ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه، إذا كان الرسول رسول ملوك، فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم، فإذا قال: {من رب العالمين} تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف،

وقوله: {تنزيل} رد على طائفة أخرى، وهم الذين يقولون: {أنه * فى كتاب} و {لا يمسه إلا المطهرون} وهم الملائكة، لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا يكون من اللّه تعالى، وذلك أن طائفة من الروافض يقولون: إن جبرائيل أنزل على علي، فنزل على محمد، فقال تعالى: هو من اللّه ليس باختيار الملك أيضا، وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار.

بم ثم قال تعالى:

٨١

{أفبهاذا الحديث أنتم مدهنون}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: (هذا) إشارة إلى ماذا؟

فنقول: المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسما لا وصفا فإن الحديث اسم لما يتحدث به، ووصف يوصف به ما يتجدد، فيقال: أمر حادث ورسم حديث أي جديد، ويقال: أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد، والحديث الذي لم يسمع

الوجه الثاني: أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى: {وكانوا يقولون * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءاباؤنا الاولون} (الواقعة: ٤٧، ٤٨) وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى: {قل إن الاولين والاخرين} (الواقعة: ٤٩) وذكر الدليل عليهم بقوله: {نحن خلقناكم} (الواقعة: ٥٧) وبقوله: {أفرءيتم ما تمنون} (الواقعة: ٥٨) {أفرءيتم ما تحرثون} (الواقعة: ٦٣) وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله: {فلا أقسم} (الواقعة: ٧٥) وبين أن ذلك كله إخبار من اللّه بقوله: {إنه لقرءان} (الواقعة: ٧٧) ثم عاد إلى كلامهم،

وقال: {أفبهذا الحديث} الذي تتحدثون به {أنتم مدهنون} لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه، أم أنتم به جازمون، وعلى الإصرار عازمون، وسنبين وجهه بتفسير المدهن، وفيه وجهان

أحدهما: أن المدهن المراد به المكذب قال الزجاج: معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون، والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالا ثانيا وهذا إذا

قلنا: إن الحديث هو القرآن

والوجه الثاني: المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال: {أنتم} فمنهم من يقول: إن النبي كاذب، وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة، وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل،

والأول عليه أكثر المفسرين، لكن

الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم: {أءنا لمبعوثون} (الواقعة: ٤٧) والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن، وقول الزجاج: مكذبون جاء بعده صريحا.

٨٢

وأما قوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}

ففيه وجوه

الأول: تجعلون شكر النعم أنكم تقولون مطرنا بنوء كذا، وهذا عليه أكثر المفسرين،

الثاني: تجعلون معاشكم وكسبكم تكذيب محمد، يقال: فلان قطع الطريق معاشه، والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، يقال للمأكول رزق، كما يقال للمقدور قدرة، والمخلوق خلق، وعلى هذا فالتكذيب مصدر قصد به ما كانوا يحصلون به مقاصدهم،

وأما قوله: {تكذبون}

فعلى الأول المراد تكذيبهم بما قال اللّه تعالى: {وما من دابة في الارض إلا على اللّه رزقها} وغير ذلك،

وعلى الثاني المراد جميع ما صدر منهم من التكذيب، وهو أقرب إلى اللفظ.

بم ثم قال تعالى:

{فلولا إذا بلغت الحلقوم}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد من كلمة: {لولا} معنى هلا من كلمات التحضيض وهي أربع كلمات: لولا، ولوما، وهلا، وألا ويمكن أن يقال: أصل الكلمات لم لا، على

السؤال كما يقول القائل: إن كنت صادقا فلم لا يظهر صدقك، ثم إنما

قلنا: الأصل لم لا لكونه استفهاما أشبه قولنا: هلا، ثم إن الاستفهام تارة يكون عن وجود شيء وأخرى عن سبب وجوده، فيقال: هل جاء زيد ولم جاء، والاستفهام بهل قبل الاستفهام بلم، ثم إن الاستفهام قد يستعمل للإنكار وهو كثير، ومنه قوله تعالى ههنا: {أفبهاذا الحديث أنتم مدهنون} (الواقعة: ٨١)

وقوله: {أتدعون بعلا وتذرون} (الصافات: ١٢٥)

وقوله تعالى: {أءفكا ءالهة دون اللّه تريدون} (الصافات: ٨٦) ونظائرها كثيرة، وقد ذكرنا لك الحكمة فيه، وهي أن النافي والناهي لا يأمر أن يكذب المخاطب فعرض بالنفي لئلا يحتاج إلى بيان النفي، إذا ثبت هذا فالاستفهام "بهل" لإنكار الفعل، والاستفهام "بلم" لإنكار سببه، وبيان ذلك أن من قال: لم فعلت كذا، يشير إلى أنه لا سبب للفعل، ويقول: كان الفعل وقع من غير سبب الوقوع، وهو غير جائز، وإذا قال: هل فعلت، ينكر نفس الفعل لا الفعل من غير سبب، وكأنه في

الأول يقول: لو وجد للفعل سبب لكان فعله أليق، وفي

الثاني يقول: الفعل غير لائق ولو وجد له سبب.

المسألة الثانية: إن كل واحد منهما يقع في صدر الكلام، ويستدعي كلاما مركبا من كلامين في الأصل،

أما في "هل" فلأن أصلها أنك تستعملها في جملتين، فتقول: هل جاء زيد أو ما جاء، لكنك ربما تحذف أحديهما،

وأما في (لو) فإنك تقول: لو كان كذا لكان كذا، وربما تحذف الجزاء كما ذكرنا في قوله تعالى: {لو تعلمون} (الواقعة: ٧٦) لأنه يشير بلو إلى أن المنفي له دليل، فإذا قال القائل: لو كنتم تعلمون،

وقيل له لم لا يعلمون، قال: إنهم لو يعلمون لفعلوا كذا، فدليله مستحضر إن طولب به بينه وإذا ثبت أن النفي بلو، والنفي بهل، أبلغ من النفي بلا، والنفي بقوله: لم، وإن كان بينهما اشتراك معنى ولفظا وحكما وصارت كلمات التحضيض وهي: لو ما، ولولا، وهلا وألا، كما تقول: لم لا فإذن قول القائل: هل تفعل وأنت عنه مستغن،

كقوله: لم تفعل وهو قبي،

وقوله: وهلا تفعل وأنت إليه محتاج، وألا تفعل

وأنت إليه محتاج،

وقوله: لولا، ولوما، كقوله: لم لا تفعل، ولم لا فعلت، فقد وجد في ألا زيادة نص، لأن نقل اللفظ لا يخلو من نص، كما أن المعنى صار فيه زيادة ما، على ما في الأصل كما بيناه،

٨٣

وقوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} أي لم لا يقولون عند الموت وهو وقت ظهور الأمور وزمان اتفاق الكلمات، ولو كان ما يقولونه حقا ظاهرا كما يزعمون لكان الواجب أن يشركوا عند النزع، وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله،

فإن قيل: ما سمع منهم الاعتراف وقت النزع بل يقولون: نحن نكذب الرسل أيضا وقت بلوغ النفس إلى الحلقوم ونموت عليه؟ فنقول: هذه الآية بعينها إشارة وبشارة،

أما الإشارة فإلى الكفار،

وأما البشارة فللرسل،

أما الإشارة وهي أن اللّه تعالى ذكر للكفار حالة لا يمكنهم إنكارها وهي حالة الموت فإنهم وإن كفروا بالحشر وهو الحياة بعد الموت لكنهم لم ينكروا الموت، وهو أظهر من كل ما هو من مثله فلا يشكون في حالة النزع، ولا يشكون في أن في ذلك الوقت لا يبقى لهم لسان ينطق ولا إنكار بعمل فتفوتهم قوة الاكتساب لإيمانهم ولا يمكنهم الإتيان بما يجب فيكون ذلك حثا لهم على تجديد النظر النظر في طلب الحق قبل تلك الحالة،

وأما البشارة فلأن الرسل لما كذبوا وكذب مرسلهم صعب عليهم، فبشروا بأن المكذبين سيرجعون عما يقولون، ثم هو إن كان قبل النزع فذلك مقبول وإلا فعند الموت وهو غير نافع، والضمير في {بلغت} للنفس أو للحياة أو الروح،

٨٤

وقوله: {وأنتم حينئذ تنظرون} تأكيد لبيان الحق أي في ذلك الوقت تصير الأمور مرئية مشاهدة ينظر إليها كل من بلغ إلى تلك الحالة، فإن كان ما ذكرتم حقا كان ينبغي أن يكون في ذلك الوقت، وقد ذكرنا التحقيق في {حينئذ} في قوله: {يومئذ} (الطور: ١١) في سورة والطور واللفظ والمعنى متطابقان على ما ذكرنا لأنهم كانوا يكذبون بالرسل والحشر، وصرح به اللّه في هذه السورة عنهم حيث قال: إنهم {وكانوا يصرون على الحنث العظيم * وكانوا يقولون * أءذا متنا} (الواقعة: ٤٦، ٤٧) وهذا كالتصريح بالتكذيب لأنهم ما كانوا ينكرون أن اللّه تعالى منزل لكنهم كانوا يجعلون أيضا الكواكب من المنزلين،

وأما المضمر فذكره اللّه تعالى عند قوله: {أفرءيتم الماء الذى تشربون} (الواقعة: ٦٨) ثم قال: {أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو} (الواقعة: ٦٩) بالواسطة وبالتفويض على ما هو مذهب المشركين أو مذهب الفلاسفة.

وأيضا التفسير المشهور محتاج إلى إضمار تقديره أتجعلون شكر رزقكم،

وأما جعل الرزق بمعنى المعاش فأقرب، يقال: فلان رزقه في لسانه، ورزق فلان في رجله ويده، وأيضا فقوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} متصل بما قبله لما بينا أن المراد أنكم تكذبون الرسل فلم لا تكذبونهم وقت النزع لقوله تعالى: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن اللّه} (العنكبوت: ٦٣) فعلم أنهم كذبوا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "كذب المنجمون ورب الكعبة" ولم يكذبوا وهذا على قراءة من يقرأ {تكذبون} بالتخفيف،

وأما المدهن فعلى ما ذكرنا يبقى على الأصل ويوافقه: {ودوا لو تدهن فيدهنون} (القلم: ٩) فإن المراد هناك ليس تكذب فيكذبون، لأنهم أرادوا النفاق لا التكذيب الظاهر.

٨٥

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ

٨٦

{فلولا إن كنتم غير مدينين}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أكثر المفسرين على أن (لولا) في المرة

الثانية مكررة وهي بعينها هي التي قال تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} (الواقعة: ٨٣) ولها جواب واحد، وتقديره على ما قاله الزمخشري: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم، أي إن كنتم غير مدينين، وقال بعضهم: هو كقوله تعالى: {فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم} (البقرة: ٣٨) حيث جعل {فلا خوف} جزاء شرطين، والظاهر خلاف ما قالوا، وهو أن يقال: جواب لولا في قوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} هو ما يدل عليه ما سبق يعني تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم فلولا تكذبون وقت النزع وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأمور وتشاهدونها،

وأما لولا في المرة

٨٧

الثانية فجوابها: {ترجعونها}.

المسألة الثانية: في {مدينين} أقوال منهم من قال: المراد مملوكين، ومنهم من قال: مجزيين، وقال الزمخشري: من دانه السلطان إذا ساسه، ويحتمل أن يقال: المراد غير مقيمين من مدن إذا أقام، هو حينئذ فعيل، ومنه المدينة، وجمعها مدائن، من غير إظهار الياء، ولو كانت مفعلة لكان جمعها مداين كمعايش بإثبات الياء، ووجهه أن يقال: كان قوم ينكرون العذاب الدائم، وقوم ينكرون العذاب ومن اعترف به كان ينكر دوامه، ومثله قوله تعالى: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (البقرة: ٨٠) قيل: إن كنتم على ما تقولون لا تبقون في العذاب الدائم فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة،

وأما على قوله: (مجزيين) فالتفسير مثل هذا كأنه قال: ستصدقون وقت النزع رسل اللّه في الحشر، فإن كنتم بعد ذلك غير مجزيين فلم لا ترجعون أنفسكم إلى دنياكم، فإن التعويق للجزاء لا غير، ولولا الجزاء لكنتم مختارين كما كنت في دنياكم التي ليست دار الجزاء مختارين تكونون حيث تريدون من الأماكن،

وأما على قولنا: مملوكين من الملك، ومنه المدينة للملوكة، فالأمر أظهر بمعنى أنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد، فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا كما كنتم في دنياكم التي ليست دار جزاء مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم، وكل ذلك عند التحقيق راجع إلى كلام واحد، وأنهم كانوا يأخذون بقول الفلاسفة في بعض الأشياء دون بعض، وكانوا يقولون بالطبائع، وأن الأمطار من السحب، وهي متولدة بأسباب فلكية، والنبات كذلك، والحيوان كذلك، ولا اختيار للّه في شيء وسواء عليه إنكار الرسل والحشر، فقال تعالى: إن كان الأمر كما يقولون فما بال الطبيعي الذي يدعى العلم لا يقدر على أن يرجع النفس من الحلقوم، مع أن في الطبع عنده إمكانا لذلك، فإن عندهم البقاء بالغداء وزوال الأمراض بالدواء، وإذا علم هذا فإن

قلنا: {غير مدينين} معناه غير مملوكين رجع إلى قولهم من إنكار الاختيار وقلب الأمور كما يشاء اللّه، وإن

قلنا: غير مقيمين فكذلك، لأن إنكار الحشر بناء على القول بالطبع، وإن

قلنا: غير محاسبين ومجزيين فكذلك، ثم لما بين أن الموت كائن والحشر بعده لازم، بين ما يكون بعد الحشر ليكون ذلك باعثا للمكلف على العمل الصالح، وزاجرا للمتمرد عن العصيان والكذب فقال:

٨٨

{فأمآ إن كان من المقربين}.

هذا وجه تعلقه معنى، وأماتعلقه لفظا

فنقول: لما قال: {فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها} (الواقعة: ٨٦، ٨٧) وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال: أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون،

٨٩

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ

فالمجزى إن كان من المقربين فله الروح والريحان،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في معنى الروح

وفيه وجوه

الأول: هو الرحمة قال تعالى: {ولا تايئسوا من روح اللّه}

(يوسف: ٨٧) أي من رحمة اللّه

الثاني: الراحة

الثالث: الفرح، وأصل الروح السعة، ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج، وقرىء، {فروح} بضم الراء بمعنى الرحمة.

المسألة الثانية: في الكلام إضمار تقديره: فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء، وكذلك إذا كان أمرا أو نهيا أو ماضيا، لأن الجزاء إذا كان مستقبلا يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط، وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم،

أما غير الأمر والنهي فظاهر،

وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه، فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر، والجزاء مرتب على الشرط.

المسألة الثالثة: في الريحان، وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى: {ذو العصف والريحان} (الرحمان: ١٢) ولكن ههنا فيه كلام، فمنهم من قال: المراد ههنا ما هو المراد ثمة،

أما الورق

وأما الزهر

وأما النبات المعروف، وعلى هذا فقد قيل: إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه،

وقيل: إن المراد ههنا غير ذلك وهو الخلود،

وقيل: هو رضاء اللّه تعالى عنهم فإذا

قلنا: الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} (التوبة: ٢١)

وأما: {جنة نعيم} فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله: {أولئك المقربون * في جنات النعيم} (الواقعة: ١١، ١٢) وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا.

المسألة الرابعة: ذكر في حق المقربين أمورا ثلاثة ههنا وفي قوله تعالى: {يبشرهم ربهم} (التوبة: ٢١) وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي: عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة، فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة اللّه على عقيدته، وكل من له عقيدة حقة يرحمه اللّه ويرزقه اللّه دائما وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة، وكل من قال: لا إله إلا اللّه فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة،

قال تعالى: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل اللّه} (التوبة: ١١١)

وقال: {ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هى المأوى} (النازعات: ٤٠، ٤١)

فإن قيل: فعلى هذا من أتى بالعقيدة الحقة، ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم اللّه إلا من قال: لا إله إلا اللّه،

نقول: من كانت عقيدته حقة،لا بد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به، لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا،

وأما اللّه تعالى فهو عالم الأسرار، ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال: إن من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت،

لأنا نقول: الجواب عنه من وجهين

أحدهما: أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل، فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز

وثانيهما: أنا نقول من حيث الجزاء،

وأما من قال: لا إله إلا اللّه فيدخل الجنة، وإن لم يعمل عملا لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل اللّه من غير جزاء، وإن كان الجزاء أيضا من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة، ومن الفضل مالا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدي إليه غيرملك لا يستحق هديته ولا رزقه.

٩٠

انظر تفسير الآية:٩١

٩١

بم ثم قال تعالى:{وأما إن كان من أصحاب اليمين * فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ }.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في السلام

وفيه وجوه

أولها: يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين، كما قال تعالى من قبل: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما} (الواقعة: ٢٥، ٢٦)،

ثانيها: {فسلام لك} أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه فإنه في أعلى المراتب، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم، يقول له: كن فارغا من جانب ولدك فإنه في راحة.

ثالثها: أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق الفضل.

المسألة الثانية: الخطاب بقوله: {لك} مع من؟

نقول: قد ظهر بعض ذلك فنقول: يحتمل أن يكون المراد من الكلام النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وحينئذ فيه وجه وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى اللّه عليه وسلم فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها، فسلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم، أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى اللّه عليه وسلم دليل العظمة، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم، وعلى هذا ففيه لطيفة: وهي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مكانته فوق مكانة أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين، فلما قال: {وأما إن كان من أصحاب اليمين} كان فيه إشارة إلى أن مكانهم غير مكان الأولين المقربين، فقال تعالى: هؤلاء وإن كانوا دون الأولين لكن لا تنفع بينهم المكانة والتسليم، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك والغائب إلى أهله وولده،

وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك وإن كنت أعلى مرتبة منهم.

٩٢

بم ثم قال تعالى: { وأما إن كان من المكذبين الضالين}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال ههنا: {من المكذبين الضالين}

وقال من قبل: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك.

المسألة الثانية: ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال: {فأصحاب الميمنة} (الواقعة: ٨)

ثم قال: {وأصحاب اليمين} (الواقعة: ٢٧)

وقال: {وأصحاب المشئمة} (الواقعة: ٩)

ثم قال: {وأصحاب الشمال} (الواقعة: ٤١)

وأعادهم ههنا، وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين،

أحدهما غير الآخر، وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين، وفي آخر السورة بلفظ المقربين، وذكر أصحاب النار في

الأول بلفظ {وأصحاب المشئمة} ثم بلفظ {الشمال ما} ثم بلفظ {المكذبين} فما الحكمة فيه؟

نقول:

أما السابق فله حالتان إحداهما في

الأولى، والأخرى في الآخرة، فذكره في المرة

الأولى بماله في الحالة

الأولى، وفي

الثانية بماله في الحالة الآخرة، وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب، بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين، ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين، لأن حالهم قريبة من حال السابقين، وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم، فوصفوهم بموضع الشؤم، فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع، ثم قال: {الشمال ما} فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم، ويقفون في موضع هو شمال، لأجل كونهم من أهل النار،

ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم، ثم لم يقتصر عليه، ثم ذكر السبب فيه، فقال: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون} (الواقعة: ٤٥، ٤٦) فذكر سبب العقاب لما بينا مرارا أن العادل يذكر للعقاب سببا، والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سببا، فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا، فقال:

{وأما إن كان من المكذبين} ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل، وغير ذلك ظاهر.

٩٣

فنزل مِنْ حَمِيمٍ

٩٤

وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ

٩٥

بم ثم قال تعالى {إن هذا لهو حق اليقين}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: {هذا} إشارة إلى ماذا؟

نقول: فيه وجوه

أحدها: القرآن

ثانيها: ما ذكره في السورة

ثالثها: جزاء الأزواج الثلاثة.

المسألة الثانية: كيف أضاف الحق إلى اليقين مع أنهما بمعنى واحد؟

نقول: فيه وجوه

أحدها: هذه الإضافة، كما أضاف الجانب إلى الغربي في قوله: {وما كنت بجانب الغربى} (القصص: ٤٤) وأضاف الدار إلى الآخرة في قوله: {ولدار الاخرة} (الأنعام: ٣٢) غير أن المقدر هنا غير ظاهر، فإن شرط ذلك أن يكون بحيث يوصف باليقين، ويضاف إليه الحق، وما يوصف باليقين بعد إضافة الحق إليه

وثانيها: أنه من الإضافة التي بمعنى من، كما يقال: باب من ساج، وباب ساج، وخاتم من فضة، وخاتم فضة، فكأنه قال: لهو الحق من اليقين

ثالثها: وهو أقرب منها ما ذكره ابن عطية أن ذلك نوع تأكيد يقال: هذا من حق الحق، وصواب الصواب، أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه، والذي وقع في تقرير هذا أن الإنسان أظهر ما عنده الأنوار المدركة بالحس، وتلك الأنوار أكثرها مشوبة بغيرها، فإذا وصل الطالب إلى أوله يقول: وجدت أمر كذا، ثم إنه مع صحة إطلاق اللفظ عليه لا يتميز عن غيره، فيتوسط الطالب ويأخذ مطلوبه من وسطه، مثاله من يطلب الماء، ثم يصل إلى بركة عظيمة، فإذا أخذ من طرفه شيئا يقول: هو ماء، وربما يقول قائل آخر: هذا ليس بماء، وإنما هو طين،

وأما الماء ما أخذته من وسط البركة، فالذي في طرف البركة ماء بالنسبة إلى أجسام أخرى، ثم إذا نسب إلى الماء الصافي ربما يقال له شيء آخر، فإذا قال: هذا هو الماء حقا قد أكد، وله أن يقول: حق الماء، أي الماء حقا هذا بحيث لا يقول أحد فيه شيء، فكذلك ههنا كأنه قال: هذا هو اليقين حقا لا اليقين الذي يقول بعض إنه ليس بيقين، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقال: الإضافة على حقيقتها، ومعناه أن هذا القول لك يا محمد وللمؤمنين، وحق اليقين أن تقول كذا، ويقرب من هذا ما يقال: حق الكمال أن يصلي المؤمن، وهذا كما قيل في قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أن الضمير راجع إلى الكلمة أي إلا بحق الكلمة، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة، فكذلك حق اليقين أن يعرف ما قاله اللّه تعالى في الواقعة في حق الأزواج الثلاثة، وعلى هذا معناه: أن اليقين لا يحق ولا يكون إلا إذا صدق فيما قاله بحق، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه،

٩٦

وأما قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} فقد تقدم تفسيره، وقلنا إنه تعالى لما بين الحق وامتنع الكفار، قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم هذا هو حق، فإن امتنعوا فلا تتركهم ولا تعرض عنهم وسبح ربك في نفسك، وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك، ويحتمل أن يكون المراد فسبح واذكر ربك باسمه الأعظم، وهذا متصل بما بعده لأنه قال في السورة التي تلي هذه: {سبح للّه ما فى * السماوات} (الحديد: ١) فكأنه قال: سبح اللّه ما في السموات، فعليك أن توافقهم ولا تلتفت إلى الشرذمة القليلة الضالة، فإن كل شيء معك يسبح اللّه عز وجل.

﴿ ٠