ÓõæÑóÉõ ÇáúÍóÔúÑö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ÃóÑúÈóÚñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة الحشر

وهي عشرون وأربع آيات مدنية

_________________________________

١

{سبح للّه ما فى السماوات وما فى الارض وهو العزيز الحكيم}.

صالح بنو النضير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري، فقتل كعبا غيلة، وكان أخاه من الرضاعة، ثم صحبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف، فقال لهم: أخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب،

وقيل: استمهلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فبعث إليهم عبد اللّه بن أبي وقال: لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن خرجتم لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة، فلما قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وآيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.

وههنا سؤالات.

السؤال الأول: ما معنى هذه اللام في قوله: {لاول الحشر}

الجواب: إنها هي اللام في قولك: جئت لوقت كذا، والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أول الحشر.

السؤال الثاني: ما معنى أول الحشر؟

الجواب: أن الحشر هو أخراج الجمع من مكان إلى مكان،

وأما أنه لم سمي هذا الحشر بأول الحشر فبيانه من وجوه:

أحدها: وهو قول ابن عباس والأكثرين إن هذا أول حشر أهل الكتاب، أي أول مرة حشروا وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، لأنهم كانوا أهل منعة وعز

وثانيها: أنه تعالى جعل إخراجهم من المدينة حشرا، وجعله أول الحشر من حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام، ثم تدركهم الساعة هناك

وثالثها: أن هذا أول حشرهم،

وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام

ورابعها: معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما يحشرهم لقتالهم، لأنه أول قتال قاتلهم رسول اللّه

وخامسها: قال قتادة هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وذكروا أن تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.

٢

قوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا}.

قال ابن عباس: إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم، وإنما ذكر اللّه تعالى ذلك تعظيما لهذه النعمة، فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم، فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود، فيتخلصون من ضرر مكايدهم، فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم.

قوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من اللّه}.

قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول اللّه، وفي الآية تشريف عظيم لرسول اللّه، فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول اللّه هي بعينها نفس المعاملة مع اللّه،

فإن قيل: ما الفرق بين قولك: ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه،

قلنا: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم إسما، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم، وهذه المعاني لا تحصل في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.

قوله تعالى: {فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في الآية وجهان

الأول: أن يكون الضمير في قوله: {فأتاهم} عائد إلى اليهود، أي فأتاهم عذاب اللّه وأخذهم من حيث لم يحتسبوا

والثاني: أن يكون عائدا إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر اللّه وتقويته من حيث لم يحتسبوا، ومعنى: لم يحتسبوا، أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم، وذلك بسبب أمرين

أحدهما: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة، وذلك مما أضعف قوتهم، وفتت عضدهم، وقل من شوكتهم

والثاني: بما قذف في قلوبهم من الرعب.

المسألة الثانية: قوله: {فاتاهم اللّه} لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء، فدل على أن باب التأويل مفتوح، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز.

المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: قرىء {فاتاهم اللّه} أي فآتاهم الهلاك، واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل، لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة

الأولى، فإنها ثابتة بالتواتر، ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها، بل لا بد فيها من التأويل.

قوله تعالى: {وقذف فى قلوبهم الرعب} قال أهل اللغة: الرعب، الخوف الذي يستوعب الصدر، أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه، وفيه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه، واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها للّه، وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من اللّه ودلت على أن ذلك الرعب سببا في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من اللّه، فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى اللّه بهذا الطريق.

قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قال أبو علي: قرأ أبو عمرو وحده: {يخربون} مشددة، وقرأ: الباقون: {يخربون} خفيفة، وكان أبو عمرو يقول: الإخراب أن يترك الشيء خرابا والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجها، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فإنما هو تكثير، لأنه ذكر بيوتا تصلح للقليل والكثير، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو فرحته وأفرحته، وحسنه اللّه وأحسنه، وقال الأعمش:

( وأخربت من أرض قوم ديارا)

وقال الفراء: {يخربون} بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها.

المسألة الثانية: ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوها

أحدها: أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج

وثانيها: قال مقاتل: إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا، ودربوا على الأزقة وحصنوها، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب

وثالثها: أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم، وينقبونها من أدبارها

ورابعها: أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنوا بالجلاء، وكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها ويحملونها على الإبل،

فإن قيل: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟

قلنا قال الزجاج: لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.

قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار}.

اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب "المحصول من أصول الفقه" على أن القياس حجة فلا نذكره ههنا، إلا أنه لا بد ههنا من بيان

الوجه الذي أمر اللّه فيه بالاعتبار، وفيه احتمالات

أحدها: أنهم اعتمدوا على حصونهم، وعلى قوتهم وشوكتهم، فأباد اللّه شوكتهم وأزال قوتهم، ثم قال: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} ولا تعتمدوا على شيء غير اللّه، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل اللّه ورحمته

وثانيها: قال القاضي: المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضا يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي.

فإن قيل: هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا: إنهم غدروا وكفروا فعذبوا، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر، إلا أن هذا القول فاسد طردا وعكسا

أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر، وما عذب في الدنيا

وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار، وأيضا فالحكم

الثالث في الأصل هو أنهم: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين} وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين، ومعلوم أن هذا لا يصلح، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح

والجواب: أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب

أولها: كونه تخريبا للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين

وثانيها: وهو أعم من الأول، كونه عذابا في الدنيا

وثالثها: وهو أعم من الثاني، كونه مطلق العذاب، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب، فأما خصوص كونه تخريبا أو قتلا في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة، والغدر والكفر يناسبان العذاب، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب، فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح.

المسألة الثانية: الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه،

ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وفي قوله: {لعبرة لاولى الابصار} وجهان

الأول: قال ابن عباس: يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر

والثاني: قال الفراء: {لعبرة لاولى الابصار} يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.

٣

{ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الاخرة عذاب النار}.

معنى الجلاء في اللغة، الخروج من الوطن والتحول عنه،

فإن قيل: أن {لولا} تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا، لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب، فإذا يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال،

قلنا معناه: ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة،

وأما قوله: {ولهم فى الاخرة عذاب النار} فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفا على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا، أن (لولا) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.

٤

أما قوله تعالى: {ذالك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله} فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة اللّه ورسوله،

فإن قيل: لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال: أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك،

قلنا: هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها.

ثم قال: {ومن يشاق اللّه فإن اللّه شديد العقاب} والمقصود منه الزجر.

٥

{ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن اللّه وليخزى الفاسقين}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: {من لينة} بيان لـ{ما قطعتم}، ومحل {ما} نصب بقطعتم، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله: {أو تركتموها} لأنه في معنى اللينة.

المسألة الثانية: قال أبو عبيدة: اللينة النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية، وأصل لينة لونة، فذهبت الواو لكسرة اللام، وجمعها ألوان، وهي النخل كله سوى البرني والعجوة، وقال بعضهم: اللينة النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين وجمعها لين،

فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟

قلنا: إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد.

المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: قرىء (قوما على أصلها)،

وفيه وجهان

أحدهما: أنه جمع أصل كرهن ورهن، واكتفى فيه بالضمة عن الواو، وقرىء (قائما على أصوله)، ذهابا إلى لفظ ما،

وقوله: {فبإذن اللّه} أي قطعها بإذن اللّه وبأمره {وليخزى الفاسقين} أي ولأجل إخزاء الفاسقين، أي اليهود أذن اللّه في قطعها.

المسألة الرابعة: روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق، قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية، والمعنى أن اللّه إنما أذن في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعز أموالهم.

المسألة الخامسة: احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة، وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعا للقتال.

المسألة السادسة: روي أن رجلين كانا يقطعان

أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال هذا: تركتها لرسول اللّه، وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار، فاستدلوا به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول.

٦

{ومآ أفآء اللّه على رسوله منهم ...}.

قال المبرد: يقال فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه اللّه إذا رده، وقال الأزهري: الفيء ما رده اللّه على أهل دينه، من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال،

أما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح، ويتركوا الباقي، فهذا المال هو الفيء، وهو ما أفاء اللّه على المسلمين، أي رده من الكفار إلى المسلمين،

وقوله: {منهم} أي من يهود بني النضير، قوله: {فما أوجفتم} يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا، وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه، إذا حمله على السير السريع،

وقوله: {عليه} أي على ما أفاء اللّه،

وقوله: {من خيل ولا ركاب} الركاب ما يركب من الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسا، ومعنى الآية أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر اللّه الفرق بين الأمرين، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعبا، فكان الأمر فيه مفوضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.

ثم ههنا سؤال: وهو أن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياما، وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون ههنا وجهين

الأول: أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون بل هو في فدك، وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله، ويجعل الباقي في السلاح والكراع، فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا، فقال أبو بكر: أنت أعز الناس علي فقرا، وأحبهم إلي غنى، لكني لا أعرف صحة قولك، ولا يجوز أن أحكم بذلك، فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول عليه السلام، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن، فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى اللّه عليه وسلم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول، ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع، وكذلك عمر جعله في يد علي ليجريه على هذا المجرى، ورد ذلك في آخر عهد عمر إلى عمر، وقال: إن بنا غنى وبالمسلمين حاجة إليه، وكان عثمان رضي اللّه عنه يجريه كذلك، ثم صار إلى علي فكان يجريه هذا المجرى فالأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك و

القول الثاني: أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركب إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان راكب جمل، فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل، أجراه اللّه تعالى مجرى مالم يحصل فيه المقاتلة أصلا فخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتلك الأموال ثم روى أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة.

ثم إنه تعالى ذكر حكم الفيء فقال:

٧

{مآ أفآء اللّه على رسوله من أهل القرى ...}.

قال صاحب الكشاف: لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها وغير أجنبية عنها، واعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله: {ولذى القربى} بنو هاشم وبنو المطلب.

قال الواحدي: كان الفيء في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقسوما على خمسة أسهم أربعة منها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم، سهم منها لرسول اللّه أيضا، والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل،

وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول اللّه قولان

أحدهما: أنه للمجاهدين المرصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول اللّه في رباط الثغور

والقول الثاني: أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر، يبدأ بإلهم فإلهم، هذا في الأربعة أخماس التي كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف،

وقوله تعالى: {كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قال المبرد: الدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا مرة، والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم، فالدولة بالضم اسم ما يتداول، وبالفتح مصدر من هذا، ويستعمل في الحالة السارة التي تحدث للإنسان، فيقال: هذه دولة فلان أي تداوله، فالدولة اسم لما يتداول من المال، والدولة اسم لما ينتقل من الحال، ومعنى الآية كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعا في يد الأغنياء ودولة لهم.

المسألة الثانية: قرىء: (دولة) و (دولة) بفتح الدال وضمها، وقرأ: أبو جعفر: (دولة) مرفوعة الدال والهاء، قال أبو الفتح: {يكون} ههنا هي التامة كقوله: {وإن كان ذو عسرة فنظرة} (البقرة: ٢٨٠) يعني كي لا يقع دولة جاهلية،

ثم قال: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} يعني ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا {واتقوا اللّه} في أمر الفيء {أن اللّه شديد العقاب} على ما نهاكم عنه الرسول، والأجود أن تكون هذه الآية عامة في كل ما آتى رسول اللّه ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه.

٨

{للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ...}.

اعلم أن هذا بدل من قوله: {ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (الحشر: ٧) كأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا، ثم إنه تعالى وصفهم بأمور:

أولها: أنهم فقراء

وثانيها: أنهم مهاجرون

وثالثها: أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني أن كفار مكة أحوجوهم إلى الخروج فهم الذين أخرجوهم

ورابعها: أنهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا، والمراد بالفضل ثواب الجنة وبالرضوان قوله: {ورضوان من اللّه أكبر} (التوبة: ٧٢)

وخامسها: قوله: {وينصرون اللّه ورسوله} أي بأنفسهم وأموالهم

وسادسها: قوله: {أولئك هم الصادقون} يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ظهر صدقهم في دينهم، وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه، فقال: هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر يا خليفة رسول اللّه، واللّه يشهد على كونهم صادقين، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم يا خليفة رسول اللّه، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.

ثم إنه تعالى ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ للمهاجرين دونهم فقال:

٩

{والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ...}.

والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية:

والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم

فإن قيل: في الآية سؤالان

أحدهما: أنه لا يقال: تبوأ الإيمان

والثاني: بتقدير أن يقال: ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين

والجواب عن الأول من وجوه

أحدها: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:

( ولقد رأيتك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا )

وثانيها: جعلوا الإيمان مستقرا ووطنا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال: أنا ابن الإسلام

وثالثها: أنه سمى المدينة بالإيمان، لأن فيها ظهر الإيمان وقوي

والجواب: عن السؤال الثاني من وجهين

الأول: أن الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان

والثاني: أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير: تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم، ثم قال: {ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا} وقال الحسن: أي حسدا وحرارة وغيظا مما أوتي المهاجرون من دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة، لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية، ثم قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يقال: آثره بكذا إذا خصه به، ومفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للأنصار: "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم فقالوا: لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة" فأنزل اللّه تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} فبين أن هذا الإيثار ليس غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر، وأصلها من الخصاص وهي الفرج، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص، الواحد خصاصة، وذكر المفسرون أنواعا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللّهم عنه حتى يشبع الضيف،

ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات، ثم قال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الشح بالضم والكسر، وقد قرىء بهما.

واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس، لا جرم قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه اللّه عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره اللّه بإعطائه فقد وقى شح نفسه.

١٠

اعلم أن قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} عطف أيضا على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد،

وقيل: التابعون بإحسان وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، وذكر تعالى أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان، وهو قوله: {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين ءامنوا} أي غشا وحسدا وبغضا.

واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم

أما المهاجرون أ الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية.

١١

{ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم ...}.

قال المقاتلان: يعني عبد اللّه بن أبي، وعبد اللّه بن نبتل، ورفاعة بن زيد، كانوا من الأنصار، ولكنهم نافقوا يقولون لإخوانهم، وهذه الأخوة تحتمل وجوها

أحدها: الأخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم

وثانيها: الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة

وثالثها: الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود: {لئن أخرجتم} من المدينة {لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحدا أبدا} ووعدوهم النصر أيضا بقولهم: {وإن قوتلتم لننصرنكم}

ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال: {واللّه يشهد إنهم لكاذبون}. ولما شهد على كذبهم على سبيل الإجمال أتبعه بالتفصيل فقال:

١٢

{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا ...}.

واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة، والمعدومات في الأزمنة الثلاثة، وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة، أنه لو كان على خلاف ما وقع كيف كان يكون على ذلك التقدير، فههنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وقد كان الأمر كذلك، لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقين، وقوتلوا أيضا فما نصروهم،

فأما قوله تعالى: {ولئن نصروهم} فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير: لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول، لكنه لا يفيد لك فائدة، فكذا ههنا ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم، وبتقدير أن ينصروا إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي الأعداء،

ونظير هذه الآية قوله: {ولو علم اللّه فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، فأما قوله: {ثم لا ينصرون}

ففيه وجهان:

الأول: أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من المنافقون: {ثم لا ينصرون} بعد ذلك أي يهلكهم اللّه، ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم

والثاني: لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.

ثم ذكر تعالى أن خوف المنافقين من المؤمنين أشد من خوفهم من اللّه تعالى فقال:

١٣

{لانتم أشد رهبة فى صدورهم من اللّه ذلك بأنهم قوم لا يفقهون}. أي لا يعلمون عظمة اللّه حتى يخشوه حق خشيته.

١٤

ثم قال تعالى: {لا يقاتلونكم جميعا إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر} يريد أن هؤلاء اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب أو من وراء جدر، وذلك بسبب أن اللّه ألقى في قلوبهم الرعب، وأن تأييد اللّه ونصرته معكم، وقرىء {جدر} بالتخفيف وجدار وجدر وجدر وهما الجدار.

ثم قال تعالى: {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} وفيه ثلاثة أوجه

أحدها: يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما يكون إذا كان بعضهم مع بعض، فأما إذا قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة، لأن الشجاع يجبن والعز يذل عند محاربة اللّه ورسوله

وثانيها: قال مجاهد: المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون: لنفعلن كذا وكذا، فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون، ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم فيما بينهم شديد، لا فيما بينهم وبين المؤمنين

وثالثها: قال ابن عباس: معناه بعضهم عدو للبعض، والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} يعني تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة،

أما قلوبهم فشتى، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر، وبينهم عداوة شديدة، وهذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم،

وقوله: {ذالك بأنهم قوم لا يعقلون} فيه وجهان:

الأول: أن ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم

والثاني: لا يعقلون أن تشيت القلوب مما يوهن قواهم.

١٥

{كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}.

أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب

فإن قيل: بم انتصب {قريبا}،

قلنا: بمثل، والتقدير كوجود مثل أهل بدر.

{قريبا ذاقوا وبال أمرهم} أي سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول اللّه من قولهم: كلأ وبيل أي وخيم سيىء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {ولهم فى الاخرة عذاب * أليم}.

١٦

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال:

{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر ...}.

أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم: {لئن أخرجتم لنخرجن معكم} (الحشر: ١١) ثم خذلوهم وما وفوا بعهدهم: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}

ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد

أما عموم دعوة الشيطان إلى الكفر،

وأما إغواء الشيطان قريشا يوم بدر بقوله: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم * إلى * قوله *إني برىء منكم} (الأنفال: ٤٨).

١٧

ثم قال: {فكان عاقبتهمآ أنهما فى النار خالدين فيها وذلك جزآء الظالمين}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال مقاتل: فكان عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان حيث صارا إلى النار.

المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرأ ابن مسعود (خالدان فيها)، على أنه خبران، و (في النار) لغو، وعلى القراءة المشهورة الخبر هو الظرف {وأنزلنا فيها} حال، وقرىء: {عاقبتهما} بالرفع، ثم قال: {وذلك جزاء الظالمين} أي المشركين، لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان:١٣).

١٨

ثم إنه تعالى رجع إلى موعظة المؤمنين فقال: {ياأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد}.

الغد: يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له،

ثم ذكر النفس والغد على سبيل التنكير.

أما الفائدة في تنكير النفس فاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك،

وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأنه قيل: الغد لا يعرف كنهه لعظمه.

ثم قال: {واتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون} كرر الأمر بالتقوى تأكيدا أو يحمل

الأول: على أداء الواجبات

والثاني: على ترك المعاصي.

١٩

ثم قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم}

وفيه وجهان:

الأول: قال المقاتلان: نسوا حق اللّه فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده

الثاني: {فأنساهم أنفسهم} أي أراهم يوم القيامة من إلهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله: {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم} (إبراهيم: ٤٣)

{وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} (الحج: ٢).

ثم قال: {أولئك هم الفاسقون} والمقصود منه الذم، واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (الحشر: ١٨) وهدد الكافرين بقوله: {كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم} بين الفرق بين الفريقين فقال:

٢٠

{لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون}.

واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة، فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان، وهو غير جائز، وجوابه معلوم.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافيات.

٢١

ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال:

{لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه} والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية اللّه.

ثم قال: {وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، ونظير قوله: {ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة: ٧٤)

واعلم أنه لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة اللّه فقال:

٢٢

{هو اللّه الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم}.

وقيل: السر والعلانية

وقيل: الدنيا والآخرة.

اعلم أنه تعالى قدم الغيب على الشهادة في اللفظ وفيه سر عقلي،

أما المفسرون فذكروا أقوالا في الغيب والشهادة، فقيل: الغيب المعدوم، والشهادة الموجود ما غاب عن العباد وما شاهدوه.

٢٣

ثم قال: {هو اللّه الذى لا إله إلا هو الملك} وكل ذلك قد تقدم تفسيره.

ثم قال: {القدوس} قرىء: بالضم والفتح، وهو البليغ في النزاهة في الذات والصافات، والأفعال والأحكام والأسماء، وقد شرحناه في أول سورة الحديد، ومضى شيء منه في تفسير قوله: {ونقدس لك} (البقرة: ٣٠) وقال الحسن: إنه الذي كثرت بركاته.

وقوله: {السلام}

فيه وجهان

الأول: أنه بمعنى السلامة ومنه دار السلام، وسلام عليكم وصف به مبالغة في كونه سليما من النقائص كما يقال: رجاء، وغياث، وعدل

فإن قيل فعلى هذا التفسير لايبقى بين القدوس، وبين السلام فرق، والتكرار خلاف الأصل،

قلنا: كونه قدوسا، إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر، كونه: سليما، إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب، فإنه تزول سلامته ولا يبقى سليما

الثاني: أنه سلام بمعنى كونه موجبا للسلامة.

وقوله: {المؤمن} فيه وجهان

الأول: أنه الذي آمن أولياءه عذابه، يقال: آمنه يؤمنه فهو مؤمن

والثاني: أنه المصدق،

أما على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم، أو لأجل أن أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم يشهدون لسائر الأنبياء، كما قال: {لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: ١٤٣)

ثم إن اللّه يصدقهم في تلك الشهادة، وقرىء بفتح الميم، يعني المؤمن به على حذف الجار كما حذف في قوله: {واختار موسى قومه} (الأعراف: ١٥٥).

وقوله: {المهيمن} قالوا: معناه الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء.

ثم في أصله قولان، قال الخليل وأبو عبيدة: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيب على الشيء، وقال آخرون: مهيمن أصله مؤيمن، من آمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن، وقد تقدم استقصاؤه عند قوله: {ومهيمنا عليه} (المائدة: ٤٨) وقال ابن الأنباري: المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد:

( ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر )

قال معناه: القائم على الناس بعده.

وما {العزيز} فهو

أما الذي لا يوجد له نظير،

وأما الغالب القاهر.

وأما {الجبار} ففيه وجوه

أحدها: أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير.

قال الأزهري: وهو لعمري جابر كل كسير وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه، قال العجاج:

( قد جبر الدين الإله فجبر)

والثاني: أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراده، قال السدي: إنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراده، قال الأزهري: هي لغة تميم، وكثير من الحجازيين يقولونها، وكان الشافعي يقول: جبره السلطان على كذا بغير ألف.

وجعل الفراء الجبار بهذا معنى من أجبره، وهي اللغة المعروفة في الإكراه، فقال: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين، وهما جبار من أجبر، ودراك من أدرك، وعلى هذا القول الجبار هو القهار

الثالث: قال ابن الأنباري: الجبار في صفة اللّه الذي لا ينال، ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول: جبارة

الرابع: قال ابن عباس: الجبار، هو الملك العظيم، قال الواحدي: هذا الذي ذكرناه من معاني الجبار في صفة اللّه، وللجبار معان في صفة الخلق

أحدها: المسلط كقوله: {وما أنت عليهم بجبار} (ق: ٤٥)،

والثاني: العظيم الجسم كقوله: {إن فيها قوما جبارين} (المائدة: ٢٢)

والثالث: المتمرد عن عبادة اللّه، كقوله: {ولم يجعلنى جبارا} (مريم: ٣٢)،

وثالثها: القتال كقوله: {بطشتم جبارين} (الشعراء: ١٣٠)

وقوله: {إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الارض} (القصص: ١٩).

أما قوله: {المتكبر} ففيه وجوه

أحدها: قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله

وثانيها: قال قتادة: المتعظم عن كل سوء

وثالثها: قال الزجاج: الذي تعظم عن ظلم العباد

ورابعها: قال ابن الأنباري: المتكبرة ذو الكبرياء، والكبرياء عند العرب: الملك، ومنه قوله تعالى: {وتكون لكما الكبرياء فى الارض} (يونس) ٧٨)،

واعلم أن المتكبر في حق الخلق اسم ذم، لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر، وذلك نقص في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علو، بل ليس معه إلا الحقارة والذلة والمسكنة، فإذا أظهر العلو كان كاذبا، فكان ذلك مذموما في حقه

أما الحق سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه سبحانه ولهذا السبب لما ذكر هذا الإسم:

قال: {سبحان اللّه عما يشركون} كأنه قيل: إن المخلوقين قد يتكبرون ويدعون مشاركة اللّه في هذا الوصف لكنه سبحانه منزه عن التكبر الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي،

أما الحق سبحانه فله العلو والعزة، فإذا أظهره كان ذلك ضم كمال إلى كمال، فسبحان اللّه عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق.

٢٤

ثم قال: {هو اللّه الخالق} والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة، فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة.

ثم قال: {البارىء} وهو بمنزلة قولنا: صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام، ولذلك يقال في الخلق: برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم.

وأما {المصور} فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد، وقدم ذكر الخالق على البارىء، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارىء على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.

ثم قال تعالى: {له الاسماء الحسنى} وقد فسرناه في قوله: {وللّه الاسماء الحسنى} (الأعراف: ١٨٠).

أما قوله: {يسبح له ما فى * السماوات والارض * وهو العزيز الحكيم} فقد مر تفسيره في أول سورة الحديد واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، والحمد للّه رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

﴿ ٠