ÓõæÑóÉõ ÇáúãóÚóÇÑöÌö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ÃóÑúÈóÚñ æóÃóÑúÈóÚõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة المعارج

أربعون وأربع آيات

_________________________________

١

انظر تفسير الآية:٢

٢

{سأل سآئل بعذاب واقع}.

اعلم أن قوله تعالى: {سأل} فيه قراءتان منهم من قرأه بالهمزة، ومنهم من قرأه بغير همزة،

أما الأولون وهم الجمهور فهذه القراءة تحتمل وجوها من التفسير:

الأول: أن النضر بن الحرث لما قال: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال: ٣٢) فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ومعنى قوله: {سأل سائل} أي دعا داع بعذاب واقع من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: {يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين} (الدخان: ٥٥) قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول تقدير الباء الإسقاط، وتأويل الآية: سأل سائل عذابا واقعا، فأكد بالباء كقوله تعالى: {وهزى إليك بجذع النخلة} (مريم: ٢٥) وقال صاحب الكشاف لما كان {سأل} معناه ههنا دعا لا جرم عدى تعديته كأنه قال دعا داع بعذاب من اللّه

الثاني: قال الحسن وقتادة لما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون: بعضهم لبعض سلوا محمدا لمن هذا العذاب وبمن يقع فأخبره اللّه عنه بقوله: {سأل سائل بعذاب واقع} قال ابن الأنباري: والتأويل على هذا القول: (سأل سائل) عن عذاب والباء بمعنى عن، كقوله:

( فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب )

وقال تعالى: {فاسأل به خبيرا} (الفرقان: ٥٩) وقال صاحب "الكشاف": {سأل} على هذا

الوجه في تقدير عنى واهتم كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقع

الثالث: قال بعضهم: هذا السائل هو رسول اللّه استعجل بعذاب الكافرين، فبين اللّه أن هذا العذاب واقع بهم، فلا دافع له قالوا: والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر الآية: {فاصبر صبرا جميلا} (المعارج: ٥) وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره بالصبر الجميل،

أما القراءة

الثانية وهي (سال) بغير همز فلها وجهان:

أحدهما: أنه أراد {سأل} بالهمزة فخفف وقلب قال:

( سألت قريش رسول اللّه فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب )

والوجه الثاني: أن يكون ذلك من السيلان ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل والسيل مصدر في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، والمعنى اندفع عليهم واد بعذاب، وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد قالا: سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع.

أما {سائل}، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز فيه غير الهمز لأنه إن كان من سأل المهموز فهو بالهمز، وإن لم يكن من المهموز كان بالهمز أيضا نحو قائل وخائف إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين،

وقوله تعالى: {بعذاب واقع * للكافرين} فيه وجهان، وذلك لأنا إن فسرنا قوله: {سأل} بما ذكرنا من أن النضر طلب العذاب، كان المعنى أنه طلب طالب عذابا هو واقع لا محالة سواء طلب أو لم يطلب، وذلك لأن ذلك العذاب نازل للكافرين في الآخرة واقع بهم لا يدفعه عنهم أحد، وقد وقع بالنضر في الدنيا لأنه قتل يوم بدر، وهو المراد من قوله: {ليس له دافع}

وأما إذا فسرناه

بالوجه الثاني وهو أنهم سألوا الرسول عليه السلام، أن هذا العذاب بمن ينزل فأجاب اللّه تعالى عنه بأنه واقع للكافرين

والقول الأول وهو السديد،

٣

وقوله: {من اللّه} فيه وجهان

الأول: أن يكون تقدير الآية بعذاب واقع من اللّه للكافرين

الثاني: أن يكون التقدير ليس له دافع من اللّه، أي ليس لذلك العذاب الصادر من اللّه دافع من جهته، فإنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله اللّه

وقوله: {ذي المعارج} المعارج جمع معرج وهو المصعد، ومنه قوله تعالى: {ومعارج عليها يظهرون} (الزخرف: ٣٣) والمفسرون ذكروا فيه وجوها

أحدها: قال ابن عباس في رواية الكلبي: {ذي المعارج}، أي ذي السموات، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها

وثانيها: قال قتادة: ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة

وثالثها: أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة، وعندي فيه وجه رابع: وهو أن هذه السموات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبر والصغر، فكذا الأرواح الملكية مختلفة في القوة والضعف والكمال والنقص وكثرة المعارف الإلهية وقوتها وشدة القوة على تدبير هذا العالم وضعف تلك القوة، ولعل نور إنعام اللّه وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح،

أما على سبيل العادة أولا كذلك على ما قال: {فالمقسمات أمرا} (الذاريات: ٤)، {فالمدبرات أمرا} (النازعات: ٥) فالمراد بقوله: {من اللّه ذي المعارج} الإشارة إلى تلك الأرواح.

المختلفة التي هي كالمصاعد لارتفاع مراتب الحاجات من هذا العالم إليها وكالمنازل لنزول أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما ههنا.

٤

{تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}.

وههنا مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن عادة اللّه تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض

التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر، كما في هذه الآية، وكما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} (النبأ: ٣٨) وهذا يقتضي أن الروح أعظم (من) الملائكة قدرا، ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج الملائكة أولا والروح ثانيا، كما في هذه الآية، وذكر عند القيام الروح أولا والملائكة ثانيا، كما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} وهذا يقتضي كون الروح أولا في درجة النزول وآخرا في درجة الصعود، وعند هذا قال بعض المكاشفين: إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال اللّه، ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح، وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية، ولا يعلم كميتها إلا اللّه،

وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه

المسألة في تفسير قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} (النبأ: ٣٨).

المسألة الثانية: احتج القائلون بأن اللّه في مكان،

أما في العرش أو فوقه بهذه الآية من وجهين:

الأول: أن الآية دلت على أن اللّه تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق

والثاني: قوله: {تعرج الملئكة والروح إليه} فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه، وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق

والجواب: لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل، فأما وصف اللّه بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه،

وأما حرف (إلى) في قوله: {تعرج الملئكة والروح إليه} فليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله: {وإليه يرجع الامر كله} (هود: ١٢٣) المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله: {إنى ذاهب إلى ربى} (الصافات: ٩٩) ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها.

المسألة الثالثة: الأكثرون على أن قوله: {فى يوم} من صلة قوله {تعرج}، أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم، وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: {بعذاب واقع} (المعارج: ١) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم،

أما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا، وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول

أما أن يكون واقعا،

وأما أن يكون مقدرا فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية، ونحن نذكر تفصيلها

القول الأول: هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن: قال وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط، إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز، بل المراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا.

ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ باللّه منها.

واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر،

أما في حق المؤمن فلا، والدليل عليه الآية والخبر،

أما الآية فقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} (الفرقان: ٢٤) واتفقوا على (أن) ذلك (المقيل والمستقر) هو الجنة وأماالخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما طول هذا اليوم؟ فقال: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" ومن الناس من قال: إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سببا لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة، ويكون سببا لمزيد الحزن والغم لأهل النار

الجواب: عنه أن الآخرة دار جزاء فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم، ودار الثواب هي الجنة لا الموقف، فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار

القول الثاني: هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة، لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق، والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وأيضا الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة، وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين

القول الثالث: وهو قول أبي مسلم: إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق اللّه إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي

القول الرابع: تقدير الآية: سأل سائل بعذاب واقع من اللّه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار، ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته، وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار، بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب، ويحتمل أيضا أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدرا بهذه المدة، ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك،

فإن قيل: روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية، وعن قوله: {فى يوم كان مقداره ألف سنة} (السجدة: ٥) فقال: أيام سماها اللّه تعالى هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها مالا أعلم،

فإن قيل: فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين؟

قلنا: قال وهب في

الجواب عن هذا ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى، فقوله تعالى: {فى يوم} يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش.

٥

{فاصبر صبرا جميلا}.

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا متعلق بسأل سائل، لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول اللّه والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر بالصبر عليه، وكذلك من يسأل عن العذاب لمن هو فإنما يسأل على طريق التعنت من كفار مكة، ومن قرأ: {سأل سائل} فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر فقد جاء وقت الانتقام.

المسألة الثانية: قال الكلبي: هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال.

٦

انظر تفسير الآية:٧

٧

{إنهم يرونه بعيدا}.

الضمير في {يرونه} إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان

الأول: أنه عائد إلى العذاب الواقع

والثاني: أنه عائد إلى: {يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} (المعارج: ٤) أي يستبعدونه على جهة الإحالة {*و} نحن {يكون قريبا} هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر.

فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان، وبالقريب القريب منه.

٨

{يوم تكون السمآء كالمهل}.

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: {يوم تكون} منصوب بماذا؟ فيه وجوه

أحدها: بقريبا، والتقدير: ونراه قريبا، يوم تكون السماء كالمهل، أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم

وثانيها: التقدير: سأل سائل بعذاب واقع يوم تكون السماء كالمهل

والثالث: التقدير يوم تكون السماء كالمهل كان كذا وكذا

وثالثها: أن يكون بدلا من يوم، والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم تكون السماء كالمهل.

المسألة الثانية: أنه ذكر لذلك اليوم صفات:

الصفة الأولى: أن السماء تكون فيه كالمهل وذكرنا تفسير المهل عند قوله: {بماء كالمهل} قال ابن عباس: كدردى الزيت، وروى عنه عطاء: كعكر القطران، وقال الحسن: مثل الفضة إذا أذيبت، وهو قول ابن مسعود.

٩

وتكون...

الصفة الثانية: أن تكون الجبال فيه كالعهن، ومعنى العهن في اللغة: الصوف المصبوغ ألوانا، وإنما وقع التشبيه به، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.

١٠

الصفة الثالثة: قوله: {ولا يسئل حميم}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال ابن عباس الحميم القريب الذي يعصب له، وعدم

السؤال إنما كان لاشتغال كل أحد بنفسه، وهو كقوله: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت} (الحج: ٢)

وقوله: {يوم يفر المرء من أخيه} إلى قوله {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} (عبس: ٣٧) ثم في الآية وجوه

أحدها: أن يكون

التقدير: لا يسأل حميم عن حميمه فحذف الجار وأوصل الفعل

الثاني: لا يسأل حميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام

الثالث: لا يسأل حميم حميما شفاعة، ولا يسأل حميم حميما إحسانا إليه ولا رفقا به.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير: {ولا يسئل} بضم الياء، والمعنى لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، وهذا أيضا على حذف الجار قال الفراء: أي لا يقال لحميم أين حميمك ولست أحب هذه القراءة لأنها مخالفة لما أجمع عليه القراء.

١١

قوله تعالى: {يبصرونهم} يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى: {بصرت بما لم يبصروا به} (طه: ٩٦) ويقال: بصرت زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت: بصرني زيد كذا فإذا أثبت الفعل للمفعول به وقد حذفت الجار قلت: بصرني زيدا، فهذا هو معنى يبصرونهم، وإنما جمع فقيل: يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفردا في اللفظ فالمراد به الكثرة والجميع والدليل عليه قوله تعالى: {فما لنا من شافعين} (الشعراء: ١٠٠) ومعنى يبصرونهم يعرفونهم، أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه، وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه،

فإن قيل: ما موضع يبصرونهم؟

قلنا: فيه وجهان

الأول: أنه متعلق بما قبله كأنه لما قال: {ولا يسئل حميم حميما} (المعارج: ١٠) قيل: لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم ولكنهم لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم

الثاني: أنه متعلق بما بعده، والمعنى أن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه لكل ما يملكه، فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشديد ثم رآه عدوه على تلك الحالة كان ذلك في نهاية الشدة عليه.

الصفة الرابعة: قوله: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: المجرم هو الكافر،

وقيل: يتناول كل مذنب.

المسألة الثانية: قرىء {يومئذ} بالجر والفتح على البناء لسبب الإضافة إلى غير متمكن، وقرىء أيضا: {من عذاب يومئذ} بتنوين {عذاب} ونصب {يومئذ} وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب.

١٢

وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ

١٣

{وفصيلته التى تأويه }.

فصيلة الرجل، أقاربه الأقربون الذين فصل عنهم وينتهي إليهم، لأن المراد من الفصيلة المفصولة، لأن الولد يكون منفصلا من الأبوين.

قال عليه السلام: "فاطمة بضعة مني" فلما كان هو مفصولا منهما، كانا أيضا مفصولين منه، فسميا فصيلة لهذا السبب، وكان يقال للعباس: فصيلة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأن العم قائم مقام الأب،

وأما قوله: {تويه} فالمعنى تضمه انتماء إليها في النسب أو تمسكا بها في النوائب.

١٤

وَمَنْ فِي اْلأَرْضِ جَمِيعًا

وقوله: {ثم ينجيه} فيه وجهان

الأول: أنه معطوف على {يفتدي} (المعارج: ١١) والمعنى: يود المجرم لو يفتدي بهذه الأشياء ثم ينجيه

والثاني: أنه متعلق بقوله: {ومن فى الارض} والتقدير: يود لو يفتدي بمن في الأرض ثم ينجيه، و {ثم} لاستبعاد الإنجاء، يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه.

١٥

بم قوله تعالى: {كلا إنها لظى * نزاعة للشوى}.

{كلا} ردع للمجرم عن كونه بحيث يود الافتداء ببنيه، وعلى أنه لا ينفعه ذلك الافتداء، ولا ينجيه من العذاب، ثم قال: {أنها} وفيه وجهان

الأول: أن هذا الضمير للنار، ولم يجر لها ذكر إلا أن ذكر العذاب دل عليها

والثاني: يجوز أن يكون ضمير القصة، ولظى من أسماء النار.

قال الليث: اللظى، اللّهب الخالص، يقال: لظت النار تلظى لظى، وتلظت تلظيا، ومنه قوله: {نارا تلظى} ولظى علم للنار منقول من اللظى، وهو معرفة لا ينصرف، فلذلك لم ينون،

وقوله: {نزاعة} مرفوعة، وفي سبب هذا الارتفاع وجوه

الأول: أن تجعل الهاء في أنها عماد، أو تجعل لظى اسم إن، ونزاعة خبر إن، كأنه قيل: إن لظى نزاعة

والثاني: أن تجعل الهاء ضمير القصة، ولظى مبتدأ، ونزاعة خبرا، وتجعل الجملة خبرا عن ضمير القصة، والتقدير: إن القصة لظى نزاعة للشوى

والثالث: أن ترتفع على الذم، والتقدير: إنها لظى وهي نزاعة للشوى، وهذا قول الأخفش والفراء والزجاج.

وأما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه

أحدها: قال الزجاج: إنها حال مؤكدة، كما قال: {هو الحق مصدقا} وكما يقول: أنا زيد معروفا، اعترض أبو علي الفارسي على هذا وقال: حمله على الحال بعيد، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال، فإن قلت في قوله: {لظى} معنى التلظي والتلهب، فهذا لا يستقيم، لأن لظى اسم علم لماهية مخصوصة، والماهية لا يمكن تقييدها بالأحوال، إنما الذي يمكن تقييده بالأحوال هو الأفعال، فلا يمكن أن يقال: رجلا حال كونه عالما، ويمكن أن يقال: رأيت رجلا حال كونه عالما

وثانيها: أن تكون لظى اسما لنار تتلظى تلظيا شديدا، فيكون هذا الفعل ناصبا، لقوله:

١٦

{نزاعة}

وثالثها: أن تكون منصوبة على الاختصاص، والتقدير: إنها لظى أعنيها نزاعة للشوى، ولم تمنع.

المسألة الثالثة: {*الشوى} الأطراف، وهي اليدان والرجلان، ويقال للرامي: إذا لم يصب المقتل أشوى، أي أصاب الشوى، والشوى أيضا جلد الرأس، واحدتها شواة ومنه قول الأعشى:

( قالت قتيلة ماله قد جللت شيبا شواته )

هذا قول أهل اللغة، قال مقاتل: تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته، وقال سعيد بن جبير: العصب والعقب ولحم الساقين واليدين، وقال ثابت البناني: لمكارم وجه بني آدم.

واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء، فاللّه تعالى يعيدها مرة أخرى، كما قال: {نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب}.

١٧

بم قوله تعالى: {تدعوا من أدبر وتولى * وجمع فأوعى}.

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر، فذكروا وجوها

أحدها: أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل: سل الأرض من أشق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك جؤارا، أجابتك اعتبارا فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم، كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم

وثانيها: أن اللّه تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا: إلي يا كافر، إلي يا منافق، ثم تلتقطهم التقاط الحب

وثالثها: المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف

ورابعها: تدعو تهلك من قول العرب دعاك اللّه أي أهلكك،

وقوله: {من أدبر وتولى} يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان {وجمع} المال {فأوعى} أي جعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله: {أدبر وتولى} إشارة إلى الإعراض عن معرفة اللّه وطاعته،

١٨

وقوله: {وجمع فأوعى} إشارة إلى حب الدنيا، فجمع إشارة إلى الحرص، وأوعى إشارة إلى الأمل، ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه.

١٩

بم قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد بالإنسان ههنا الكافر، وقال آخرون: بل هو على عمومه، بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين.

المسألة الثانية: يقال: هلع الرجل يهلع هلعا وهلاعا فهو هالع وهلوع، وهو شدة الحرص وقلة الصبر، يقال: جاع فهلع، وقال الفراء: الهلوع الضجور، وقال المبرد: الهلع الضجر، يقال: نعوذ باللّه من الهلع عند منازلة الأقران، وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبداللّه بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره اللّه، ولا تفسير أبين من تفسيره، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس.

المسألة الثالثة: قال القاضي قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} نظير لقوله: {خلق الإنسان من عجل} وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف، والدليل عليه أن اللّه تعالى ذمه عليه واللّه تعالى لا يذم فعله، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق اللّه تعالى لما قدروا على تركها.

واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين:

أحدهما: الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع

والثاني: تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية،

أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق اللّه تعالى، لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه، ومن خلق شجاعا بطلا لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية،

أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار.

٢٠

انظر تفسير الآية:٢٢

٢١

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٢

بم قوله تعالى: {إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا}.

المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة، فالمعنى أنه إذا صار فقيرا أو مريضا أخذ في الجزع والشكاية، وإذا صار غنيا أو صحيحا أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس،

فإن قيل: حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه اللّه عليه؟

قلنا: إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة، وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل اللّه تعالى كان راضيا به، لعلمه أن اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية، واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفا بثمانية أشياء:

٢٣

أولها: قوله: {الذين هم على صلاتهم دائمون}

فإن قيل: قال: {على صلاتهم دائمون} ثم: {على صلاتهم يحافظون} (المعارج: ٣٤)

قلنا: معنى دوامهم عليها أن لا يتركوها في شيء من الأوقات ومحافظتهم عليها ترجع إلى إلهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه، وهذا إلهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة وتارة بأمور لاحقة بها، وتارة بأمور متراخية عنها،

أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها، ومتعلق بالوضوء، وستر العورة وطلب القبلة، ووجدان الثوب  والمكان الطاهرين، والإتيان بالصلاة في الجماعة، وفي المساجد المباركة، وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والإلتفات إلى ما سوى اللّه تعالى، وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة،

وأما الأمور المقارنة فهو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، وأن يكون حاضر القلب عند القراءة، فاهما للأذكار، مطلعا على حكم الصلاة،

وأما الأمور المتراخية فهي أن لا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللّهو واللعب، وأن يحترز كل الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.

٢٤

وثانيها قوله تعالى: {والذين فى أموالهم حق معلوم}.

اختلفوا في الحق المعلوم: فقال ابن عباس والحسن وابن سيرين، إنه الزكاة المفروضة، قال ابن عباس: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق قالوا:

والدليل على أن المراد به الزكاة المفروضة وجهان:

الأول: أن الحق المعلوم المقدر هو الزكاة،

أما الصدقة فهي غير مقدرة

الثاني: وهو أنه تعالى ذكر هذا على سبيل الاستثناء ممن ذمه، فدل على أن الذي لا يعطى هذا الحق يكون مذموما، ولا حق على هذه الصفة إلا الزكاة، وقال آخرون: هذا الحق سوى الزكاة، وهو يكون على طريق الندب والاستحباب، وهذا قول مجاهد وعطاء والنخعي.

٢٥

وقوله: {للسائل} يعني الذي يسأل {والمحروم} الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم.

٢٦

وثالثها قوله: {والذين يصدقون بيوم الدين}. أي يؤمنون بالبعث والحشر.

٢٧

ورابعها قوله تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون}.

والإشفاق يكون من أمرين،

أما الخوف من ترك الواجبات أو الخوف من الإقدام على المحظورات، وهذا كقوله: {والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: ٦٠) وكقوله سبحانه: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} (الحج: ٣٥) ومن يدوم به الخوف والإشفاق فيما كلف يكون حذرا من التقصير حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.

ثم إنه تعالى أكد ذلك الخوف فقال:

٢٨

{إن عذاب ربهم غير مأمون}.

والمراد أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي، واحترز عن المحظورات بالكلية، بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك، فلا جرم يكون خائفا أبد.

٢٩

انظر تفسير الآية:٣٢

٣٠

انظر تفسير الآية:٣٢

٣١

انظر تفسير الآية:٣٢

٣٢

وخامسها قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون}. وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين.

وسادسها قوله: {والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون}. وقد تقدم تفسيره أيضا.

٣٣

وسابعها قوله: {والذين هم بشهاداتهم قائمون}.

قرىء بشهادتهم وبشهاداتهم، قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإن أضيف لجمع كقوله لصوت الحمير.

ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، وكثرت ضروبها فحسن الجمع من جهة الاختلاف، وأكثر المفسرين قالوا: يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق، ولا يكتمونها وهذه الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وفي تركها إبطالها وتضييعها، وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الشهادة بأن اللّه واحد لا شريك له.

٣٤

وثامنها قوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}. وقد تقدم تفسيره.

٣٥

ثم وعد هؤلاء وقال: {أولائك فى جنات مكرمون}.

ثم ذكر بعده ما يتعلق بالكفار فقال:

٣٦

{فمال الذين كفروا قبلك مهطعين}.المهطع المسرع

وقيل: الماد عنقه، وأنشدوا فيه:

( بمكة أهلها ولقد أراهم بمكة مهطعين إلى السماع )

والوجهان متقاربان، روى أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلى اللّه عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون بكلامه، ويقولون: إذا دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد: فلندخلنها قبلهم، فنزلت هذه الآية فقوله: {مهطعين} أي مسرعين نحوك مادين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك، وقال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون، فهم الذين كانوا عنده وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر كقوله: {لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر}.

٣٧

ثم قال: {عن اليمين وعن الشمال عزين}.

وذلك لأنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين، ومعنى: {عزين} جماعات في تفرقة واحدها عزة، وهي العصبة من الناس، قال الأزهري: وأصلها من قولهم: عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزوا إذا انتهى إليهم، والاسم العزوة وكان العزة كل جماعة اعتزوها إلى أمر واحد، واعلم أن هذا من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف وأصلها عزوة، والكلام في هذه كالكلام في {عضين} (الحجر: ٩١) وقد تقدم،

وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط.

٣٨

ثم قال: {أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم}.

والنعيم ضد البؤس، والمعنى أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون.

٣٩

ثم قال: {كلا} وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد.

ثم قال: {إنا خلقناهم مما يعلمون}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث، كأنه قال: لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة، وجب أن أكون قادرا على بعثكم.

المسألة الثانية: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها

أحدها: أنه لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم كلا إنكم منكرون للبعث، فمن أين تطمعون في دخول الجنة

وثانيها: أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين، فقال تعالى: هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار

وثالثها: أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة، فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة.

٤٠

انظر تفسير الآية:٤١

٤١

ثم قال: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون}.

يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات {إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين} وهو مفسر في قوله: {وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم}

٤٢

وقوله: {فذرهم يخوضوا} مفسر في آخر سورة والطور، واختلفوا في أن ما وصف اللّه نفسه بالقدرة عليه من ذلك هل خرج إلى الفعل أم لا؟ فقال بعضهم: بدل اللّه بهم الأنصار والمهاجرين

فإن حالتهم في نصرة الرسول مشهورة، وقال آخرون بل بدل اللّه كفر بعضهم بالإيمان، وقال بعضهم: لم يقع هذا التبديل، فإنهم أو أكثرهم بقوا على جملة كفرهم إلى أن ماتوا، وإنما كان يصح وقوع التبديل بهم لو أهلكوا، لأن مراده تعالى بقوله: {إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم} بطريق إلهلاك، فإذا لم يحصل ذلك فكيف يحكم بأن ذلك قد وقع، وإنما هدد تعالى القوم بذلك لكي يؤمنوا.

٤٣

انظر تفسير الآية:٤٤

٤٤

ثم ذكر تعالى ذلك اليوم الذي تقدم ذكره فقال: {يوم يخرجون من عنهم سراعا} وهو كقوله: {فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون}.

قوله تعالى: {كأنهم إلى نصب يوفضون}.

اعلم أن في {نصب} ثلاث قراءات

أحدها: وهي قراءة الجمهور {نصب} بفتح النون والنصب كل شيء نصب والمعنى كأنهم إلى علم لهم يستبقون والقراءة

الثانية: {نصب} بضم النون وسكون الصاد وفيه وجهان

أحدهما: النصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف

وثانيهما: أن يكون جمع نصب كشقف جمع شقف والقراءة

الثالثة: {نصب} بضم النون والصاد، وفيه وجهان

أحدهما: أن يكون النصب والنصب كلاهما يكونان جمع نصب كأسد وأسد جمع أسد

وثانيهما: أن يكون المراد من النصب الأنصاب وهي الأشياء التي تنصب فتعبد من دون اللّه كقوله: {وما ذبح على النصب}

وقوله: {يوفضون} يسرعون، ومعنى الآية على هذا الوجه أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم، وبقية السورة معلومة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم والحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

﴿ ٠