ÓõæÑóÉõ äõæÍò Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ËóãóÇäò æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ ÓæÑÉ äæÍ Úáíå ÇáÓáÇãعشرون وثمان آيات مكية _________________________________ ١{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك} في قوله: {ءان} وجهان أحدهما: أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل، والمعنى أرسلناه بأن قلنا له: أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار الثاني قال الزجاج: يجوز أن تكون مفسرة والتقدير: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ: ابن مسعود، {أنذر} بغير أن على إرادة القول. ثم قال: {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان. واعلم أن اللّه تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر. ٢انظر تفسير الآية:٤ ٣انظر تفسير الآية:٤ ٤{قال ياقوم إنى لكم نذير مبين}. {أن اعبدوا} هو نظير {أن أنذر} (نوح: ١) في الوجهين، ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة اللّه وتقواه وطاعة نفسه، فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وقوله: {وأطيعون} يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات، وهذا وإن كان داخلا في الأمر بعبادة اللّه وتقواه، إلا أنه خصه بالذكر تأكيدا في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره، ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين أحدهما: أن يزيل مضار الآخرة عنهم، وهو قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم}. الثاني: يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان، وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان. وههنا سؤالات: السؤال الأول: ما فائدة {من} في قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم}؟ والجواب من وجوه أحدها: أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني: أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به، فلو قال: يغفر لكم ذنوبكم، لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم، وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع، فله أن يقول: لا أطالبك بمجموع ذنوبك، ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط، أما لما قال: {يغفر لكم من ذنوبكم} كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم، وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضا على كل فرد من أفراد المجموع الثالث: أن قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم} هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفورا، أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفورا، فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض. السؤال الثاني: كيف قال: {ويؤخركم} مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ الجواب: قضى اللّه مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم اللّه ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة، فقيل لهم: آمنوا {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي إلى وقت سماه اللّه وجعله غاية الطول في العمر، وهو تمام الألف، ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول، لا بد من الموت. السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله {لو كنتم تعلمون} الجواب: الغرض الزجر عن حب الدنيا، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت. ٥انظر تفسير الآية:٦ ٦بم قوله تعالى: {قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا}. اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء اللّه وقدره، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سببا لحصول الهداية، والميل والرغبة، وفي حق الثاني سببا لمزيد العتو والتكبر، ونهاية النفرة، وليس لأحد أن يقول: إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف، فإن هذا مكابرة في المحسوس، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء اللّه وقدره، فإن قيل: هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره، لكن حصول العصيان عند النفرة يكون باختياره، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع، قلنا: إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع، فبأن يصير الفعل ممتنعا أولى، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر. ٧ثم قال تعالى: {وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم}. اعلم أن نوحا عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال: {يغفر لكم من ذنوبكم} (نوح: ٤) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال: {وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم} واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء: أولها: قوله: {جعلوا أصابعهم فى ءاذانهم} والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة. وثانيها: قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي تغطوا بها، أما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه، ولا أن يروا وجهه. وأما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى. وثالثها: قوله: {وأصروا} والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق. ورابعها: قوله: {واستكبروا استكبارا} أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى. ٨انظر تفسير الآية:٩ ٩بم ثم قال تعالى: {ثم إنى دعوتهم جهارا}. واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة، فبدأ بالمناصحة في السر، فعاملوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار، وكلمة {ثم} دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض أما بحسب الزمان، أو بحسب الرتبة، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل: بم انتصب {جهارا}؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها: أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها: أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا، أي مجاهرا به ورابعها: أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا. ١٠بم قوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا}. قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس اللّه عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فرجعوا فيه إلى نوح، فقال نوح: استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه. واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه أحدها: أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى: {تكاد * السماوات * يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن دعوا * للرحمان ولدا} (مريم: ٩٠، ٩١) فلما كان الكفر سببا لخراب العالم، وجب أن يكون الإيمان سببا لعمارة العالم وثانيها: الآيات منها هذه الآية ومنها قوله: {ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات} (الأعراف: ٩٦) {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم} (المائدة: ٦٦) {وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا} (الجن: ١٦) {ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: ٢ ـ ٣) {وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك} (طه: ١٣٢) وثالثها: أنه تعالى قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها: أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء. المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة، ونوءه يكون عزيزا شبه عمر إلا استغفارا بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء، وعن بكر بن عبداللّه: أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا، وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا، وعن الحسن: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر اللّه، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية، وههنا سؤالات: الأول: أن نوحا عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار؟ الجواب: أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له: إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقا فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلا فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه، فقال نوح عليه السلام: إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب، فإنه سبحانه كان غفارا. السؤال الثاني: لم قال: {إنه كان غفارا} ولم يقل: إنه غفار؟ قلنا المراد: إنه كان غفارا في حق كل من استغفروه كأنه يقول: لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن، بل هو أبدا هكذا كان، فكأن هذا هو حرفته وصنعته. ١١[بم وقوله تعالى]: {يرسل السمآء عليكم مدرارا}. واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، ولذلك قال تعالى: {وأخرى تحبونها نصر من اللّه وفتح قريب} فلا جرم أعلمهم اللّه تعالى ههنا أن إيمانهم باللّه يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا. والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها: قوله: {يرسل السماء عليكم مدرارا} وفي السماء وجوه: أحدها: (أن) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها: أن يراد بالسماء السحاب وثالثها: أن يراد بالسماء المطر من قوله: ( إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا) والمدرار الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال ١٢وثانيها: قوله: {ويمددكم بأموال} وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها: قوله: {وبنين} ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه. ورابعها: قوله: {ويجعل لكم جنات} أي بساتين وخامسها: قوله: {ويجعل لكم أنهارا}. ١٣ثم قال: {ما لكم لا ترجون للّه وقارا}. وفيه قولان: الأول: أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها والوقار العظمة والتوقير التعظيم، ومنه قوله تعالى: {وتوقروه} بمعنى ما بالكم لا تخافون للّه عظمة. وهذا القول عندي غير جائز، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة، فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتا وإثباته نفيا بهذا الطريق الوجه الثاني: ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المعنى: مالكم لا تأملون للّه توقيرا أي تعظيما، والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم اللّه إياكم و{للّه} بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار. ١٤[بم وقوله تعالى]: {وقد خلقكم أطوارا}. في موضع الحال كأنه قال: مالكم لا تؤمنون باللّه، والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به {وقد خلقكم أطوارا} أي تارات خلقكم أولا ترابا، ثم خلقكم نطفا، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغا، ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، وعندي فيه وجه ثالث: وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم اللّه تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به، فكأنه قال لهم: إنكم إذا وقرتم نوحا وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل اللّه، فما لكم لا ترجون وقارا وتأتون به لأجل اللّه ولأجل أمره وطاعته، فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل اللّه، فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيرا ووجه رابع: وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر، فكأنه قال: {مالكم} وعند هذا تم الكلام، ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار {لا ترجون للّه وقارا} (الجن: ١٣) أي لا ترجون للّه ثباتا وبقاء، فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه، ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره، والمراد من قوله: {ترجون} أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له. واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم اللّه استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل: الأول: قوله: {وقد خلقكم أطوارا} وفيه وجهان: الأول: قال الليث: الطورة التارة يعني حالا بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة، ثم علقة إلى آخر التارات الثاني: قال ابن الأنباري: الطور الحال، والمعنى خلقكم أصنافا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضا، ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد، أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن. الدليل الثاني: على التوحيد قوله تعالى: ١٥{ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سماوات طباقا}. واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس، وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية، وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه، فلا جرم بدأ بالأقرب، وتارة يبدأ بدلائل الآفاق، ثم بدلائل الأنفس أما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم، فوقعت البداية بها لهذا السبب، أو لأجل أن دلائل الأنفس حاضرة، لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها، إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق، لأن الشبه فيها أكثر، فلا جرم تقع البداية بها، وههنا سؤالات: السؤال الأول: قوله: {سبع سماوات * طباقا} يقتضي كون بعضها منطبقا على البعض، وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج، فالملائكة كيف يسكنون فيها؟ الجواب: الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقا كونها متوازية لا أنها متماسة. ١٦السؤال الثاني: كيف قال: {وجعل القمر فيهن نورا} والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا؟ والجواب: هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا. السؤال الثالث: السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب: الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سببا لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج، وأيضا فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس، ومنه قوله تعالى: {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا} (يونس: ٥). ١٧انظر تفسير الآية:١٨ ١٨الدليل الثالث: على التوحيد قوله تعالى: {واللّه أنبتكم من الارض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}. واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله: {خلقكم أطوارا} (نوح: ١٤) فإنه بين أنه تعالى خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى، أما قوله: {أنبتكم من الارض نباتا} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: في هذه الآية وجهان أحدهما: معنى قوله: {أنبتكم من الارض} أي أنبت أباكم من الأرض كما قال: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم خلقه من تراب} (آل عمران: ٥٩). والثاني: أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض. المسألة الثانية: كان ينبغي أن يقال: أنبتكم إنباتا إلا أنه لم يقل ذلك بل قال: أنبتكم نباتا، والتقدير أنبتكم فنبتم نباتا، وفيه دقيقة لطيفة: وهي أنه لو قال: أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا، ولما قال: أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا، وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة للّه تعالى وصفة اللّه غير محسوسة لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار اللّه تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة اللّه تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع، أما لما قال: {أنبتكم نباتا} على معنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كاملا كان ذلك وصفا للنبات بكونه عجيبا كاملا، وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس، فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة اللّه تعالى، فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف، أما قوله: {ثم يعيدكم فيها} فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادرا على الابتداء كان قادرا على الإعادة، وقوله: {ويخرجكم إخراجا} أكده بالمصدر كأنه قال: يخرجكم حقا لا محالة. الدليل الرابع: قوله تعالى: ١٩انظر تفسير الآية:٢٠ ٢٠{واللّه جعل لكم الارض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا}. أي طرقا واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم. واعلم أن نوحا عليه السلام لما دعاهم إلى اللّه ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم. ٢١فالأول قوله: {قال نوح رب إنهم عصونى} وذلك لأنه قال في أول السورة {أن اعبدوا اللّه واتقوه وأطيعون} (نوح: ٣) فكأنه قال: قلت لهم أطيعون فهم عصوني. الثاني قوله: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، وقوله: {من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سببا للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسبابا للخسار في الآخرة صار ذلك جاريا مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت، واستدل بهذه الآية من قال: إنه ليس للّه على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم، ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية: {لم يزده ماله وولده إلا خسارا}. المسألة الثانية: قرىء {وولده} بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعا أما جمع ولد كالفلك، وههنا يجوز أن يكون واحدا وجمعا. النوع الثالث: من قبائح أفعالهم قوله تعالى: ٢٢انظر تفسير الآية:٢٣ ٢٣{ومكروا مكرا كبارا}. فيه مسائل: المسألة الأولى: {ومكروا} معطوف على {من لم يزده} (نوح: ٢١) لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع: {لا تذرن}، وجمع الضمير وهو راجع إلى {من}، لأنه في معنى الجمع. المسألة الثانية: قرىء {كبارا} و {كبارا} بالتخفيف والتثقيل، وهو مبالغة في الكبير، فأول المراتب الكبير، والأوسط الكبار بالتخفيف، والنهاية الكبار بالتثقيل، ونظيره: جميل وجمال وجمال، وعظيم وعظام وعظام، وطويل وطوال وطوال. المسألة الثالثة: المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم: {لا تذرن...ودا} فهم منعوا القوم عن التوحيد، وأمروهم بالشرك، ولما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه اللّه تعالى بأنه كبار، واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم، فقال: الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي، فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كبارا في الخير والدين. المسألة الرابعة: أنه تعالى إنما سماه {مكرا} لوجهين الأول: لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها، كأنهم قالوا: هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه، وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقا شديدا، صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ {ءالهتكم} صارفا لهم عن الدين، فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى اللّه كلامهم {مكرا} الثاني: أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا لأنه فقير، فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح، وهذا مثل مكر فرعون إذ قال: {أليس لى ملك مصر} (الزخرف: ٥١) وقال: {أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب} (الزخرف: ٥٢ ٥٣) المسألة الخامسة: ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض، والنبات والحيوان علم ضروري، والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء، وعبادة الأوثان دين كان موجودا قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية، وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان، وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين، فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل، وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم، فإذا لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها: قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم: هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن اللّه جسم وفي مكان، وذلك لأنهم قالوا: إن اللّه نور هو أعظم الأنوار، والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه، هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم، فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنما هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه واتخذوا أصناما متفاوتة، بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين، واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة، فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني: وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فالبشر عبيد هذه الكواكب، والكواكب عبيد الإله الأعظم، فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب، ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى، فاتخذوا أصناما على صورها واشتغلوا بعبادتها، وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث: أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر، كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام، في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب، فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب، فكانوا يتخذون ذلك الطلسم، وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة، وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته، وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص، فقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر الوجه الرابع: أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند اللّه وهو المراد من قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى} (الزمر: ٣) الوجه الخامس: أنه ربما مات ملك عظيم، أو شخص عظيم، فكانوا يتخذون تمثالا على صورته وينظرون إليه، فالذين جاؤا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء، أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، أسماء خمسة من أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة السادس: الذين يقولون إنه تعالى جسم، وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول، لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان، أو في شخص صنم، فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة، خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعا من قدماء الروافض لما رأوا أن عليا عليه السلام قلع باب خيبر، وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا: إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع: لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو اللّه، فهذا جملة ما في هذا الباب، وبعضها باطلة بدليل العقل، فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله، وبطل القول أيضا بالحلول والنزول، ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسايط والطلسمات، ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم، بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء. المسألة السادسة: هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود، وعبد يغوث، هكذا قيل في الكتب، وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب، ولا يمكن أن يقال: إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها. المسألة السابعة: قرىء: {لا تذرن * ودا} بفتح الواو وبضم الواو، قال الليث: ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح، ود بالضم صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود، وأقول: على قول الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ: الأعمش: {ولا} بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف، أما التعريف ووزن الفعل، وأما التعريف والعجمة، فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا. واعلم أن نوحا لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم: {كبارا وقالوا لا تذرن ءالهتكم} قال: ٢٤{وقد أضلوا كثيرا} فيه وجهان: الأول: أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الموصين (بأن يتمسكوا) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني: يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الأصنام، كقوله: {إنهن أضللن كثيرا من الناس} (إبراهيم: ٣٦) وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله: {ألهم أرجل}، وأما قوله تعالى: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} ففيه سؤالان: الأول: كيف موقع قوله: {ولا تزد الظالمين}؟ الجواب: كأن نوحا عليه السلام لما أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظا وغضبا عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم. السؤال الثاني: إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو اللّه في أن يزيد في ضلالهم؟ الجواب: من وجهين: الأول: لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين، بل الضلال في أمر دنياهم، وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني: الضلال العذاب لقوله: {إن المجرمين فى ضلال وسعر} (القمر: ٤٧). ٢٥ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: (ما) صلة كقوله: {فبما نقضهم} (النساء: ١٥٥) {فبما رحمة} (النساء: ١٥٩) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها، وقرأ: ابن مسعود: {من} فأخر كلمة ما، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر. واعلم أن تقديم قوله: {مما * خطاياهم} لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان (فإدخالهم النار) إلا من أجل خطيآتهم، فمن قال من المنجمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذبا لصريح هذه الآية فيجب تكفيره. المسألة الثانية: قرىء {خطيئاتهم} بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و {خطاياهم} و {خطيئاتهم} بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد به الكفر. واعلم أن الخطايا والخطيئآت كلاهما جمع خطيئة، إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة، وقد تقدم الكلام فيها في (البقرة: ٥٨) عند قوله: {نغفر لكم خطاياكم} وفي (الأعراف: ١٦١) عند قوله: {خطيئاتكم}. المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: {أغرقوا فأدخلوا نارا} وذلك من وجهين الأول: أن الفاء في قوله: {فأدخلوا نارا} تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني: أنه قال: {فادخلوا} على سبيل الإخبار عن الماضي. وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك، قال مقاتل والكلبي: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله: {ونادى أصحاب النار} (الأعراف: ٥٠){ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف: ٤٤) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل. فإن قيل: إنما تركنا هذا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟ والجواب: هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن، فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن اللّه تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب. ثم قال تعالى: {فلم يجدوا لهم من دون اللّه أنصارا} وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب اللّه لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب اللّه عنهم، وهو كقوله: {أم لهم الهة تمنعهم من دوننا} واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير اللّه تعالى. ٢٦{وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا}. قال المبرد: {ديارا} لا تستعمل إلا في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات، قال أهل العربية: هو فيعال من الدور، وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، قال الفراء والزجاج: وقال ابن قتيبة: ما بها ديار أي نازل دار. ٢٧ثم قال تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}. فإن قيل: كيف عرف نوح عليه السلام ذلك؟ قلنا: للنص والاستقراء، أما النص فقوله تعالى: {وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا} وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقوله: {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} فيه وجهان: أحدهما: أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني: أنهم سيصيرون كذلك. ٢٨واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده: {رب اغفر لى} أي فيما صدر عني من ترك الأفضل، ويحتمل أنه حين دعا على الكفار إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم، فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام فاستغفر عن ذلك لما فيه من طلب حظ النفس. ثم قال: {ولوالدى} أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين، وقال عطاء: لم يكن بين نوح وآدم عليهما السلام من آبائه كافر، وكان بينه وبين آدم عشرة آباء. وقرأ: الحسن بن علي (ولولدي) يريد ساما وحاما. ثم قال تعالى: {ولم * دخل بيتى مؤمنا} قيل: مسجدي، وقيل: سفينتي، وقيل: لمن دخل في ديني، فإن قيل: فعلى هذا التفسير يصير قوله: {مؤمنا} مكررا، قلنا: إن من دخل في دينه ظاهرا قد يكون مؤمنا بقلبه وقد لا يكون، والمعنى ولمن دخل في ديني دخولا مع تصديق القلب. ثم قال تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} إنما خص نفسه أولا بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات. ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: {ولا تزد الظالمين إلا تبارا} أي هلاكا ودمارا وكل شيء أهلك فقد تبر ومنه قوله: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه} وقوله: {وليتبروا ما علوا تتبيرا} فاستجاب اللّه دعاءه فأهلكهم بالكلية، فإن قيل: ما جرم الصبيان حين أغرقوا؟ والجواب من وجوه الأول: أن اللّه تعالى أيبس أصلاب آبائهم وأعقم أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة أو (تسعين) فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا، ويدل عليه قوله: {استغفروا ربكم} إلى قوله {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: ١٠ ـ ١٢) وهذا يدل بحسب المفهوم على أنهم إذا لم يستغفروا فإنه تعالى لا يمددهم بالبنين الثاني: قال الحسن: علم اللّه براءة الصبيان فأهلكهم بغير عذاب الثالث: غرقوا معهم لا على وجه العقاب بل كما يموتون بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون واللّه سبحانه وتعالى أعلم والحمد للّه رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين. |
﴿ ٠ ﴾