ÓõæÑóÉõ ÇáúÌöäøö ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ËóãóÇäò æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة الجنوهي عشرون وثمان آيات مكية _________________________________ ١{قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت الجن ونفيه، فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره، وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة، ثم قال: وهذا شرح للاسم. فقوله: وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية، وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف، وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى. واختلف المثبتون على قولين: فمنهم من زعم أنها ليست أجساما ولا حالة في الأجسام بل هي جواهر قائمة بأنفسها، قالوا: ولا يلزم من هذا أن يقال: إنها تكون مساوية لذات اللّه لأن كونها ليست أجساما ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية، قالوا: ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة، وبعضها شريرة، وبعضها كريمة محبة للخيرات، وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات، ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا اللّه، قالوا: وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال، فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة، ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر البشر، ولا يبعد أيضا أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم، وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي، هي الأرواح وهي أجسام بخارية لطيفة تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح لم يبعد أيضا أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء، فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة، ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال: هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن، فسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن، وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن، فإن الجنسية علة الضم، فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة. والقول الثاني: في الجن أنهم أجسام ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين، منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها، إنما المشترك بينها صفة واحدة وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق، وهذه كلها إشارة إلى الصفات، والاشتراك في الصفات لا يقتضي الإشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد. قالوا: وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال: الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد، وحقيقة واحدة، فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم، بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك، وأيضا فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف، والعلوي والسفلي، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية والتفاوت، إنما يحصل بهذه الصفات، وهي اللطافة والكثافة، وكونها علوية وسفلية قالوا: وهاتان الحجتان ضعيفتان. أما الحجة الأولى: فلأنا نقول، كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد، وحقيقة واحدة، فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد، وحقيقة واحدة فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية، وهذا مما لا يقوله عاقل، بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض ألبتة قدر مشترك بينها من الذاتيات، إذا لو حصل بينها قدر مشترك، لكان ذلك المشترك جنسا لها، ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناسا عالية بل كانت أنواع جنس واحد إذا ثبت هذا فنقول: الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة، ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلا، فضلا عن أن تكون متساوية في تمام الماهية، فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك، فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية، ثم إن تلك المختلفات متساوية في وصف عارض وهو كونها عارضة لموضوعاتها، فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض، وهو كونها مشارا إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان، وموصوفة بالأبعاد الثلاثة، فهذا الاحتمال لا دافع له أصلا. وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضا منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلا عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضا كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال، فحينئذ قالوا: لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علما مخصوصا وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة، وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال. القول الثاني: قول من قال: الأجسام متساوية في تمام الماهية، والقائلون بهذا المذهب أيضا فرقتان. الفرقة الأولى: زعموا أن البنية ليست شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية، قالوا: ولو كانت البنية شرطا للحياة لكان أما أن يقال: إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال: قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة، والأول محال لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول، والثاني أيضا باطل لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر وحكم الشيء حكم مثله، فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر فيلزم وقوع الدور وهو محال، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وبطل القول بأن البنية شرط، قالوا: وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة فوجب توقف الحياة على حصول البنية، إلا أن هذا ركيك، فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب، فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد، وأيضا فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات، أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه، فثبت أن البنية ليست شرطا في الحياة، وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق اللّه تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة على أشياء شاقة شديدة، وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن، سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة، وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة. القول الثاني: أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى، وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضرا والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة، وتكون الحاسة سليمة، ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعا عقلا؟ أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه، وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلا، والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية، أما العقلية فأمران: الأول: أنا نرى الكبير من البعد صغيرا وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجبا الثاني: أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة، فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء، فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر أو لا تكون، فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضا رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة، ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى، فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجبا بل جائزا، وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم: فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة، والجبال ياقوتا وزبرجدا، أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر، ثم كما فتحت العين أعدمها اللّه عجزوا عن الفرق، والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات، فوهموا أن بعضها واجبة، وبعضها غير واجبة، ولم يجدوا قانونا مستقيما، ومأخذا سليما في الفرق بين البابين، فتشوش الأمر عليهم، بل الواجب أن يسوى بين الكل، فيحكم على الكل بالوجوب، كما هو قول الفلاسفة، أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري. فأما التحكم في الفرق فهو بعيد، إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن، فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها، وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه، وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة، والجن أيضا كذلك، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة، فإذا يجب في الملك والجن أن يكون كذلك، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبدا، وهم الكرام الكاتبون والحفظة، ويحضرون أيضا عند قبض الأرواح، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأن أحدا من القوم ما كان يراهم، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحدا، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم، وإن كانوا موصفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم: إن البنية شرط الحياة، وإن قالوا: إنها أجسام لطيفة وحية، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة، فهذا إنكار لصريح القرآن، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلا عن حجة مبينة، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات، وباللّه التوفيق. المسألة الثانية: اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا؟. فالقول الأول: وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم، قال: إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث اللّه محمدا عليه السلام حرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال: لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا واللّه هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا {قل أوحى إلى أنه} فأخبر اللّه تعالى محمدا عليه السلام عن ذلك الغيب وقال: {قل أوحى * إلى} كذا وكذا، قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي، فإن قيل: الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني: أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة اللّه، واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم؟ فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي صلى اللّه عليه وسلم فسمعوا قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم انصرفوا فذلك قوله: {وإذا * صرفنا إليك نفرا من الجن} (الأحقاف: ٢٩) وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم. القول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة، فقال: عبداللّه قلت أنا أذهب معك يا رسول اللّه قال: فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب، خط علي خطا فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه فغاب عن بصري فقمت، فأومأ إلي بيده أن أجلس، ثم تلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم. وفي رواية أخرى فقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أنت؟ قال: أنا نبي اللّه، قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة، تعالي يا شجرة، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه، فقال على ماذا تشهدين لي؟ قالت: أشهد أنك رسول اللّه، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إلي، قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول اللّه قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر. واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات، وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس، ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولا، فأوحى اللّه تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة، إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم، وقراءة القرآن عليهم، إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا، وأي شيء فعلوا، فاللّه تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية: {قل أوحى إلى أنه} وكان كذا وكذا، فأوحى اللّه إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب. المسألة الثالثة: اعلم أن قوله تعالى: {قل} أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى اللّه في واقعة الجن، وفيه فوائد إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. المسألة الرابعة: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم: الوحي الوحي والقراءة المشهورة، {أوحى} بالألف، وفي رواية يونس وهرون، عن أبي عمرو {وحى} بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال: وحي إليه وأوحى إليه وقرىء {*أحي} بالهمز من غير واو، وأصله وحي، فقلبت الواو همزة كما يقال: أعد وأزن {نسفت وإذا الرسل أقتت} (المرسلات: ١١) وقوله تعالى: {أنه استمع نفر من الجن} فيه مسائل: المسألة الأولى: أجمعوا على أن قوله: {أنه استمع} بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل {أوحى} فهو كقوله: {وأوحى إلى * هذا القرءان} (الأنعام: ١٩) وأجمعوا على كسر إنا في قوله: {إنا سمعنا} لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم ههنا قراءتان إحداهما: أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله: {وأن المساجد للّه} (الجن: ١٨) {وأنه لما قام} (الجن: ١٩)، وثانيهما: فتح الكل والتقدير: فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي، فإن قيل: ههنا إشكال من وجهين أحدهما: أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال: وآمنا بأنه كان يقول: سفيهنا على اللّه شططا والثاني: وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال: آمنا به وزيد، بل يقال: آمنا به وبزيد والجواب: عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله: آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان. المسألة الثانية: {نفر من الجن} جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهودا، وذكر الحسن أن فيهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء: ٢يهدى إلى الرشد فئامنا به ولن نشرك بربنا أحدا النوع الأول: مما حكوه قوله تعالى: {فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا * يهدى إلى الرشد فئامنا به ولن نشرك بربنا أحدا} أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله: {فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين} (الأحقاف: ٢٩)، {قل أوحى} أي خارجا عن حد أشكاله ونظائره، و (عجبا) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب، {يهدى إلى الرشد} أي إلى الصواب، وقيل: إلى التوحيد {يهدى إلى} أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد {ولن نشرك بربنا أحدا} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين. النوع الثاني: مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد. ٣فقالوا: {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الجد قولان: الأول: الجد في اللغة العظمة يقال: جد فلان أي عظم ومنه الحديث: "كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا" أي جد قدره وعظم، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص. القول الثاني: الجد الغنى ومنه الحديث: "لا ينفع ذا الجد منك الجد" قال أبو عبيدة: أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وكذلك الحديث الآخر: "قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون" يعني أصحاب الغنى في الدنيا، فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد. وعندي فيه قول ثالث: وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازا عن الأصل، فقوله: {تعالى جد ربنا} معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد. المسألة الثانية: قرىء {يقول ربنا} بالنصب على التمييز و {جد ربنا} بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولا عن الشرك وثانيا عن دين النصارى. ٤النوع الثالث: مما ذكره الجن قوله تعالى: {وأنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا}. السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه. واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد، وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات، فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه، وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم. ٥النوع الرابع: قوله تعالى: {وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على اللّه كذبا}. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال: الكذب على اللّه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج. المسألة الثانية: قوله: {كذبا} بم نصب؟ فيه وجوه أحدها: أنه وصف مصدر محذوف والتقدير أن لن تقول الإنس والجن على اللّه قولا كذبا وثانيها: أنه نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول وثالثها: أن من قرأ: {أن لن تقول} وضع {كذبا} موضع تقولا، ولم يجعله صفة، لأن التقول لا يكون إلا كذبا. النوع الخامس: ـ قوله تعالى: ٦{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} فيه قولان: الأول: وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، وقال آخرون: كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم، فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وربما تفزعهم الجن فيهربون القول الثاني: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول اللّه من شر جن هذا الوادي، وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه، لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وهذا ضعيف، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا، أما قوله: {فزادوهم رهقا} قال المفسرون: معناه زادوهم إثما وجرأة وطغيانا وخطيئة وغيا وشرا، كل هذا من ألفاظهم، قال الواحدي: الرهق غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: {ولا يرهق وجوههم قتر} (يونس: ٢٦) وقوله: {ترهقها قترة} (عبس: ٤١) ورجل مرهق أي يغشاه السائلون. ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت، والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفا من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم، ولم يتعوذوا باللّه استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلما، وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم، وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغيانا فيقولون: سدنا الجن والإنس، والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها. ٧النوع السادس: قوله تعالى: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحدا}. اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن، ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض، كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن، وإن كانا من الوحي كان التقدير: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة، واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق. ٨النوع السابع: قوله تعالى: {وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا}. اللمس: المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال: لمسه والتمسه، ومثله الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شدادا. ٩النوع الثامن: قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا}. أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب، وفي قوله: {شهابا رصدا} وجوه أحدها: قال مقاتل: يعني رميا من الشهب ورصدا من الملائكة، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهابا ورصدا لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها: قال الفراء: أي شهابا قد أرصد له ليرجم به، وعلى هذا الرصد نعت للشهاب، وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها: يجوز أن يكون رصدا أي راصدا، وذلك لأن الشهاب لما كان معدا له، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} (الملك: ٥) فإن قيل: هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، ويدل عليه أمور أحدها: أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب، وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها: قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} ذكر في خلق الكواكب فائدتين، التزيين ورجم الشياطين وثالثها: أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية، قال أوس بن حجر: ( فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا ) وقال عوف بن الخرع: ( يرد علينا العير من دون إلفه أو الثور كالدرى يتبعه الدم ) وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: "بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم" الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} قالوا: فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، فما معنى تخصيصها بمحمد عيه الصلاة والسلام؟ والجواب: مبني على مقامين: المقام الأول: أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي اللّه عنهما، وأبي بن كعب، روي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، أما الكلمة فإنها تكون حقة، وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلي، الحديث إلى آخره، وقال أبي بن كعب: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول اللّه فرمي بها، فرأت قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك بعض أكابرهم، فقال: لم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء، فقال: اصبروا فإن تكن نجوما معروفة فهو وقت فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا، فإذا هي لا تعرف، فأخبروه فقال: في الأمر مهلة، وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبداللّه ويدعي أنه نبي مرسل، وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا منهم في هذه المعجزة وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة. المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال: {فوجدناها ملئت} (الجن: ٨) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله: {نقعد منها مقاعد} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب، إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية. ١٠النوع التاسع: قوله تعالى: {وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الارض أم أراد بهم ربهم رشدا}. وفيه قولان: أحدهما: أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني: لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا. ١١النوع العاشر: قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا}. أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: ١٦٤) ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من؟ فيه قولان: الأول: أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني: أن المراد من لا يكون كاملا في الصلاح، فيدخل فيه المقتصدون والكافرون، والقدة من قدد، كالقطعة من قطع. ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق، وفي تفسير الآية وجوه أحدها: المراد كنا ذوي طرائق قددا أي ذوي مذاهب مختلفة. قال السدي: الجن أمثالكم، فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها: كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. ١٢النوع الحادي عشر: قوله تعالى: {وأنا ظننآ أن لن نعجز اللّه فى الارض ولن نعجزه هربا}. الظن بمعنى اليقين، و {فى الارض} و {هربا} فيه وجهان الأول: أنهما حالان، أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. النوع الثاني عشر: قوله تعالى: ١٣{ وأنا لما سمعنا الهدى} أي القرآن، قال تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) {به إنه} أي آمنا بالقرآن {فلا يخاف} فهو لا يخاف أي فهو غير خائف، وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر، أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها، ولولا ذاك لقيل: لا يخف، فإن قيل: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف قلنا: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص لذلك دون غيره، لأن قوله: فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفا، وقرأ: الأعمش: {فلا يخفف}، وقوله تعالى: {بخسا ولا رهقا} البخس النقص، والرهق الظلم، ثم فيه وجهان الأول: لا يخاف جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا، ولا (رهق) ظلم أحدا، فلا يخاف جزاءهما الثاني: لا يخاف أن يبخس، بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى، ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله: {ترهقهم ذلة}. ١٤النوع الثالث عشر: قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولائك تحروا رشدا}. القاسط الجائر، والمقسط العادل، وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء، فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق، وعن سعيد بن جبير: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله: {وأما القاسطون} وقوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}، (الأنعام: ١) {تحروا رشدا} أي قصدوا طريق الحق، قال أبو عبيدة: تحروا توخوا، قال المبرد: أصل التحري من قولهم: ذلك أحرى، أي أحق وأقرب، وبالحري أن تفعل كذا، أي يجب عليك. ١٥ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}. وفيه سؤالان: الأول: لم ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين؟ الجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى: {تحروا رشدا} (الجن: ١٤) أي توخوا رشدا عظيما لا يبلغ كنهه إلا اللّه تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب. السؤال الثاني: الجن مخلوقين من النار، فكيف يكونون حطبا للنار؟ الجواب: أنهم وإن خلقوا من النار، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحما ودما هكذا، قيل: وههنا آخر كلام الحسن. ١٦{وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا}. هذا من جملة الموحى إليه والتقدير: قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه، وههنا مسائل: المسألة الأولى: (أن) مخففة من الثقيلة والمعنى: وأوحي إلي أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا. قال الواحدي: وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في قوله: {أن لا * يرجع إليهم قولا} و{علم أن سيكون}. المسألة الثانية: الضمير في قوله: {استقاموا} إلى من يرجع؟ فيه قولان: قال بعضهم: إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا. وقال آخرون: بل المراد الإنس، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس اللّه المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوما جرى مجرى قوله: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر} (القدر: ١) وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه. وأقول: يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة. المسألة الثالثة: الغدق بفتح الدال وكسرها: الماء الكثير، وقرىء بهما يقال: غدقت العين بالكسر فهي غدقة، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغيث والمطر، والثاني: وهو قول أبي مسلم: أنه إشارة إلى الجنة كما قال: {جنات تجرى من تحتها الانهار} وثالثها: أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا. المسألة الرابعة: إن قلنا: الضمير في قوله: {استقاموا} راجع إلى الجن كان في الآية قولان: أحدهما: لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة اللّه ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، ونظيره قوله تعالى: {ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا} (المائدة: ٦٥) وقوله: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا} (المائدة: ٦٦) وقوله: {ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا * ويرزقه} (الطلاق: ٢، ٣) وقوله: {فقلت استغفروا ربكم} إلى قوله {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: ١٢) وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني: أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق، ونظيره قوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة} (الزخرف: ٣٣) واختار الزجاج الوجه الأول قال: لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية {لنفتنهم فيه} فهو كقوله: {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} (آل عمران: ١٧٨) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم اللّه عليه كان ذلك الإنعام أيضا ابتلاء واختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا، وهل ينفقه في طلب مراضي اللّه أو في مراضي الشهوة والشيطان، وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس، فالوجهان عائدان فيه بعينه وههنا يكون إجراء قوله: {لاسقيناهم ماء غدقا} على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل. ١٧المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بقوله: {لنفتنهم} على أنه تعالى يضل عباده، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال: فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال، واستدلت المعتزلة باللام في قوله {لنفتنهم} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق اللّه. وقوله تعالى: {ومن يعرض عن ذكر ربه} أي عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه. يسلكه، وقرىء بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذابا، والأصل نسلكه في عذاب كقوله: {ما سلككم فى سقر} (المدثر: ٤٢) إلا أن هذه العبارة أيضا مستقيمة لوجهين الأول: أن يكون التقدير نسلكه في عذاب، ثم حذف الجار وأوصل الفعل، كقوله: {واختار موسى قومه} (الأعراف: ١٥٥) والثاني: أن يكون معنى نسلكه أي ندخله، يقال: سلكه وأسلكه، والصعد مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه (يصعد فوق طاقة) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، يريد ما شق علي ولا غلبني، وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن صعدا جبل في جهنم، وهو صخرة ملساء، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى، فهذا دأبه أبدا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {سأرهقه صعودا} (المدثر: ١٧). النوع الثالث: من جملة الموحى قوله تعالى: ١٨{وأن المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدا}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: التقدير: قل أوحي إلي أن المساجد للّه، ومذهب الخليل أن التقدير: ولأن المساجد للّه فلا تدعوا، فعلى هذا اللام متعلقة، (بلا تدعوا، أي) فلا تدعوا مع اللّه أحدا في المساجد لأنها للّه خاصة، ونظيره قوله: {وإن هذه أمتكم} على معنى، ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، أي لأجل هذا المعنى فاعبدون. المسألة الثانية: اختلفوا في المساجد على وجوه أحدها: وهو قول الأكثرين: أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر اللّه ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر اللّه المسلمين بالإخلاص والتوحيد وثانيها: قال الحسن: أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدا" كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة للّه تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها وثالثها: روي عن الحسن أيضا أنه قال: المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود ورابعها: قال سعيد بن جبير: المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه، وهذا القول اختيار ابن الأنباري، قال: لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة للّه تعالى، فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير اللّه تعالى، وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم وخامسها: قال عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد، وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها، قال الواحدي: وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب، وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع، وهو جائز في كلها وإن لم يسمع. المسألة الثالثة: قال الحسن: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا اللّه لأن قوله: {فلا تدعوا مع اللّه أحدا} في ضمنه أمر بذكر اللّه وبدعائه. النوع الرابع: من جملة الموحى قوله تعالى: ١٩{وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}. اعلم أن عبداللّه هو النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول الجميع، ثم قال الواحدي: إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله: {يوم * يحشر * المتقين إلى الرحمان وفدا} والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن. وفي خلل ما هو كلام الجن مختلا بعيدا عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها، ونحن نفسر الآية على القولين، أما على قول من قال: إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله: {كادوا} إلى من يعود؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: إلى الجن، ومعنى {قام يدعوه} أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن، فاستمعوا القراءة {كادوا يكونون عليه لبدا}، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا مالم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني: لما قدم رسول اللّه يعبد اللّه وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث: وهو قول قتادة: لما قام عبداللّه تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور اللّه، فأبى اللّه إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه، وأما على قول من قال: إنه من كلام الجن، فالوجهان أيضا عائدان فيه، وقوله: {لبدا} فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقا شديدا فقد لبدته، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال: لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه، ومنه قول زهير: (لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم ) وقرىء: {لبدا} بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة، وقرىء {لبدا} جمع لابد كسجد وساجد. وقرىء أيضا: {لبدا} بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور، فإن قيل: لم سمي محمدا بعبداللّه، وما ذكره برسول اللّه أو نبي اللّه؟ قلنا: لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبداللّه لما اشتغل بعبودية اللّه، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل؟. ٢٠{قل إنمآ أدعو ربى ولا أشرك به أحدا}. قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ: عاصم وحمزة، {قل} حتى يكون نظيرا لما بعده، وهو قوله: {قل إنى لا أملك} (الجن: ٢١) {قل إنى لن يجيرنى} (الجن: ٢٢) قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : "إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا" فأنزل اللّه: {قل إنما * ادعوا * ربى} وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ {قال} حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك، أجابهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {إنما أدعو ربى} فحكى اللّه ذلك عنه بقوله {قال} أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم. ٢١{قل إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا}. أما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام: لا أملك لكم غيا ولا رشدا، ويدل عليه قراءة أبي (غيا ولا رشدا)، ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو اللّه، وإن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه. ٢٢قوله تعالى: {قل إنى لن يجيرنى من اللّه * أحدا} قال مقاتل: إنهم قالوا: اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك، فقال اللّه له: {قل إنى لن يجيرنى من اللّه أحد}. ثم قال تعالى: {ولن أجد من دونه ملتحدا} أي ملجأ وحرزا، قال المبرد: {ملتحدا} مثل قولك منعرجا، والتحد معناه في اللغة مال، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض. ٢٣قوله تعالى: {إلا بلاغا من اللّه ورسالاته} ذكروا في هذا الاستثناء وجوها أحدها: أنه استثناء من قوله: {لا أملك} (الجن: ٢١) أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من اللّه، وقوله: {قل إنى لن يجيرنى} (الجن: ٢٢) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى: أنه تعالى إن أراد به سوءا لم يقدر أحد أن يجيره منه، وهذا قول الفراء. وثانيها: وهو قول الزجاج: أنه نصب على البدل من قوله: {ملتحدا} (الجن: ٢٢) والمعنى: ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغا، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن اللّه ما أرسلت به، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحدا بل قال: {ولن أجد من دونه ملتحدا}،والبلاغ من اللّه لا يكون داخلا تحت قوله: {من دونه ملتحدا} لأن البلاغ من اللّه لا يكون من دون اللّه، بل يكون من اللّه وبإعانته وتوفيقه ثالثها: قال بعضهم: (إلا) معناه إن (لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغا كقولك: (إلا) قياما فقعودا، والمعنى: إن لا أبلغ لم أجد ملتحدا، فإن قيل: المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام: "بلغوا عني، بلغوا عني" فلم قال ههنا: {بلاغا من اللّه}؟ قلنا: (من) ليست (بصفة للتبلغ) إنما هي بمنزلة (من) في قوله: {براءة من اللّه} بمعنى بلاغا كائنا من اللّه. أما قوله تعالى: {ورسالاته} فهو عطف على {بلاغا} كأنه قال: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى إلا أن أبلغ عن اللّه فأقول: قال اللّه كذا ناسبا القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان. قوله تعالى: {ومن يعص اللّه ورسوله فإن له نار جهنم} قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} (المائدة: ٩٥) {ومن كفر فأمتعه} (البقرة: ١٢٦) {فمن يؤمن بربه فلا يخاف} (الجن: ١٣) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب "الكشاف" وقرىء: {فأن له نار جهنم} على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك: {فأن للّه خمسه} (الأنفال: ٤١) أي فحكمه أن للّه خمسه. ثم قال تعالى: {خالدين فيها أبدا} حملا على معنى الجمع في (من) وفي الآية مسألتان: المسألة الأولى: استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار، قالوا: وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها، قالوا: وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله: {أبدا} فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل، أما ههنا (فقد) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحا في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب: أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات، ونزيد ههنا وجوها أحدها: أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن اللّه تعالى ثم قال: {ومن يعص اللّه ورسوله} يعني جبريل: {فأن له نار جهنم} أي من يعص اللّه في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم، وإذا كان ما ذكرنا محتملا سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني: وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكما لا تعلق له بها، فيكون هذا الوعيد وعيدا على ترك التبليغ من اللّه، ولا شك أن ترك التبليغ من اللّه أعظم الذنوب، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث: وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد، وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد، فلا بد في هذا التخصيص من سبب، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذاالذنب، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله: {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} معناه أن هذه الحالة له لا لغيره، وهذا كقوله: {لكم دينكم} أي لكم لا لغيركم. وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم. وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر، وهو أن قوله: {ومن يعص اللّه ورسوله} إنما يتناول من عصى اللّه ورسوله بجميع أنواع المعاصي، وذلك هو الكافر ونحن نقول: بأن الكافر يبقى في النار مؤبدا، وإنما قلنا إن قوله: {ومن يعص اللّه ورسوله} إنما يتناول من عصى اللّه بجميع أنواع المعاصي لأن قوله: {ومن يعص اللّه} يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه، مثل أن يقال ومن يعص اللّه إلا في الكفر وإلا في الزنا، وإلا في شرب الخمر، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا تحت اللفظ وإذا كان كذلك، وجب أن يكون قوله: {ومن يعص اللّه} متناولا لمن أتى بكل المعاصي، والذي يكون كذلك هو الكافر، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير، فسقط وجه الاستدلال بها. فإن قيل: كون الإنسان الواحد آتيا لجميع أنواع المعاصي محال، لأن من المحال أن يكون قائلا بالتجسم، وأن يكون مع ذلك قائلا بالتعطيل، وإذا كان ذلك محالا فحمل الآية عليه غير جائز قلنا: تخصيص العام بدليل العقل جائز، فقولنا: {ومن يعص اللّه} يفيد كونه آتيا بجميع أنواع المعاصي، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلا حصوله فيبقى متناولا للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها، ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به. المسألة الثانية: تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا: تارك المأمور به عاص لقوله تعالى: {أفعصيت أمرى} (طه: ٩٣)، {لا يعصون اللّه ما أمرهم} (التحريم: ٦)، {لا * أعصى لك أمرا} (الكهف: ٦٩) والعاصي مستحق للعقاب لقوله: {ومن يعص اللّه ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا}. ٢٤{حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا}. فإن قيل: ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنه متعلق بقوله: {يكونون عليه لبدا} (الجن: ١٩) والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون (عدده) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار اللّه له عليهم أو من يوم القيامة، {فسيعلمون} أيهم أضعف ناصرا وأقل عددا، الثاني: أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل: هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا، واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم: {حتى إذا رأوا ما يوعدون أما العذاب وأما الساعة} (مريم: ٧٥) واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر: ١٨) {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: ٢٨) ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال: {يوم يفر المرء من أخيه} (عبس: ٣٤) إلى آخره: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} (الحج: ٢) وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣، ٢٤) والملك القدوس يسلم عليهم {سلام قولا من رب رحيم} فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار. ٢٥{قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا}. قال مقاتل: لما سمعوا قوله: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} (الجن: ٢٤) قال النضر بن الحرث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ فأنزل اللّه تعالى: {قل إن أدرى أقريب ما توعدون} إلى آخره والمعنى أن وقوعه متيقن، أما وقت وقوعه فغير معلوم، وقوله: {أم يجعل له ربى أمدا} أي غاية وبعدا وهذا كقوله: {وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون} (الأنبياء: ١٠٩) فإن قيل: أليس أنه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" فكان عالما بقرب وقوع القيامة، فكيف قال: ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ قلنا: المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، وأما معنى معرفة القرب القريب وعدم ذلك فغير معلوم. ٢٦ثم قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} لفظة (من) في قوله: {من رسول} تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولا، قال صاحب "الكشاف"، وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها أيضا إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط، قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن. واعلم أن الواحدي يجوز الكرامات وأن يلهم اللّه أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ونسبة الآية إلى الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله صاحب "الكشاف"، وإن زعم أنها لا تدل على المنع من الإلهامات الحاصلة للأولياء فينبغي أن لا يجعلها دالة على المنع من الدلائل النجومية، فأما التحكم بدلالتها على المنع من الأحكام النجومية وعدم دلالتها على الإلهامات الحاصلة للأولياء فمجرد التشهي، وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه والذي تدل عليه أن قوله: {على غيبه} ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد، والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله: {إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا} (الجن: ٢٥) يعني لا أدري وقت وقوع القيامة، ثم قال بعده: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره اللّه لأحد، وبالجملة فقوله: {على غيبه} لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد، فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه، ٢٧فإن قيل: فإذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال: {إلا من ارتضى من رسول} مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟ قلنا: بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة، وكيف لا وقد قال: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: ٢٥) ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة، وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا، كأنه قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحدا، ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه} حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته. واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد اللّه من هذه الآية أن لا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، والذي يدل عليه وجوه أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فثبت أن اللّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها: أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء، ثم إنها وقعت على وفق كلامها. قال مصنف الكتاب ختم اللّه له بالحسنى: وأنا قد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة، حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخبارا على سبيل التفصيل، وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها، وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها، وقال: لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا. ورابعها: أنا نشاهد (ذلك) في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضا في أكثر تلك الأخبار، ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور، وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه، واللّه أعلم. أما قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة، {ومن خلفه رصدا} أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحى به إليه، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك "ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين (الذين) يتشبهون بصورة الملك". ٢٨قوله تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} فيه مسائل: المسألة الأولى: وحد الرسول في قوله: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه} (الجن: ٢٧) ثم جمع في قوله: {أن قد أبلغوا رسالات ربهم} ونظيره ما تقدم من قوله: {فإن له نار جهنم خالدين} (الجن: ٢٣). المسألة الثانية: احتج من قال بحدوث علم اللّه تعالى بهذه الآية لأن معنى الآية ليعلم اللّه أن قد أبلغوا الرسالة، ونظيره قوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين} (محمد: ٣١) والجواب من وجهين الأول: قال قتادة ومقاتل: ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وعلى هذا، اللام في قوله: {ليعلم} متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل: أخبرناه بحفظ الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ الحق، ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الرسول أن قد أبلغوا أي جبريل والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل رسالات ربهم، فلا يشك فيها ويعلم أنها حق من اللّه الثاني: وهو اختيار أكثر المحققين أن المعنى ليعلم اللّه أن قد أبلغ الأنبياء رسالات ربهم، والعلم ههنا مثله في قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم} (آل عمران: ١٤٢) والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم فيعلم ذلك منهم. المسألة الثالثة: قرىء {ليعلم} على البناء للمفعول. أما قوله: {وأحاط بما لديهم} فهو يدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات، وأما قوله: {وأحصى كل شىء عددا} فهو يدل على كونه عالما بجميع الموجودات، فإن قيل: إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي، وقوله: {كل شىء} يدل على كونه غير متناه، فلزم وقوع التناقض في الآية، قلنا: لا شك أن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي، فأما لفظة {كل شىء} فإنها لا تدل على كونه غير متناه، لأن الشيء عندنا هو الموجودات، والموجودات متناهية في العدد، وهذه الآية أحد ما يحتج به على أن المعدوم ليس بشيء، وذلك لأن المعدوم لو كان شيئا، لكانت الأشياء غير متناهية، وقوله: {وأحصى كل شىء عددا} يقتضي كون تلك المحصيات متناهية، فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال، فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض. واللّه سبحانه وتعالى أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين. |
﴿ ٠ ﴾