ÓõæÑóÉõ ÇáúãõÏøóËøöÑö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ÓöÊøñ æóÎóãúÓõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة المدثر

خمسون وست آيات مكية، وعند بعضهم أنها أول ما نزل

_________________________________

١

{ياأيها المدثر}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: المدثر، أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه لينام، أو ليستدفىء، يقال: تدثر بثوبه، والدثار اسم لما يتدثر به، ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما.

المسألة الثانية: أجمعوا على أن المدثر هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثرا، فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثرا بثوبه، ومنهم من ترك هذا الظاهر،

أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه

أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن، روى جابر بن عبد اللّه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كنت على جبل حراء، فنوديت يا محمد إنك رسول اللّه، فنظرت عن يميني ويساري، فلم أر شيئا، فنظرت فوقي، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة، فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء باردا، فنزل جبريل عليه السلام بقوله: {رحيم يأيها المدثر} "

وثانيها: أن النفر الذين آذوا رسول اللّه، وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا: إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد، فكل واحد منا يجيب بجواب آخر، فواحد يقول: مجنون، وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد، فقال واحد: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص، وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، وقال آخرون كاهن، قال الوليد: ومن الكاهن؟ قالوا: الذي يصدق تارة ويكذب أخرى، قال الوليد: ما كذب محمد قط، فقال آخر: إنه مجنون فقال الوليد: ومن يكون المجنون؟ قالوا: مخيف الناس، فقال الوليد: ما أخيف بمحمد أحد قط، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال مالك: يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئا، زعموا أنك احتججت وصبأت، فقال: الوليد مالي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد.

فقلت: إنه ساحر، لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين، وبين المرأة وزوجها، ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب، ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون، فقالوا: إن محمدا لساحر، فوقعت الضجة في الناس أن محمدا ساحر، فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك اشتد عليه، ورجع إلى بيته محزونا فتدثر بثوبه، فأنزل اللّه تعالى: {رحيم يأيها المدثر * قم فأنذر}

وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما متدثرا بثيابه، فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه، وقال: {رحيم يأيها المدثر قم فأنذر} كأنه قال: له اترك التدثر بالثياب والنوم، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك اللّه له.

القول الثاني: أنه ليس المراد من المدثر، المتدثر بالثياب، وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه

أحدها: أن المراد كونه متدثرا بدثار النبوة والرسالة من قولهم: ألبسه اللّه لباس التقوى وزينه برداء العلم، ويقال: تلبس فلان بأمر كذا، فالمراد {رحيم يأيها المدثر} بدثار النبوة {قم فأنذر} (المدثر: ٢)

وثانيها: أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس، فكأنه قيل: يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء، قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحق

وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك.

المسألة الثالثة: عن عكرمة أنه قرىء على لفظ اسم المفعول من دثره، كأنه قيل له: دثرت هذا الأمر وعصيت به، وقد سبق نظيره في المزمل.

٢

{قم فأنذر}.

في قوله: {قم} وجهان

أحدهما: قم من مضجعك

والثاني: قم قيام عزم وتصميم، وفي قوله: {فأنذر}

وجهان

أحدهما: حذر قومك من عذاب اللّه إن لم يؤمنوا.

وقال ابن عباس: قم نذيرا للبشر، احتج القائلون

بالقول الأول بقوله تعالى: {وأنذر} واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: ٢٨) وههنا قول ثالث، وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار، كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة، فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة، وبين أن يقال: ناظر زيدا.

٣

{وربك فكبر}.

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: ذكروا في تفسير التكبير وجوها

أحدها: قال الكلبي: عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان

وثانيها: قال مقاتل: هو أن يقول: اللّه أكبر، روى أنه "لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: اللّه أكبر كبيرا، فكبرت خديجة وفرحت، وعلمت أنه أوحى إليه"

وثالثها: المراد منه التكبير في الصلوات،

فإن قيل: هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت؟

قلنا: لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية، فأمر أن يكبر ربه فيها

ورابعها: يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له: {قم فأنذر} قيل بعد ذلك: {وربك فكبر} عن اللغو والعبث.

واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز لك الإخلال بها، فقوله: {وربك} كالتأكيد في تقرير قوله: {قم فأنذر}

وخامسها: عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار، فكأن سائلا سأل وقال: بماذا ينذر؟ فقال: أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات، ونظير قوله في سورة النحل: {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} (النحل: ٢) وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة اللّه ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات.

المسألة الثانية: الفاء في قوله: {فكبر} ذكروا فيه وجوها

أحدها: قال أبو الفتح الموصلي: يقال: زيدا فاضرب، وعمرا فاشكر، وتقديره زيدا اضرب وعمرا اشكر، فعنده أن الفاء زائدة

وثانيها: قال الزجاج: دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل

وثالثها: قال صاحب "الكشاف": الفاء لإفادة معنى الشرط، والتقدير: وأي شيء كان فلا تدع تكبيره.

٤

{وثيابك فطهر}.

اعلم أن تفسير هذه الآية يقع على أربعة أوجه

أحدها: أن يترك لفظ الثياب والتطهير على ظاهره

والثاني: أن يترك لفظ الثياب على حقيقته، ويحمل لفظ التطهير على مجازه

الثالث: أن يحمل لفظ الثياب على مجازه، ويترك لفظ التطهير على حقيقته

وثالثها: أن يحمل اللفظان على المجاز

أما الاحتمال الأول: وهو أن يترك لفظ الثياب، ولفظ التطهير على حقيقته،

فهو أن نقول: المراد منه أنه عليه الصلاة والسلام، أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار، وعلى هذا التقدير يظهر في الآية ثلاثة

احتمالات أحدها: قال الشافعي: المقصود منه الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس

وثانيها: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره اللّه تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات

وثالثها: روي أنهم ألقوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلى شاة، فشق عليه ورجع إلى بيته حزينا وتدثر بثيابه، فقيل: {رحيم يأيها المدثر * قم فأنذر} (المدثر: ١ ـ ٢) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار {وربك فكبر} (المدثر: ٣) عن أن لا ينتقم منهم {وثيابك فطهر} عن تلك النجاسات والقاذورات،

الاحتمال الثاني: أن يبقى لفظ الثياب على حقيقته، ويجعل لفظ التطهير على مجازه، فهنا قولان:

الأول: أن المراد من قوله: {فطهر} أي فقصر، وذلك لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم فكانت ثيابهم تتنجس، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والكبر، فنهى الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك

القول الثاني: {وثيابك فطهر} أي ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها مطهرة عن أن تكون مغصوبة أو محرمة، بل تكون مكتسبة من وجه حلال،

الاحتمال الثالث: أن يبقى لفظ التطهير على حقيقته، ويحمل لفظ الثياب على مجازه، وذلك أن يحمل لفظ الثياب على الحقيقة وذلك لأن العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء، فأمر عليه الصلاة والسلام بذلك التنظيف وقد يجعل لفظ الثياب كناية عن النفس.

قال عنترة:

( فشككت بالرمح الأصم ثيابه (أي نفسه)

ولهذا قال:

( ليس الكريم على القنا بمحرم)

الاحتمال الرابع: وهو أن يحمل لفظ الثياب، ولفظ التطهير على المجاز، وذكروا على هذا الاحتمال وجوها

الأول: وهو قول أكثر المفسرين: وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن: {وثيابك فطهر} قال: وخلقك فحسن، قال القفال:

وهذا يحتمل وجوها

أحدها: أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جدا، حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه، وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق، فقيل له: {قم فأنذر} (المدثر: ٢) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك

والثاني: أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم، فقيل له: طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم، في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم

والثالث: فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم،

ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه، ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان

الأول: أن يقال: إن اللّه تعالى لما ناداه في أول السورة، فقال: {رحيم يأيها المدثر} (المدثر: ١) وكان التدثر لباسا، والدثار من الثياب، قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين

الوجه الثاني: أن يفسر المدثر بكونه متدثرا بالنبوة، كأنه قيل: يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر، والغضب والحقد، فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار، ثم أوضح ذلك بقوله: {ولربك فاصبر} (المدثر: ٧) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز، يقال: فلان طاهر الجيب نقي الذيل، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ويقال: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفا بالأخلاق الذميمة، قال الشاعر:

( فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا )

والسبب في حسن هذه الكناية وجهان

الأول: أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان، يقال: المجد في ثوبه والعفة في إزاره

والثاني: أن الغالب أن من طهر باطنه، فإنه يطهر ظاهره

الوجه الثاني: في تأويل الآية أن قوله: {وثيابك فطهر} أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة، وهذا على تأويل من حمل قوله: {ووضعنا عنك وزرك * الذى أنقض ظهرك} (الشرح: ٢، ٣) على أيام الجاهلية

الوجه الثاني: في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه: نساءك طهرهن، وقد يكنى عن النساء بالثياب، قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: ١٨٧) وهذا التأويل بعيد، لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها.

٥

{والرجز فاهجر}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: ذكروا في الرجز وجوها

الأول: قال العتبي: الرجز العذاب قال اللّه تعالى: {لئن كشفت عنا الرجز} (الأعراف: ١٣٤) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب للعذاب، وسميت الأصنام رجزا لهذا المعنى أيضا، فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي،

ثم على هذا القول احتمالان

أحدهما: أن قوله: {والرجز فاهجر} يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره، والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفا

والثاني: أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذابا تسمية للشيء، باسم ما يجاوره ويتصل به

القول الثاني: أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى الرجس، فقوله: {والرجز فاهجر} كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له: اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز، وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله: {وثيابك فطهر} (المدثر: ٤) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح.

المسألة الثانية: احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية، قال لولا أنه كان مشتغلا بها وإلا لما زجر عنها بقوله: {والرجز فاهجر}

والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما أن المسلم إذا قال: اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية، فكذا ههنا.

المسألة الثالثة: قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء، وقرأ: الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ: يعقوب بالضم، ثم قال الفراء: هما لغتان والمعنى واحد، وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب، ووسواس الشيطان أيضا رجز، وقال أبو عبيدة: أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر.

٦

{ولا تمنن تستكثر}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه

أحدها: أن يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع

وثانيها: أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر

وثالثها: أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدرا أن تستكثر قال أبو علي الفارسي: هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا للصيد فكذا ههنا المعنى مقدرا الاستكثار، قال: ويجوز أن يحكي به حالا أتية، إذا عرفت هذا فنقول، ذكروا في تفسير الآية وجوها

أحدها: أنه تعالى أمره قبل هذه الآية، بأربعة أشياء: إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال: {ولا تمنن تستكثر} أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة، كالمستكثر لما تفعله، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقربا بذلك إليه غير ممتن به عليه. قال الحسن، لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها

وثانيها: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين، والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر اللّه، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال: {ولربك فاصبر} (المدثر: ٧)،

وثالثها: لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر، أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به مالك

ورابعها: لا تمنن أي لا تضعف من قولهم: حبل منين أي ضعيف، يقال: منه السير أي أضعفة.

والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية، ومن ذهب إلى هذا قال: هو مثل قوله: {أفغير اللّه تأمرونى أعبد} (الزمر: ٦٤) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد اللّه (ولا تمتن تستكثر) وهذا يشهد لهذا التأويل، وهذا القول اختيار مجاهد

وخامسها: وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله: {ولا تمنن} أي لا تعط يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك} (ص: ٣٩) أي فأعط، أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة، فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، وعلى هذا التأويل سؤالات:

السؤال الأول: ما الحكمة في أن اللّه تعالى منعه من هذا العمل؟

الجواب: الحكمة فيه من وجوه

الأول: لأجل أن تكون عطاياه لأجل اللّه لا لأجل طلب الدنيا، فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله: {ولا تمدن عينيك}

(الحجر: ٨٨) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة

الثاني: أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له، وذلك لا يليق بمنصب النبوة، لأنه يوجب دناءة الآخذ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه، وتنفير المأخوذ منه، ولهذا قال: {أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} (الطور: ٤٠).

السؤال الثاني: هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أم يتناول الأمة؟

الجواب: ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة، ومن الناس من قال

هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء، واللّه تعالى منع الكل من ذلك.

السؤال الثالث: بتقدير أن يكون هذا النهي مختصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه؟

والجواب: ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس: في تأويل الآية قال القفال: يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعطي لأحد شيئا لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائدا أو ناقصا أو مساويا، ويكون معنى قوله: {تستكثر} أي طالبا للكثرة كارها أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيبا، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيرا، ومن ذهب إلى هذا القول قال: السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى اللّه عليه وسلم خاليا عن انتظار العوض والتفات الناس إليه، فيكون ذلك خالصا مخلصا لوجه اللّه تعالى

الوجه السابع: أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام، فإن الدنيا بأسرها قليلة، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة ف

الوجه الأول: معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعا من طلب الزيادة في العوض

والوجه الثاني: معناه كونه ممنوعا عن طلب مطلق العوض زائدا كان أو مساويا أو ناقصا

والوجه الثالث: معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن: معناه إذا أعطيت شيئا فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية، فإن المن محبط لثواب العمل، قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذى ينفق ماله * برب الناس} (البقرة: ٢٦٤).

المسألة الثانية: قرأ الحسن: {تستكثر} بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة، ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه:

أحدها: كأنه قيل: لا تمنن لا تستكثر

وثانيها: أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى: {بلى ورسلنا لديهم يكتبون} بإسكان اللام

وثالثها: أن يعتبر حال الوقف، وقرأ: الأعمش: {تستكثر} بالنصب بإضمار أن كقوله:

( ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى)

ويؤيده قراءة ابن مسعود: ولا تمنن أن تستكثر.

٧

{ولربك فاصبر}.

فيه وجوه:

أحدها: إذا أعطيت المال فاصبر على ترك المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك

وثانيها: إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض، وليكن هذا الترك لأجل ربك

وثالثها: أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك، فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك، وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب

ورابعها: أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى اللّه عليه وسلم قام الوليد ودخل داره فقال القوم: إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل، وقال: إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد: إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال،

وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره

وخامسها: أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له: {وربك فكبر} (المدثر: ٣) لا الأوثان {وثيابك فطهر} (المدثر: ٤) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب {والرجز فاهجر} (المدثر: ٥) ولا تقربه كما تقربه الكفار {ولا تمنن تستكثر} (المدثر: ٦) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل {ولربك فاصبر} على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه.

٨

{فإذا نقر فى الناقور}.

اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية، وههنا مسائل:

المسألة الأولى: الفاء في قوله: {فإذا نقر} للسبب كأنه قال: {اصبر على * أذاهم} فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه.

المسألة الثانية: اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور، أهو النفخة

الأولى أم النفخة الثانية؟

فالقول الأول: أنه هو النفخة الأولى،

قال الحليمي في كتاب المنهاج: أنه تعالى سمى الصور بأسمين

أحدهما الصور والآخر الناقور، وقول المفسرين: إن الناقور هو الصور، ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معا، فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها، وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة

الثانية، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حيا بإذن اللّه تعالى، فيحتمل أن يكون الصور محتويا على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق، جمع بين النقر والنفخ، لتكون الصيحة أهد وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه، واقتصر على النفخ، لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها، والنفخة الأولى للتنقير، وهو نظير صوت الرعد، فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت، هذا آخر كلام الحليمي رحمه اللّه ولى فيه إشكال، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق، وذلك اليوم غير شديد على الكافرين، لأنهم يموتون في تلك الساعة إنما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء، ولذلك يقولون: يا ليتها كانت القاضية، أي يا ليتنا بقينا على الموتة

الأولى والقول الثاني: إنه النفخة

الثانية، وذلك لأن الناقور هو الذي ينقر فيه، أي ينكت، فيجوز أنه إذا أريد أن ينفخ في المرة

الثانية، نقر أولا، فسمى ناقورا لهذا المعنى،

وأقول في هذا اللفظ بحث وهو أن الناقور فاعول من النقر، كالهاضوم ما يهضم به، والحاطوم ما يحطم به، فكان ينبغي أن يكون الناقور ما ينقر به لا ما ينقر فيه.

المسألة الثالثة: العامل في قوله: {فإذا نقر} هو المعنى الذي دل عليه قوله: {يوم عسير} (المدثر: ٩) والتقدير إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب.

٩

{فذلك يومئذ يوم عسير}.

فيه مسائل.

المسألة الأولى: قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور، والتقدير فذلك اليوم {يوم عسير}،

وأما {يومئذ} ففيه وجوه:

الأول: أن يكون تفسيرا لقوله: {فذلك} لأن قوله: {فذلك} يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر، وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر، فكأنه قال: فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر {يوم عسير} فيكون {يومئذ} في محل النصب

والثاني: أن يكون {يومئذ} مرفوع المحل بدلا من ذلك {ويوم * عسير} خبر كأنه قيل: فيوم النقر {يوم عسير} فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلا من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح

الثالث: أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر {يوم عسير} على أن يكون العامل في {يومئذ} هو النقر.

المسألة الثانية: عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقا وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد

وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين، ويحتمل أن يكون إنما وصفه اللّه تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد، فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله: {يوم عسير} فإن المعنى أنه: على الكافرين عسير وغير يسير، وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل

١٠

عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير،

فإن قيل: فما فائدة قوله: {غير يسير} وعسير مغن عنه؟

الجواب: أما على القول الأول: فالتكرير للتأكيد كما تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو،

وأما على القول الثاني: فقوله: {عسير} يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين

وقوله: {غير يسير} يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسرا، قليلا يسيرا، وقد يكون عسرا كثيرا فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين.

المسألة الثالثة: قال ابن عباس: لما قال إنه غير يسير على الكافرين، كان يسيرا على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيرا على المؤمن.

١١

{ذرنى ومن خلقت وحيدا}. أجمعوا على أن المراد ههنا الوليد بن المغيرة، وفي نصب قوله وحيدا وجوه

الأول: أنه نصب على الحال، ثم يحتمل أن يكون حالا من الخالق وأن يكون حالا من المخلوق، وكونه حالا من الخالق على وجهين

الأول: ذرني وحدي معه فإني كاف في الانتقام منه

والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد،

وأما كونه حالا من المخلوق، فعلى معنى أني خلقته حال ما كان وحيدا فريدا لا مال له، ولا ولد كقوله: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} (الأنعام: ٩٤)،

القول الثاني: أنه نصب على الذم، وذلك لأن الآية نزلت في الوليد وكان يلقب بالوحيد، وكان يقول أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي نظير. فالمراد {ذرنى ومن خلقت} أعني وحيدا. وطعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه، وقالوا: لا يجوز أن يصدقه اللّه في دعواه أنه وحيد لا نظير له، وهذا السؤال ذكره الواحدي وصاحب الكشاف، وهو ضعيف من وجوه

الأول: أنا لما جعلنا الوحيد اسم علم فقد زال السؤال لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة

الثاني: لم لا يجوز أن يحمل على كونه وحيدا في ظنه واعتقاده؟ ونظيره قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: ٤٩)

الثالث: أن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف، بل هو كان يدعى لنفسه أنه وحيد في هذه الأمور. فيمكن أن يقال: أنت وحيد لكن في الكفر والخبث والدناءة

القول الثالث: أن وحيدا مفعول ثان لخلق، قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له، وهو إشارة إلى الطعن في نسبه كما في قوله: {عتل بعد ذلك زنيم} (القلم: ١٣).

١٢

{وجعلت له مالا ممدودا}. في تفسير المال الممدود وجوه

الأول: المال الذي يكون له مدد يأتي من الجزء بعد الجزء على الدوام، فلذلك فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر شهر

وثانيها: أنه المال الذي يمد بالزيادة، كالضرع والزرع وأنواع التجارات

وثالثها: أنه المال الذي امتد مكانه، قال ابن عباس: كان ماله ممدودا ما بين مكة إلى الطائف (من) الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة بالطائف والأشجار والأنهار والنقد الكثير، وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا، فالممدود هنا كما في قوله: {وظل ممدود} (الواقعة: ٣٠) أي لا ينقطع

ورابعها: أنه المال الكثير وذلك لأن المال الكثير إذا عدد فإنه يمتد تعديده، ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال بعضهم: ألف دينار، وقال آخرون: أربعة آلاف وقال آخرون: ألف ألف، وهذه التحكمات مما لا يميل إليها الطبع السليم.

١٣

{وبنين شهودا}. فيه وجهان

الأول: بنين حضورا معه بمكة لا يفارقونه البتة لأنهم كانوا أغنياء فما كانوا محتاجين إلى مفارقته لطلب كسب ومعيشة وكان هو مستأنسا بهم طيب القلب بسبب حضورهم

والثاني: يجوز أن يكون المراد من كونهم شهودا أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل وعن مجاهد: كانوا عشرة،

وقيل: سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.

١٤

{ومهدت له تمهيدا}. أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، ولهذا المعنى يدعى بهذا فيقال أدام اللّه تمهيده أي بسطته وتصرفه في الأمور، ومن المفسرين من جعل هذا التمهيد البسطة في العيش وطول العمر، وكان الوليد من أكابر قريش ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش.

١٥

{ثم يطمع أن أزيد}. لفظ ثم ههنا معناه التعجب كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره قوله تعالى: {الحمد للّه الذى خلق * السماوات والارض *وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام: ١)

فمعنى (ثم) ههنا للإنكار والتعجب ثم تلك الزيادة التي كان يطمع فيها هل هي زيادة في الدنيا أو في الآخرة؟ فيه قولان

الأول: قال الكلبي ومقاتل: ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي

الثاني: أن تلك الزيادة في الآخرة قيل: إنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي، ونظيره قوله تعالى: {أفرأيت الذى كفر بئاياتنا وقال لاوتين مالا وولدا} (مريم: ٧٧).

١٦

{كلا إنه كان لاياتنا عنيدا}.

ثم قال تعالى: {كلا} وهو ردع له عن ذلك الطمع الفاسد قال المفسرون ولم يزل الوليد في نقصان بعد قوله: {كلا} حتى افتقر ومات فقيرا.

قوله تعالى: {إنه كان لاياتنا عنيدا} إنه تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: لأنه كان لآياتنا عنيدا والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير، وفي هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته

أحدها: أنه كان معاندا في جميع الدلائل الدالة على التوحيد والعدل والقدرة وصحة النبوة وصحة البعث، وكان هو منازعا في الكل منكرا للكل

وثانيها: أن كفره كان كفر عناد كان يعرف هذه الأشياء بقلبه إلا أنه كان ينكرها بلسانه وكفر المعاند أفجش أنواع الكفر

وثالثها: أن قوله: {إنه كان لاياتنا عنيدا} يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة

ورابعها: أن قوله: {إنه كان لاياتنا عنيدا} يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصة بآيات اللّه تعالى وبيناته، فإن تقديره: إنه كان لآياتنا عنيدا لا لآيات غيرنا، فتخصيصه هذا العناد بآيات اللّه مع كونه تاركا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران.

١٧

{سأرهقه صعودا}. أي سأكلفه صعودا وفي الصعود قولان:

الأول: أنه مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق مثل قوله: {يسلكه عذابا صعدا} (الجن: ١٧) وصعود من قولهم: عقبة صعود وكدود شاقة المصعد

والثاني: أن صعودا اسم لعقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت، وعنه عليه الصلاة والسلام: "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا".

١٨

ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده فقال: {إنه فكر وقدر}.

يقال: فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه وهو المراد من قوله: {فقدر}.

١٩

بم ثم قال تعالى: {فقتل كيف قدر}.

وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام، ومثله قولهم: قتله اللّه ما أشجعه، وأخزاه اللّه ما أشعره، ومعناه. أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل ههنا وجهين

أحدهما: أنه تعجيب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل

والثاني: الثناء عليه على طريقة الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.

٢٠

ثم قال: {ثم قتل كيف قدر}.

والمقصود من كلمه، ثم ههنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة

الثانية أبلغ من الأولى.

٢١

ثم قال: {ثم نظر}. والمعنى أنه أولا: فكر

وثانيا: قدر وثالثا: نظر في ذلك المقدر، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط. فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه.

ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه، فقال:

٢٢

{ثم عبس وبسر}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اعلم أن قوله: {عبس وبسر} يدل على أنه كان عارفا في قلبه صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا أنه كان يكفر به عنادا،

ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقدا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه

الثاني: ما روي أن الوليد مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ حم صلى اللّه عليه وسلم السجدة فلما وصل إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت: ١٣) أنشده الوليد باللّه وبالرحم أن يسكت، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللّهجة، ولما رجع الوليد قال لهم: واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش: صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها.

فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك: يا ابن الأخ؟ فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد، فقال: واللّه ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا، ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معاندا لأن السحر يتعلق بالجن

والثالث: أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر باللّه، والأفعال المنكرة، وكان من الظاهر أن محمدا لا يدعو إلا إلى اللّه، فكيف يليق به السحر؟ فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما {عبس وبسر} لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان.

المسألة الثانية: قال الليث: عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل: بسل.

٢٣

{ثم أدبر واستكبر}.

أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان

٢٤

فقال: {إن هذا إلا سحر يؤثر} وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، وفي قوله: {يؤثر} وجهان

الأول: أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثرا إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عمن كان

والثاني: يؤثر على جميع السحر، وعلى هذا يكون هو من الإيثار.

٢٥

ثم قال: {إن هذا إلا قول البشر}.

والمعنى أن هذا قول البشر، ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره، ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.

واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عنادا منه، لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (حم السجدة) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال: سمعت من محمد كلاما ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه، فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر، إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد.

٢٦

ثم قال: {سأصليه سقر}. قال ابن عباس: {سقر} اسم للطبقة

السادسة من جهنم، ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث.

٢٧

ثم قال: {ومآ أدراك ما سقر}. الغرض التهويل.

٢٨

ثم قال: {لا تبقى ولا تذر}.

واختلفوا فمنهم من قال: هما لفظان مترادفان معناهما واحد، والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال: صد عني وأعرض عني. ومنهم من قال: لا بد من الفرق، ثم ذكروا وجوها

أحدها: أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، وهذا رواية عطاء عن ابن عباس

وثانيها: لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئا إلا أحرقته

وثالثها: لا تبقي من أبدان المعذبين شيئا، ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئا إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم.

٢٩

ثم قال: {لواحة للبشر}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في اللواحة قولان:

الأول: قال الليث: لاحه العطش ولوحه إذا غيره، فاللواحة هي المغيرة.

قال الفراء: تسود البشرة بإحراقها

والقول الثاني: وهو قول الحسن والأصك: أن معنى اللواحة أنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام، وهو كقوله: {وبرزت الجحيم لمن يرى} (النازعات: ٣٦) ولواحة على هذا القول: من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو البرق، وطعن القائلون بهذا

الوجه في الوجه الأول، وقالوا: إنه لا يجوز أن يصفها بتسويد البشرة مع قوله إنها: {لا تبقى ولا تذر} (المدثر: ٢٨).

المسألة الثانية: قرىء: {لواحة} نصبا على الاختصاص للتهويل.

٣٠

ثم قال: {عليها تسعة عشر}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المعنى أنه يلي أمر تلك النار، ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكا،

وقيل: تسعة عشر صنفا،

وقيل: تسعة عشر صفا.

وحكى الواحدي عن المفسرين: أن خزنة النار تسعة عشر مالك، ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق، وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منهم الرأفة والرحمة، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم.

المسألة الثانية: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها

أحدها: وهو الوجه الذي تقوله أرباب الحكمة. أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية، والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية.

أما القوى الحيوانية فهي: الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشهوة والغضب، ومجموعهما اثنتا عشرة.

وأما القوى الطبيعة فهي: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وهذه سبعة، فالمجموع تسعة عشر، فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسعة عشر، لا جرم كان عدد الزبانية هكذا

وثانيها: أن أبواب جهنم سبعة، فستة منها للكفار، وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة والمجموع ثمانية عشر،

وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول، بل ليس إلا بسبب ترك العمل، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة فالمجموع تسعة عشر

وثالثها: أن الساعات أربعة وعشرون خمسة منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.

المسألة الثالثة: قراءة أبي جعفر ويزيد وطلحة بن سليمان {عليها تسعة عشر} على تقطيع فاعلان، قال ابن جني في المحتسب: والسبب أن الاسمين كاسم واحد، فكثرت الحركات، فأسكن أول

الثاني للتخفيف، وجعل ذلك أمارة القوة اتصال أحد الإسمين بصاحبه، وقرأ: أنس بن مالك {تسعة عشر} قال أبو حاتم: هذه القراءة لا تعرف لها وجها، إلا أن يعني: تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن، وعلى هذا يكون المجموع تسعين.

٣١

قوله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملئكة} روي أنه لما نزل قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} (المدثر: ٣٠) قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم، قال ابن أبي كبشة: إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الجمع العظيم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهما فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنينا فلما قال أبو جهل وأبو الأشد ذلك، قال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادينا فجرى هذا مثلا في كل شيئين لا يسوى بينهما، والمعنى لا تقاس الملائكة بالسجانين والحداد، السجان الذي يحبس النار، فأنزل اللّه تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملئكة} واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه

أحدها: ليكونوا بخلاف جنس المعذبين، لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة، ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا

وثانيها: أنهم أبعد الخلق عن معصية اللّه تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة

وثالثها: أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس،

فإن قيل: ثبت في الأخبار، أن الملائكة مخلوقون من النور، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟

قلنا: مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.

ثم قال تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملئكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: هذا العدد إنما صار سببا لفتنة الكفار من وجهين

الأول: أن الكفار يستهزئون، يقولون: لم لم يكونوا عشرين، وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود؟

الثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق اللّه إلى قيام القيامة؟

وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين.

أما السؤال الأول: فلأن جملة العالم متناهية، فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين، وعند ذلك يجيء ذلك السؤال، وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد، ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص، وكذا القول في إيجاد العالم، فإنه لما كان العالم محدثا والإله قديما، فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية، فلم لم يحدث العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة؟

وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين، وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة، ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار، والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم، فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد.

وأما السؤال الثاني: فضعيف أيضا، لأنه لا يبعد في قدرة اللّه تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق، ومتمكنين من ذلك من غير خلل، وبالجملة فمدار هذين

السؤالين على القدح في كمال قدرة اللّه، فأما من اعترف بكونه تعالى قادرا على مالا نهاية له من المقدورات، وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية.

المسألة الثانية: احتج من قال: إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية، قال لأن قوله تعالى: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} يدل على أن المقصود الأصلي إنما هو فتنة الكافرين، أجابت المعتزلة عنه من وجوه

أحدها: قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء

وثانيها: قال الكعبي: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به

وثالثها: أن المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة، والمعنى إلا فتنة على الذين كفروا ليكذبوا به، وليقولوا ما قالوا، وذلك عقوبة لهم على كفرهم، وحاصله راجع إلى ترك الألطاف

والجواب: أنه لا نزاع في شيء مما ذكرتم، إلا أنا نقول:

هل لإنزال هذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر، أم لا؟ فإذا لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر، كان إنزالها كسائر الأمور الأجنبية، فلم يكن للقول بأن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا وجه ألبتة، وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر، فقد حصل المقصود، لأنه إذا ترجحت داعية الفعل، صارت داعية الترك مرجوحة، والمرجوح يمتنع أن يؤثر، فالترك يكون ممتنع الوقوع، فيصير الفعل واجب الوقوع واللّه أعلم،

واعلم أنه تعالى بين أن المقصود من إنزال هذا المتشابه أمور أربعة.

أولها: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب}

وثانيها: {ويزداد الذين ءامنوا إيمانا}

وثالثها: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون}

ورابعها: {وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد اللّه بهاذا مثلا}

واعلم أن المقصود من تفسير هذه الآيات لا يتلخص إلا بسؤالات وجوابات:

السؤال الأول: لفظ القرآن يدل على أنه تعالى جعل افتتان الكفار بعدد الزبانية سببا لهذه الأمور الأربعة، فما

الوجه في ذلك؟

والجواب: أنه ما جعل افتتانهم بالعدد سببا لهذه الأشياء وبيانه من وجهين

الأول: التقدير: وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا، وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، كما يقال: فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك، قالوا: والعاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة.

وقد تحذف أخرى

الثاني: أن المراد من قوله: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} هو أنه وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر إلا أنه وضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر كأنه عبر عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر، تنبيها على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر.

السؤال الثاني: ما وجه تأثير إنزال هذا المتشابه في استيقان أهل الكتاب؟

الجواب: من وجوه أحدها: أن هذا العدد لما كان موجودا في كتابهم، ثم إنه عليه السلام أخبر على وفق ذلك من غير سابقة دراسة وتعلم، فظهر أن ذلك إنما حصل بسبب الوحي من السماء فالذين آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب يزدادون به إيمانا

وثانيها: أن التوراة والإنجيل كانا محرفين، فأهل الكتاب كانوا يقرأون فيهما أن عدد الزبانية هو هذا القدر، ولكنهم ما كانوا يعولون على ذلك كل التعويل لعلمهم بتطرق التحريف إلى هذين الكتابين، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوي إيمانهم بذلك واستيقنوا أن ذلك العدد هو الحق والصدق

وثالثها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب، فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه، لأنهم كانوا يستهزئون به في إثبات التوحيد والقدرة والعلم، مع أن تلك المسائل أوضح وأظهر فكيف في ذكر هذا العدد العجيب؟ ثم إن استهزاءهم برسول اللّه وشدة سخريتهم به ما منعه من إظهار هذا الحق، فعند هذا يعلم كل أحد أنه لو كان غرض محمد صلى اللّه عليه وسلم طلب الدنيا والرياسة لاحترز عن ذكر هذا العدد العجيب، فلما ذكره مع علمه بأنهم لا بد وأن يستهزئوا به علم كل عاقل أن مقصوده منه إنما هو تبليغ الوحي، وأنه ما كان يبالي في ذلك لا بتصديق المصدقين ولا بتكذيب المكذبين.

السؤال الثالث: ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين؟

الجواب: أن المكلف مالم يستحضر كونه تعالى عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحادثات منزها عن الكذب والحلف لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدة ويعترف بحقيقتها، فإذا اشتغل باستحضار تلك الدلائل ثم جعل العلم الإجمالي بأنه صادق لا يكذب حكيم لا يجهل دافعا للتعجب الحاصل في الطبع من هذا العدد العجيب فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد، ولا شك أن المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشد استحضارا للدلائل وأكثر انقيادا للدين، فالمراد بازدياد الإيمان هذا.

السؤال الرابع: حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان فما قولكم في هذه الآية؟

الجواب: نحمله على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه.

السؤال الخامس: لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين فما

الفائدة في قوله بعد ذلك: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون}؟

الجواب: أن المطلوب إذا كان غامضا دقيق الحجة كثير الشبهة، فإذا اجتهد الإنسان فيه وحصل له اليقين فربما غفل عن

مقدمة من مقدمات ذلك الدليل الدقيق، فيعود الشك والشبهة، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم، بحيث لا يحصل عقيبه ألبتة شك ولا ريب.

السؤال السادس: جمهور المفسرين قالوا في تفسير قوله: {الذين فى قلوبهم مرض} إنهم الكافرون وذكر الحسين بن الفضل البجلي أن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق،

والجواب: قول المفسرين حق وذلك لأنه كان في معلوم اللّه تعالى أن النفاق سيحدث فأخبر عما سيكون، وعلى هذا تصير هذه

الآية معجزة، لأنه إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر فيكون معجزا، ويجوز أيضا أن يراد بالمرض الشك لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب.

السؤال السابع: هب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا مقصودين من إنزال هذا المتشابه، فكيف صح أن يكون قول الكافرين والمنافقين مقصودا؟

الجواب: أما على أصلنا فلا إشكال لأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وسيأتي مريد تقرير لهذا في الآية الآتية،

وأما عند المعتزلة فإن هذه الحالة لما وقعت أشبهت الغرض في كونه واقعا، فأدخل عليه حرف اللام وهو كقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم}.

السؤال الثامن: لم سموه مثلا؟

الجواب: أنه لما كان هذا العدد عددا عجيبا ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد اللّه منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلا لشيء آخر وتنبيها على مقصود آخر لا جرم سموه مثلا.

السؤال التاسع: القوم كانوا ينكرون كون القرآن من عند اللّه، فكيف قالوا: ماذا أراد اللّه بهذا مثلا؟

الجواب: أما الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون فكانوا في الظاهر معترفين بأن القرآن من عند اللّه فلا جرم قالوا ذلك باللسان،

وأما الكفار فقالوه على سبيل التهكم أو على سبيل الاستدلال بأن القرآن لو كان من عند اللّه لما قال مثل هذا الكلام.

قوله تعالى: {كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدى من يشاء} وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا}

ثم ذكر في آخر الآية: {وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد اللّه بهاذا مثلا}

ثم قال: {كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدى من يشاء}

أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم

أحدها: أن المراد من الإضلال منع الألطاف

وثانيها: أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك إلهتداء وذلك الإضلال هو هذه الآيات،

وهو كقوله: {فزادتهم إيمانا} (التوبة: ١٢٤)

وكقوله: {فزادتهم رجسا} (التوبة: ١٢٥)

وثالثها: أن المراد من قوله: {يضل}

ومن قوله: {يهدى} حكم اللّه بكونه ضالا ويكون مهتديا

ورابعها: أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب، وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} (البقرة: ٢٦).

قوله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}

فيه وجوه:

أحدها: وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد، فقال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا اللّه

وثانيها: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها

وثالثها: أنه لا حاجة باللّه سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة، فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة، وهو الذي يخلق الآلام فيهم، ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب، فجنود اللّه غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية.

قوله تعالى: {وما هى إلا ذكرى للبشر} الضمير في قوله: {وما هى} إلى ماذا يعود؟

فيه قولان:

الأول: أنه عائد إلى سقر، والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر

والثاني: أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات، وهي ذكرى لجميع العالمية، وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان.

٣٢

{كلا والقمر}.

ثم قال تعالى: {كلا} وفيه وجوه

أحدها: أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون

وثانيها: أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا

وثالثها: أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه: إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار

ورابعها: أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.

٣٣

ثم قال تعالى: {واليل إذ أدبر}

وفيه قولان:

الأول: قال الفراء والزجاج: دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر، وروى أن مجاهدا سأل ابن عباس عن قوله: {دبر} فسكت حتى إذا أدبر الليل قال: يا مجاهد هذا حين دبر الليل، وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه القراءة ويقول: إنما يدبر ظهر البعير، قال الواحدي: والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا، وأنشد أبو علي:

( وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم بصهاب هامدة كأمس الدابر )

القول الثاني: قال أبو عبيدة وابن قتيبة: دبر أي جاء بعد النهار، يقال: دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار، قال قطرب: فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار.

٣٤

{والصبح إذآ أسفر}. أي أضاء، وفي الحديث: "أسفروا بالفجر" ومنه قوله: {وجوه يومئذ مسفرة} (عبس: ٣٨) أي مضيئة.

٣٥

ثم قال تعالى: {إنها لإحدى الكبر}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد.

المسألة الثانية: قال الواحدي: ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل.

وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال: ويلمه، وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين.

المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح، والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة.

المسألة الرابعة: {إنها لإحدى * الكبرى} يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم، وهي سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم والهاوية، أعاذنا اللّه منها.

٣٦

{نذيرا للبشر}.

نذيرا تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا،

وقيل: هو حال، وفي قراءة أبي نذير بالرفع خبر أو بحذف المبتدأ.

٣٧

ثم قال تعالى: {لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر}.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في تفسير الآية وجهان

الأول: أن {يتقدم} في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي، ومعناه التقدم والتأخر مطلقان لمن شاءهما منكم، والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو في معنى قوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: ٢٩)

الثاني: لمن شاء بدل من قوله للبشر، والتقدير: إنها نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، نظيره {وللّه على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: ٩٧).

المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد متمكنا من الفعل غير مجبور عليه وجوابه: أن هذه الآية دلت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة اللّه تعالى لقوله:

{وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه} (الإنسان: ٣) وحينئذ تصير هذه الآية حجة لنا عليهم، وذكر الأصحاب عن وجه الاستدلال بهذه الآية جوابين آخرين

الأول: أن معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين التهديد، كقوله:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}

(الكهف: ٢٩)

الثاني: أن هذه المشيئة للّه تعالى على معنى لمن شاء اللّه منكم أن يتقدم أو يتأخر.

٣٨

انظر تفسير الآية:٣٩

٣٩

{كل نفس بما كسبت رهينة}.

قال صاحب "الكشاف": رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: {كل امرىء بما كسب رهين} (الطور: ٢١) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل: رهين، لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:

( أبعد الذي بالنعف نعف كواكب رهينة رمس ذي تراب وجندل )

كأنه قال: رهن رمس، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند اللّه غير مفكوك إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، ثم ذكروا وجوها في أن أصحاب اليمين من هم؟

أحدها: قال ابن عباس: هم المؤمنون

وثانيها: قال الكلبي: هم الذين قال (فيهم) اللّه تعالى: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي" وهم الذين كانوا على يمين آدم

وثالثها: قال مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار

ورابعها: قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر: هم أطفال المسلمين، قال الفراء: وهو أشبه بالصواب لوجهين:

الأول: لأن الولدان لم يكتسبوا إثما يرتهنون به

٤٠

انظر تفسير الآية:٤١

٤١

والثاني: أنه تعالى ذكر في وصفهم، فقال: {فى جنات يتساءلون} وهذا إنما يليق بالولدان، لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فسألوا {ما سلككم فى سقر} (المدثر: ٤٢)

وخامسها: عن ابن عباس: هم الملائكة.

{فى جنات يتسآءلون}. قوله تعالى: {في جنات} أي هم في جنات لا يكتنه وصفها.

ثم قال تعالى: {يتساءلون * عن المجرمين}

وفيه وجهان

الأول: أن تكون كلمة عن صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟ فإنه يقال سألته كذا، ويقال: سألته عن كذا

الثاني: أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين،

فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا: ما سلكهم في سقر؟

قلنا: أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال: المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين،

٤٢

انظر تفسير الآية: ٤٧

٤٣

انظر تفسير الآية: ٤٧

٤٤

انظر تفسير الآية: ٤٧

٤٥

انظر تفسير الآية: ٤٧

٤٦

انظر تفسير الآية:٤٧

٤٧

فيقولون قلنا لهم: {ما سلككم فى سقر} وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم قالوا لهم: {ما سلككم فى سقر} (المدثر: ٤٢) والإضمارات كثيرة في القرآن.

المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة:

أولها: {قالوا لم نك من المصلين}

وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب، لا يجوز أن يعذبوا على تركه

وثالثها: {وكنا نخوض مع الخائضين} والمراد منه الأباطيل

ورابعها: {وكنا نكذب بيوم الدين} أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين، أي الموت قال تعالى: {حتى يأتيك اليقين} (الحجر: ٩٩) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه،

فإن قيل: لم أخر التكذيب، وهو أفحش تلك الخصال الأربعة،

قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب، كقوله: {ثم كان من الذين ءامنوا} (البلد: ١٧).

٤٨

ثم قال تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.

واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية، وقالوا: إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.

٤٩

ثم قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين}.

أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائما.

٥٠

ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال: {كأنهم حمر مستنفرة}.

قال ابن عباس: يريد الحمر الوحشية، ومستنفرة أي نافرة.

يقال: نفر واستنفر مثل سخر، واستسخر، وعجب واستعجب، وقرىء بالفتح، وهي المنفرة المحمولة على النفار، قال أبو علي الفارسي: الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال: {فرت من قسورة} وهذا يدل على أنها هي استنفرت، ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام.

قال: سألت أبا سوار الغنوي، وكان أعرابيا فصيحا، فقلت: كأنهم حمر ماذا؟ فقال: مستنفرة طردها قسورة، قلت: إنما هو فرت من قسورة، قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذا.

٥١

ثم قال تعالى: {فرت} يعني الحمر {من قسورة}. وذكروا في القسورة وجوها

أحدها: أنها الأسد يقال: ليوث قساور، وهي فعولة من القسر وهو القهر، والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد، ثم قال ابن عباس: القسورة، هي الأسد بلسان الحبشة، وخالف عكرمة فقال: الأسد بلسان الحبشة، عنبسة

وثانيها: القسورة، جماعة الرماة الذين يتصيدونها، قال الأزهري: هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه

وثالثها: القسورة: ركز الناس وأصواتهم

ورابعها: أنها ظلمة الليل.

قال صاحب "الكشاف": وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.

٥٢

ثم قال تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة}.

أنهم قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك، ونظيره {لن نؤمن * لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه} (الأسراء: ٩٣)

وقال: {ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم}

وقيل: إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار،

وقيل: كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل، إلا أن يراد بالصحف المنشرة، الكتابات الظاهرة المكشوفة، وقرأ: سعيد بن جبير {صحفا منشرة} بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد، كأنزله ونزله. ثم قال تعالى:

٥٣

{كلا بل لا يخافون الاخرة}.

{كلا} وهو ردع لهم عن تلك الإرادة، وزجر عن اقتراح الآيات.

ثم قال تعالى: {بل لا يخافون الاخرة} فلذلك أعرضوا عن التأمل، فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة، كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت. ثم قال تعالى:

٥٤

{كلا إنه تذكرة}.

ثم قال تعالى: {كلا} وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة.

ثم قال تعالى: {إنه تذكرة} يعني تذكرة بليغة كافية

٥٥

{فمن شاء ذكره} أي جعله نصب عينه، فإن نفع ذلك راجع إليه، والضمير في {أنه} {*وذكره} للتذكرة في قوله: {الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين} (المدثر: ٤٩) وإنما ذكر(ت) لأنها في معنى الذكر أو القرآن.

٥٦

ثم قال تعالى: {وما يذكرون إلا أن يشاء اللّه}.

قالت المعتزلة: يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه

والجواب: أنه تعالى نفى الذكر مطلقا، واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر، وقرىء يذكرون بالياء والتاء مخففا ومشددا.

ثم قال تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

والحمد للّه رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

﴿ ٠