٥وقوله: {فالملقيات ذكرا} فالأمر فيه ظاهر، لأن القرآن ذكر، كما قال تعالى: {ص والقرءان ذى الذكر} (ص: ١) {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤) {وهاذا ذكر مبارك}، (الأنبياء: ٥٠) وتذكرة كما قال: {وإنه لتذكرة للمتقين} (الحاقة: ٤٨) وذكرى كما قال: {ذكرى للعالمين} (الأنعام: ٩٠) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن، وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل. القول الرابع: يمكن حملها أيضا على بعثة الأنبياء عليهم السلام {والمرسلات} هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف، فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا اللّه، وهو مفتاح كل خير ومعروف {عرفا فالعاصفات عصفا} معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيرا ضعيفا، ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح {والناشرات نشرا} المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم {فالفارقات فرقا} المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد {فالملقيات ذكرا} المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر اللّه، ويأمرونهم به ويحثونهم عليه. القول الخامس: أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلا بمصالح الدنيا مستغرقا في طلب لذاتها وراحاتها، ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى، فتلك الدواعي هي المرسلات عرفا، ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما: إزالة حب ماسوى اللّه تعالى عن القلب، وهو المراد من قوله: {فالعاصفات عصفا} والثاني: ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا اللّه، ولا يبصر إلا اللّه، ولا ينظر إلا اللّه، فذلك هو قوله: {والناشرات نشرا} ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال اللّه فيراه موجودا، ويرى كل ما سواه معدوما، فذلك قوله: {فالفارقات فرقا} ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره، فذلك قوله: {فالملقيات ذكرا}. واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة، وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جدا. وأما الاحتمال الثاني: وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئا واحدا، ففيه وجوه الأول: ما ذكره الزجاج واختيار القاضي، وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله: {والمرسلات عرفا} هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد {*والعاصفات} ما يشتد منه، {عصفا والناشرات} ما ينشر السحاب. أما قوله: {فالفارقات فرقا} فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل، والحلال والحرام، بما يتحملونه من القرآن والوحي، وكذلك قوله: {فالملقيات ذكرا} أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل، فإن قيل: وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم؟ قلنا: الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني: أن الإثنين الأولين هما الرياح، فقوله: {والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا} هما الرياح، والثلاثة الباقية الملائكة، لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران أحدهما: حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني: ظهور ذكر اللّه في القلوب والألسنة، وهذا القول ما رأيته لأحد، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضا، والذي يؤكده أنه قال: {والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا} عطف الثاني على الأول بحرف الفاء، ثم ذكر الواو فقال: {والناشرات نشرا} وعطف الإثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أن يقال: المراد بالأولين الملائكة، فقوله: {والمرسلات عرفا} ملائكة الرحمة، وقوله: {فالعاصفات عصفا} ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن، لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة، وهذا القول أيضا ما رأيته لأحد، وهو محتمل، ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوها، واللّه أعلم بمراده. المسألة الثانية: قال القفال: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبني على الأصل، وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سببا لذهابه ومتصلا به، وإذا قيل: قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر، ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها، وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول: أما من جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد، فالإشكال عنه زائل، وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد، فنقول: إن حملناها على الملائكة، فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعا، وذلك الطيران هو العصف، فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء، أما النشر فلا يترتب على الإرسال، فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهورا منتشرا، بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون، فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو، بلى إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء، فكأنه واللّه أعلم قيل: يا محمد إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة، وفاتحة كل خير، ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحالة، ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة، ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهرا منتشرا في شرق العالم وغربه، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة، ودينك هو الدين الحق ظاهرا غالبا، وهنالك يظهر ذلك اللّه على الألسنة، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوأ من ذكر اللّه، فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه واللّه أعلم. |
﴿ ٥ ﴾