ÓõæÑóÉõ ÇáÊøóßúæöíÑö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ÊöÓúÚñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة التكوير

١

{إذا الشمس كورت}

بسم اللّه الرحمن الرحيم اعلم أنه تعالى ذكر اثني عشر شيئا، وقال: إذا وقعت هذه الأشياء فهنالك {علمت نفس ما أحضرت} [التكوير: ١٤].

فالأول: قوله تعالى: {إذا الشمس كورت}

وفي التكوير وجهان:

أحدهما: التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة، وفي الحديث: نعوذ باللّه من الحور بعد الكور أي من التشتت بعد الألفة.

والطي واللف والكور والتكوير واحد، وسميت كارة القصار كارة لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد، ثم إن الشيء الذي يلف لا شك أنه يصير مختفيا عن الأعين، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وتصييرها غائبة عن الأعين بالتكوير، فلهذا قال بعضهم: كورت أي طمست،

وقال آخرون: انكسفت، وقال الحسن: محي ضوؤها وقال المفضل بن سلمة: كورت أي ذهب ضوؤها، كأنها استترت في كارة.

الوجه الثاني: في التكوير يقال: كورت الحائط ودهورته إذا طرحته حتى يسقط، قال الأصمعي: يقال طعنه فكوره إذا صرعه، فقوله: {إذا الشمس كورت}، أي ألقيت ورميت عن الفلك، وفيه قول ثالث: يروى عن عمر أنه لفظة مأخوذة من الفارسية، فإنه يقال للأعمى كور، وههنا سؤالان:

السؤال الأول: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟

الجواب: بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر، يفسره كورت لأن {إذا} يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط.

السؤال الثاني: روي أن الحسن جلس بالبصرة إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن فحدث عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة، فقال الحسن، وما ذنبهما؟ قال: إني أحدثك عن رسول اللّه  قال الحسن: وما ذنبهما؟ قال: إني أحدثك عن رسول اللّه.

فسكت الحسن.

والجواب: أن سؤال الحسن ساقط، لأن الشمس والقمرجمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سببا لمضرتهما، ولعل ذلك يصير سببا لازدياد الحر في جهنم، فلا يكون هذا الخبر على خلاف العقل.

٢

الثاني: قوله تعالى: {إذا النجوم انكدرت} أي تناثرت وتساقطت كما قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: ٢] والأصل في الانكدار الانصباب، قال الخليل: يقال انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم، قال الكلبي: تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على وجه الأرض، قال عطاء: وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور، وتلك السلاسل في أيدي الملائكة، فإذا مات في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة.

٣

الثالث: قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} أي عن وجه الأرض كقوله: {وسيرت الجبال فكانت سرابا} [النبأ: ٢٠] أو في الهواء كقوله: {تمر مر السحاب} [النمل: ٨٨].

٤

الرابع: قوله: {وإذا العشار عطلت}

فيه قولان:

القول الأول: المشهور أن (العشار) جمع عشراء كالنفاس في جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعزها عليهم، و{عطلت} قال ابن عباس: أهملها أهلها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة، وليس شيء أحب إلى العرب من النوق الحوامل، وخوطب العرب بأمر العشار لأن أكثر مالها وعيشها من الإبل.

والغرض من ذلك ذهاب الأموال وبطلان الأملاك، واشتغال الناس بأنفسهم كما قال: {يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى اللّه بقلب سليم} [الشعراء: ٨٨]

وقال: {لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} [الأنعام: ٩٤].

والقول الثاني: أن العشار كناية عن السحاب تعطلت عما فيها من الماء، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه أشبه بسائ ما قبله، وأيضا فالعرب تشبه السحاب بالحامل، قال تعالى: {فالحاملات وقرا} [الذاريات: ٢].

٥

الخامس: قوله تعالى: {وإذا الوحش حشرت} كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس فهو وحش، والجمع الوحوش، {وحشرت} جمعت من كل ناحية، قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، قال المعتزلة: إن اللّه تعالى يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك، فإذا عوضت على تلك الآلام، فإن شاء اللّه أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسنا فعل، وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر،

وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على اللّه شيء بحكم الاستحقاق، ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء، ثميقال لها موتي فتموت، والغرض من ذكر هذه القصة ههنا وجوه.

أحدها: أنه تعالى إذا كان [يوم القيامة] يحشر كل الحيوانات إظهارا للعدل، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن؟

الثاني: أنها تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحاري، فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم.

والثالث: أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبعض، ثم إنها في ذلك اليوم لا تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض، وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم، وفي الآية قول آخر لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها، يقال- إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم- حشرتهم السنة، وقرئ حشرت بالتشديد.

٦

السادس: قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} قرئ بالتخفيف والتشديد،

وفيه وجوه:

أحدها: أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها، والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة، فحينئذ لا يبقى في البحار شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق، ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال، ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال، فصار وجه الأرض مستويا مع البحار، ويصير الكل بحرا مسجورا.

وثانيها: أن يكون {سجرت} بمعنى "فجرت" وذلك لأن بين البحار حاجزا على ما قال {مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان} [الرحمن: ١٩] فإذا رفع اللّه ذلك الحاجز فاض البعض في البعض، وصارت البحار بحرا واحدا، وهو قول الكلبي.

وثالثها: {سجرت} أوقدت، قال القفال: وهذا التأويل يحتمل وجوها.

الأول: أن تكون جهنم في قعور البحار، فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل اللّه تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك.

والثاني: أن اللّه تعالى يلقي الشمس والقمر والكواكب في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك.

والثالث: أن يخلق اللّه تعالى بالبحار نيرانا عظيمة حتى تتسخن تلك المياه.

وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شيء منها، لأن القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد وأن يكون قادرا على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين، ومن قلب مياهها نيرانا من غير حاجة منه إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر، وأن يكون تحتها نار جهنم.

واعلم أن هذه العلامات الست يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين.

أما بالستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة.

٧

السابع: قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت}

وفيه وجوه.

أحدها: قرنت الأرواح بالأجساد

وثانيها: قال الحسن: يصيرون فيها ثلاثة أزواج كما قال: {وكنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون} [الواقعة: ٨].

وثالثها: أنهيضم كل صنف من كان في طبقته من الرجال والنساء، فيضم المبرز في الطاعات إلى مثله، والمتوسط إلى مثله وأهل المعصية إلى مثله، فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله، والمعنى أن يضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر.

ورابعها: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان كما قال: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات: ٢٢] قيل: فزدناهم من الشياطين.

وخامسها: قال ابن عباس: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين.

وسادسها: قرن كل امرئ بشيعته اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني، وقد ورد فيه خبر مرفوع.

وسابعها: قال الزجاج: قرنت النفوس بأعمالها.

واعلم أنك إذا تأملت في الأقوال التي ذكرناها أمكنك أن تزيد عليها ما شئت.

٨

الثامن: قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: وأد يئد مقلوب من آد يئود أودا ثقل قال تعالى: {ولا يؤوده حفظهما} [البقرة: ٢٥٥] أي يثقله؛ لأنه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فاراد بقار حياتها ألبسها جبة من صوف أو شعر لترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أقاربها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض،

وقيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة، وإذا ولدت ابنا أمسكته، وههنا سؤالان:

السؤال الأول: ما الذي حملهم على وأد البنات؟

الجواب: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهم أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: ٣١] وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات اللّه فألحقوا البنات بالملائكة، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد فافتخر الفرزدق به في قوله:

(ومنا الذي منع الوائداتفأحيا الوئيد فلم توأد)

السؤال الثاني: فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا شئل الوائد عن موجب قتله لها؟

الجوال: سؤالها وجوابها تبكيب لقاتلها، وهو كتبكيت النصارى في قوله لعيسى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون اللّه، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: ١١٦].

المسألة الثانية: قرئ سألت، أي خاصمت عن نفسها، وسألت اللّه أو قاتلها، وقرئ قتلت بالتشديد،

٩

{بأي ذنب قتلت}

فإن قيل اللفظ المطابق أن يقال: {سئلت * بأي ذنب قتلت} ومن قرأ سألت فالمطابق أن يقرأ {بأي ذنب قتلت} فما الوجه في القراءة المشهورة؟

قلنا: الجواب من وجهين.

الأول: تقدير الآية: وإذا الموءودة سئلت [أي سئل] الوائدون عن أحوالها بأي ذنب قتلت.

والثاني: أن الإنسان قد يسأل عن حال نفسه عند المعاينة بلفظ المغايبة؛ كما إذا أردت أن تسال زيدا عن حال من أحواله، فتقول: ماذا فعل زيد في ذلك المعنى؟ ويكون زيد هو المسئول، وهو المسؤول عنه، فكذا ههنا.

١٠

التاسع: قوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} قرئ بالتخفيف والتشديد يريد صحف الأعمال تطوي صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها، أي فرقت بينهم.

١١

العاشر: قوله تعالى: {وإذا السماء كشطت} أي كشفت وأزيلت عما فوقها، وهو الجنة وعرش اللّه، كما يكشط إلهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء، وقرأ: ابن مسعود: قشطت، واعتقاب القاف والكاف كثير، يقال لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور، قال الفراء: نزعت فطويت.

١٢

الحادي عشر: قوله تعالى: {وإذا الجحيم سعرت} أوقدت إيقادا شديدا وقرئ سعرت بالتشديد للمبالغة، قيل سعرها غضب اللّه، وخطايا بني آدم، واحتج بهذه الآية من قال: النار غير مخلوقة الآن، قالوا: لأنها تدل على أن تسعيرها معلق بيوم القيامة.

١٣

الثاني عشر: قوله تعالى: {وإذا الجنة أزلفت} أي أدنيت من المتقين، كقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين} [الشعراء: ٩٠].

١٤

ولما ذكر اللّه تعالى هذه الأمور الأثنى عشر ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء فقال: {علمت نفس ما أحضرت} ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، وما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، والمراد: ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار.

(فإن قيل): كل نفس تعلم ما أحضرت، لقوله: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محتضرا} [آل عمران: ٣٠] فما معنى قوله {علمت نفس}؟

قلنا: الجواب من وجهين.

الأول: أن هذا هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط، وإن كان اللفظ موضوعا للقليل، ومنه قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا} [الحجر: ٢] كمن يسأل فاضلا مسألة ظاهرة ويقول هل عندك فيها شيء؟ فيقول: ربما حضر شيء؛ وغرضه الإشارة إلى أن عنده في تلك المسألة ما لا يقول به غيره. فكذا ههنا.

الثاني: لعل الكفار كانوا يتعبون أنفسهم في الأشياء التي يعتقدونها طاعات ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك فهو المراد من هذه الآية.

١٥

قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنس، الجواري الكنس} الكلام في قوله: {لا أقسم} قد تقدم في قوله: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة: ١)، {الجوار الكنس}

فيه قولان:

الأول: وهو المشهور الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس، والخنوس والانقباض والاستخفاء تقول: خنس من بين القوم وانخنس، وفي الحديث "الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر اللّه خنس" أي انقبض ولذلك سمي الخناس {*والكنس} جمع كانس وكانسة يقال: كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها، وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس.

ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه فالقول الأظهر: أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها فرجوعها هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس، ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة

القول الثاني: ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها و

القول الثالث: أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى: {أقسم برب المشارق والمغارب} (المعارج: ٤٠) ولا شك أن فيها مطلعا واحدا ومغربا واحدا هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رؤوسنا،

ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة،

ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع، وكنوسها عبارة عن عودها إليه، فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعا بالخمسة المتحيرة، وعلى القول الثاني يكون القسم واقعا بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعا بالسبعة السيارة واللّه أعلم بمراده.

١٦

والقول الثاني: أن {الجوار الكنس} وهو قول ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش، وقال سعيد بن جبير: هي الظباء، وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة {*والكنس} جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول، والدليل عليه أمران:

١٧

{واليل إذا عسعس}.

الأول: أنه قال بعد ذلك: {الكنس واليل إذا عسعس} وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش.

الثاني: أن محل قسم اللّه كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى، ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش.

الثالث: أن (الخنس) جمع خانس من الخنوس،

وأما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف، ولا يقال: الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضا من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين.

قوله تعالى: {واليل إذا عسعس} ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج:

( حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا )

وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل:

( مدرجات الليل لما عسعسا)

{والصبح إذا تنفس}.

ثم منهم من قال: المراد ههنا أقبل الليل، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعا بإقبال الليل وهو قوله: {إذا عسعس} وبإدباره أيضا وهو قوله: {والصبح إذا تنفس} ومنهم من قال: بل المراد أدبر وقوله: {والصبح إذا تنفس} أي امتد ضوءه وتكامل فقوله: {واليل إذا عسعس} (التكوير: ١٧) إشارة إلى أول طلوع الصبح، وهو مثل قوله: {واليل إذا * أدبر * والصبح إذا أسفر} (المدثر: ٣٤,٣٣) وقوله: {والصبح إذا تنفس} إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار.

وأما قوله تعالى:

١٨

{والصبح إذا تنفس} أي إذا أسفر كقوله: {والصبح إذا أسفر} (المدثر: ٣٤) ثم في كيفية المجاز قولان:

أحدهما: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسا له على المجاز،

وقيل تنفس الصبح.

والثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك، واجتمع الحزن في قلبه، فإذا تنفس وجد راحة.

فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة.

١٩

{إنه لقول رسول كريم}.

واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال: {إنه لقول رسول كريم} وفيه قولان:

الأول: وهو المشهور أن المراد أن القرآن نزل به جبريل:

فإن قيل: ههنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل، فوجب علينا أن نصدقه في ذلك، فإن لم نقطع بوجوب حمل

اللفظ على الظاهر، فلا أقل من الاحتمال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام اللّه، وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزا، لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم على سبيل الإضلال، ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال، لأن العلم بعصمة جبريل، مستفاد من صدق النبي، وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزا، وكون القرآن معجزا يتفرع على عصمة جبريل، فيلزم الدور وهو محال

والجواب: الذين قالوا: بأن القرآن إنما كان معجزا للصرفة، إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فرارا من هذا السؤال، لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا اللّه تعالى.

القول الثاني: أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند اللّه تعالى،

واعلم أنه تعالى وصف جبريل ههنا بصفات ست

أولها: أنه رسول ولا شك أنه رسول اللّه إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته، وهو المراد من قوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده} (النحل: ٢) وقال: {نزل به الروح الامين * على قلبك} (الشعراء: ١٩٤,١٩٣)

وثانيها: أنه كريم، ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا، وهو المعرفة والهداية والإرشاد.

٢٠

{ذى قوة عند ذى العرش مكين}.

وثالثها: قوله: {ذى قوة} ثم منهم من حمله على الشدة، روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل "ذكر اللّه قوتك، فماذا بلغت؟ قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها" وذكر مقاتل أن شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي صلى اللّه عليه وسلم فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة اللّه وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف، وعلى القوة في معرفة اللّه وفي مطالعة جلال اللّه.

ورابعها: قوله تعالى: {عند ذى العرش مكين} وهذه العندية ليست عندية المكان، مثل قوله: {ومن عنده لا يستكبرون} وليست عندية الجهة بدليل قوله "أنا عند المنكسرة قلوبهم" بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم.

وأما {مكين} فقال الكسائي: يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكنا ومكانة، فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.

٢١

{مطاع ثم أمين}.

وخامسها: قوله تعالى: {مطاع ثم} اعلم أن قوله: {ثم} إشارة إلى الظرف المذكور أعني {عند ذى العرش} (التكوير: ٢٠) والمعنى أنه عند اللّه مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، وقرىء {ثم} تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.

وسادسها: قوله: {أمين} أي هو {أمين} على وحي اللّه ورسالاته، قد عصمه اللّه من الخيانة والزلل.

٢٢

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٣

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٤

ثم قال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} واحتج بهذه الآية من فضل جبريل على محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال: إنك إذا وازنت بين قوله: {إنه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين} (التكوير: ٢١,١٩)

وبين قوله: {وما صاحبكم بمجنون} ظهر التفاوت العظيم: {ولقد رءاه بالافق المبين} يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع، وهذا مفسر في سورة النجم {وما هو على الغيب بضنين} أي وما محمد: (على الغيب بظنين)} والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال: ظننت زيدا في معنى اتهمته، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن اللّه، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل اللّه، قال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم، وقال أبو علي الفارسي: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين:

أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل

وثانيها: قوله: {*} والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال: ظننت زيدا في معنى اتهمته، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن اللّه، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل اللّه، قال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم، وقال أبو علي الفارسي: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين:

أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل

وثانيها: قوله: {على الغيب} ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال: فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.

٢٥

ثم قال تعالى: {وما هو بقول شيطان رجيم} كان أهل مكة يقولون: إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، فنفى اللّه ذلك،

فإن قيل القول بصحة النبوة

موقوف على نفي هذا الاحتمال، فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي؟ {قلنا} بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال، فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.

٢٦

ثم قال تعالى: {فأين تذهبون} وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافا، أين تذهب؟ مثلت حالهم بحالة في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم، قال الفراء: العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب، وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظاهر.

٢٧

ثم بين أن القرآن ما هو، فقال: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين.

٢٨

ثم قال: {لمن شاء منكم أن يستقيم} وهو بدل من العالمين، والتقدير: إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم، وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، والمعنى أن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم، ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة اللّه.

٢٩

{وما تشآءون إلا أن يشآء اللّه رب العالمين}.

أي إلا أن يشاء اللّه تعالى أن يعطيه تلك المشيئة، لأن فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلا بد في حدوثها من مشيئة أخرى فيظهر من مجموع هذه الآيات أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة.

وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد اللّه أن يعطيه تلك الإرادة، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها، موقوفة على مشيئة اللّه وهذا هو قول أصحابنا، وقول بعض المعتزلة إن هذه الآية مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضعيف لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية شيء حادث، فلا بد له من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها، وحينئذ يعود الإلزام، واللّه أعلم بالصواب.

﴿ ٠