ÓõæÑóÉõ ÇáúÈóáóÏö ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة البلدعشرون آية مكية _________________________________ ١{لا أقسم بهاذا البلد * وأنت حل بهاذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان فى كبد}. أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة، واعلم أن فضل مكة معروف، فإن اللّه تعالى جعلها حرما آمنا، فقال في المسجد الذي فيها {ومن دخله كان ءامنا} وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب، فقال: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة: ٦٤٤) وشرف مقام إبراهيم بقوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: ١٢٥) وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال: {وللّه على الناس حج البيت} (آل عمران: ٩٧) وقال في البيت: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} (البقرة: ١٢٥) وقال: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا} (الحج: ٢٦) وقال: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} وحرم فيه الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الدنيا من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم اللّه تعالى بها، ٢فأما قوله: {وأنت حل} فالمراد منه أمور أحدها: وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها وثانيها: الحل بمعنى الحلال، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام اللّه تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك، عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له وثالثها: قال قتادة: {البلد وأنت حل} أي لست بآثم، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت، وذلك أن اللّه تعالى فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء، فقتل عبد اللّه بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابةوغيرهما، وحرم دار أبي سفيان، ثم قال: "إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول اللّه فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال إلا الإذخر". فإن قيل: هذه السورة مكية، وقوله: {وأنت حل} إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟ قلنا: قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلا، كقوله تعالى: {إنك ميت} (الزمر: ٣٠) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهذا من اللّه أحسن، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها: {وأنت حل بهاذا البلد} أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيما منك لهذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر باللّه، وتكذيب الرسل وخامسها: أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد، ثم قال: {وأنت حل بهاذا البلد} أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحةوهذا هو المراد بقوله تعالى: {هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم} (الجمعة: ٢) وقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: ١٢٨) وقوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} (يونس: ١٦) فيكون الغرض شرح منصب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكونه من هذا البلد. ٣أما قوله: {ووالد وما ولد} فاعلم أن هذا معطوف على قوله: {لا أقسم بهاذا البلد} وقوله: {وأنت حل بهاذا البلد} معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، وللمفسرين فيه وجوه أحدها: الولد آدم وما ولد ذريته، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق اللّه على وجه الأرض، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى اللّه تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، وقد قال اللّه تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} (الإسراء: ٧٠) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب، وقيل: هو قسم بآدم والصالحين من أولاده، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم. كما قال: {إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا}، {صم بكم عمى فهم لا يرجعون} وثانيها: أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى اللّه عليه وسلم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب، وإنما قال: {وما ولد} ولم يقل ومن ولد، للفائدة الموجودة في قوله: {واللّه أعلم بما وضعت} (آل عمران: ٣٦) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن وثالثها: الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم. فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين، وإنما قلنا: إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال: "كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" وهم المؤمنين ورابعها: روي عن ابن عباس أنه قال: الولد الذي يلد، وما ولد الذي لا يلد، فما ههنا يكون للنفي، وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد، والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها: يعني كل والد ومولود، وهذا مناسب، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام. ٤وأما قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان فى كبد} ففيه مسائل: المسألة الأولى: في الكبد وجوه أحدها: قال صاحب "الكشاف": إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبدا فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده، وقال آخرون: الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعا للكبد، ثم اشتقت منه الشدة. وفي الثاني جعل اللفظ موضوعا للشدة والغلظ، ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني: أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث: أن الكبد شدة الخلق والقوة، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط، وأن يكون المراد كل ذلك. أما الأول: فقوله: {لقد خلقنا الإنسان فى كبد} أي خلقناه أطوارا كلها شدة ومشقةتارة في بطن الأم، ثم زمان الإرضاع، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش، ثم بعد ذلك الموت. وأما الثاني: وهو الكبد في الدين، فقال الحسن: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، ويكابد المحن في أداء العبادات. وأما الثالث: وهو الآخرة، فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على اللّه إلى أن يستقر به القرار أما في الجنة وأما في النار. وأما الرابع: وهو يكون اللفظ محمولا على الكل فهو الحق، وعندي فيه وجه آخر، وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة، بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع، وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للإنسان، إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر، فهذا معنى قوله: {لقد خلقنا الإنسان فى كبد} ويظهر منه أنه لا بد للإنسان من البعث والقيامة، لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم، فهذا لا يليق بالرحمة، وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ، ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب، وإن كان مطلوبه أن يلتذ، فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة، وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات. وأما على الوجه الثاني: وهو أن يفسر الكبد بالاستواء، فقال ابن عباس: في كبد، أي قائما منتصبا، والحيوانات الأخر تمشي منكسة، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة. وأما على الوجه الثالث: وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة، فقد قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد، وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي، فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه، واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول. المسألة الثانية: حرف في واللام متقاربان، تقول: إنما أنت للعناء والنصب، وإنما أنت في العناء والنصب، وفيه وجه آخر وهو أن قوله: {فى كبد} يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف، وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة. المسألة الثالثة: منهم من قال: المراد بالإنسان إنسان معين، وهو الذي وصفناه بالقوة، والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل. ٥{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}. اعلم أنا إن فسرنا الكبد بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرنا المحنة والبلاء كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟ ثم اختلفوا فقال: بعضهم لن يقدر على بعثه ومجازاته فكأنه خطاب مع من أنكر البعث، وقال آخرون: المراد لن يقدر على تغيير أحواله ظنا منه أنه قوي على الأمور لا يدافع عن مراده، وقوله: {أيحسب} استفهام على سبيل الإنكار. ٦{يقول أهلكت مالا لبدا}. قال أبو عبيدة: لبد، فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الزجاج: فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم، قال الفراء: واحدته لبدة ولبد جمع وجعله بعضهم واحدا، ونظيره قسم وحطم وهو في الوجهين جميعا الكثير، قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته. وقد ذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: {يكونون عليه لبدا} (الجن: ١٩) والمعنى أن هذا الكافر يقول: أهلكت في عداوة محمد مالا كثيرا، والمراد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر. ٧{أيحسب أن لم يره أحد}. فيه وجهان الأول: قال قتادة: أيظن أن اللّه لم يره ولم يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه الثاني: قال الكلبي: كان كاذبا لم ينفق شيئا، فقال اللّه تعالى: أيظن أن اللّه تعالى ما رآى ذلك منه، فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق، بل رآه وعلم منه خلاف ما قال. ٨انظر تفسير الآية:١٠ ٩انظر تفسير الآية:١٠ ١٠{ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين }. واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} (البلد: ٥) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال تعالى: {ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين} وعجائب هذه الأعضاء مذكورة في كتب التشريح، قال أهل العربية: النجد الطريق في ارتفاع فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار، وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في النجدين وهو أنهما سبيلا الخير والشر، وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: إنما هما النجدان، نجد الخير ونجد الشر، ولا يكون نجد الشر، أحب إلى أحدكم من نجد الخير" وهذه الآية كالآية في: {هل أتى على الإنسان} إلى قوله: {فجعلناه * سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل أما شاكرا وأما كفورا} (الإنسان: ٣,١) وقال الحسن: قال: {أهلكت مالا لبدا} فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل: الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك، وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب، أنهما الثديان، ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، واللّه تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعها، قال القفال: والتأويل هو الأول، ثم قرر وجه الاستدلال به، فقال: إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلبا عقولا ولسانا قولا، فهو على إهلاك ما خلق قادر، وبما يخفيه المخلوق عالم، فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه وما الحجة في الكفر باللّه من تظاهر نعمه، وما العلة في التعزيز على اللّه وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له، وهو الممكن من الانتفاع به. ١١{فلا اقتحم العقبة}. ثم إنه سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال، وعرف هذا الكافر أن إنفاقه كان فاسدا وغير مفيد، فقال تعالى: {فلا اقتحم العقبة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الاقتحام الدخول في الأمر الشديد يقال: قحم يقحم قحوما، واقتحم اقتحاما وتقحم تقحما إذا ركب القحم، وهي المهالك والأمور العظام والعقبة طريق في الجبل، وعر، الجمع العقب والعقاب، ثم ذكر المفسرون في العقبة ههنا وجهين الأول: أنها في الآخرة وقال عطاء: يريد عقبة جهنم، وقال الكلبي: هي عقبة بين الجنة والنار، وقال ابن عمرهي: جبل زلال في جهنم وقال مجاهد والضحاك: هي الصراط يضرب على جهنم، وهو معنى قول الكلبي: إنها عقبة الجنة والنار، قال الواحدي: وهذا تفسير فيه نظر لأن من المعلوم أن (بني) هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات، ويدل عليه أنه لما قال: {وما أدراك ما العقبة} (البلد: ١٢) فسره بفك الرقبة وبالإطعام الوجه الثاني: في تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة ههنا مثل ضربه اللّه لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر، وهو قول الحسن ومقاتل: قال الحسن عقبة اللّه شديدة وهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه من شياطين الإنس والجن، وأقول هذا التفسير هو الحق لأن الإنسان يريد أن يترقى من عالم الحس والخيال إلى يفاع عالم الأنوار الإلهية ولا شك أن بينه وبينها عقبات سامية دونها صواعق حامية، ومجاوزتها صعبة والترقي إليها شديد. المسألة الثانية: أن في الآية إشكالا وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة، تقول: لا جنبني ولا بعدني قال تعالى: {فلا صدق ولا صلى} (القيامة: ٣١) وفي هذه الآية ما جاء التكرير فما السبب فيه؟ أجيب عنه من وجوه الأول: قال الزجاج: إنها متكررة في المعنى لأن معنى {فلا اقتحم العقبة} فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك، وقوله: {ثم كان من الذين ءامنوا} (البلد: ١٧) يدل أيضا على معنى {فلا اقتحم العقبة} ولا آمن الثاني: قال أبو علي الفارسي: معنى {فلا اقتحم العقبة} لم يقتحمها، وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو {فلا صدق ولا صلى} فهو كتكرر ولم: نحو {لم يسرفوا ولم يقتروا} (الفرقان: ٦٧). المسألة الثالثة: قال القفال: قوله: {فلا اقتحم العقبة} أي هلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة؟ وأما الباقون فإنهم أجروا اللفظ على ظاهره وهو الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة. ١٢ثم قال تعالى:{ومآ أدراك ما العقبة}. فلا بد من تقدير محذوف، لأن العقبة لا تكون فك رقبة، فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لأمر التزام الدين. ١٣ثم قال تعالى: {فك رقبة}.والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام، وفيه مسائل: المسألة الأولى: الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل، وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية، ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الكتاب، قال الفراء: في المصادر فكها يفكها فكاكا بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها، ويقال: كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد، ثم سمي إطلاق الأسير فكاكا، قال الأخطل: ( أبنى كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلال ) المسألة الثانية: فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق، وقد يكون بأن يعطي مكاتبا ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه، روى البراء بن عازب، قال: "جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: عتق النسمة وفك الرقبة قال: يا رسول اللّه أوليسا واحدا؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة، أن تعين في ثمنها" وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى، ويتخلص بها من النار. المسألة الثالثة: قرىء: (فك رقبة) أو إطعام، والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرىء: (فك رقبة أو أطعم) على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله: {وما أدراك ما العقبة} اعتراض، قال الفراء: وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله: {ثم كان} (البلد: ١٦) لأن فك وأطعم فعل، وقوله: كان فعل، وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلا، أما لو قيل: ثم إن كان كان ذلك مناسبا لقوله: {فك رقبة} بالرفع لأنه يكون عطفا للاسم على الاسم. المسألة الرابعة: عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات، وعند صاحبية الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبي حنيفة: لتقدم العتق على الصدقة فيها. ١٤{أو إطعام فى يوم ذى مسغبة}. فيه مسائل: المسألة الأولى: يقال: سغب سغبا إذا جاع فهو ساغب وسغبان، قال صاحب "الكشاف": المسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة. قال الواحدي: المتربة مصدر من قولهم ترب يترب تربا ومتربة مثل مسغبة إذا افتقر حتى لصق بالتراب. المسألة الثانية: حاصل القول في تفسير: {يوم ذى مسغبة} ما قاله الحسن: وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام، قال أبو علي: ومعناه ما يقول النحويون في قولهم: ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم. واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر، وهو كقوله: {ليس البر أن تولوا} (البقرة: ١٧٧) وقال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا} (الإنسان: ٨) وقرأ: الحسن: (ذا مسغبة) نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة. ١٥أما قوله تعالى:{يتيما ذا مقربة}. قال الزجاج: ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر، قال مقاتل: يعني يتيما بينه وبينه قرابة، فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة، فاطعامه أفضل، وقيل: يدخل فيه القرب بالجوار، كما يدخل فيه القرب بالنسب. ١٦أما قوله تعالى: {أو مسكينا ذا متربة}. أي مسكينا قد لصق بالتراب من فقره وضره، فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه، روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال: هذا الذي قال اللّه تعالى (فيه): ١٦{أو مسكينا ذا متربة} واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئا، لأنه لو كان لفظ المسكين دليلا على أنه لا يملك شيئا ألبتة، لكان تقييده بقوله: {ذا متربة} تكريرا وهو غير جائز. ١٧أما قوله تعالى: {ثم كان من الذين ءامنوا} أي كان مقتحم العقبة من الذين آمنوا، فإنه إن لم يكن منهم لم ينتفع بشيء من هذه الطاعات، ولا مقتحما للعقبة فإن قيل: لما كان الإيمان شرطا للانتفاع بهذه الطاعات وجب كونه مقدما عليها، فما السبب في أن اللّه تعالى أخره عنها بقوله: {ثم كان من الذين ءامنوا}؟ والجواب: من وجوه أحدها: أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود، كقوله: ( إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده ) لم يرد بقوله: ثم ساد أبوه التأخر في الوجود، وإنما المعنى، ثم اذكر أنه ساد أبوه. كذلك في الآية وثانيها: أن يكون المراد، ثم كان في عاقبة أمره من الذين آمنوا وهو أن يموت على الإيمان فإن الموافاة شرط الانتفاع بالطاعات وثالثها: أن من أتى بهذه القرب تقربا إلى اللّه تعالى قبل إيمانه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ثم آمن بعد ذلك بمحمد عليه الصلاة والسلام، فعند بعضهم أنه يثاب على تلك الطاعات، قالوا: ويدل عليه ما روي: "أن حكيم بن حزام بعدما أسلم قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: أسلمت على ما قدمت من الخير" ورابعها: أن المراد من قوله: {ثم كان من الذين ءامنوا} تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العنق والصدقة لأن درجة ثواب الإيمان أعظم بكثير من درجة ثواب سائر الأعمال. أما قوله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} فالمعنى أنه كان يوصي بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو الصبر على المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلي بها المؤمن ثم ضم إليه التواصي بالمرحمة وهو أن يحث بعضهم بعضا على أن يرحم المظلوم أو الفقير، أو يرحم المقدم على منكر فيمنعه منه لأن كل ذلك داخل في الرحمة، وهذا يدل على أنه يجب على المرء أن يدل غيره على طريق الحق ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما أمكنه، واعلم أن قوله: {ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} يعني يكون مقتحم العقبة من هذه الزمرة والطائفة، وهذه الطائفة هم أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم، فإنهم كانوا مبالغين في الصبر على شدائد الدين والرحمة على الخلق، وبالجملة فقوله: {وتواصوا بالصبر} إشارة إلى التعظيم لأمر اللّه، وقوله: {وتواصوا بالمرحمة} إشارة إلى الشفقة على خلق اللّه، ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين وهو الذي قاله بعض المحققين، إن الأصل في التوصف أمران: صدق مع الحق؟ وخلق مع الخلق. ثم إنه سبحانه لما وصف هؤلاء المؤمنين بين أنهم من هم في القيامة فقال: ١٨{أولائك أصحاب الميمنة}. وإنما ذكر ذلك لأنه تعالى بين حالهم في سورة الواقعة وأنهم {فى سدر مخضود * وطلح منضود} (الواقعة: ٢٩,٢٨) قال صاحب "الكشاف": الميمنة والمشأمة، اليمين والشمال، أو اليمين والشؤم، أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليها. ١٩ثم قال تعالى: {والذين كفروا بأاياتنا هم أصحاب المشأمة}. فقيل: المراد من يؤتي كتابه بشماله أو وراء ظهره، وقد تقدم وصف اللّه لهم بأنهم: {فى سموم وحميم * وظل من يحموم} (الواقعة: ٤٢) إلى غير ذلك. ثم قال تعالى: {عليهم نار مؤصدة}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الفراء والزجاج والمبرد: يقال آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته، فمن قرأ مؤصدة بالهمزة أخذها من آصدت فهمز اسم المفعول، ويجوز أن يكون من أوصدت ولكنه همز على لغة من يهمز الواو وإذا كان قبلها ضمة نحو مؤسي، ومن لم يهمز احتمل أيضا أمرين: أحدهما: أن يكون من لغة من قال: أوصدت فلم يهمز اسم المفعول كما يقال: من أوعدت موعد. الآخر: أن يكون من آصد مثل آمن ولكنه خفف كما في تخفيف جؤنة وبؤس جونة وبوس فيقلبها في التخفيف واوا، قال الفراء: ويقال من هذا الأصيد والوصيد وهو الباب المطبق، إذا عرفت هذا فنقول: قال مقاتل ٢٠{عليهم نار مؤصدة} يعني أبوابها مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح أبد الآباد، وقيل: المراد إحاطة النيران بهم، كقوله: {أحاط بهم سرادقها} (الكهف: ٢٩). المسألة الثانية: {*المؤصدة} هي الأبواب، وقد جرت صفة للنار على تقدير: عليهم نار مؤصدة الأبواب، فكلما تركت الإضافة عاد التنوين لأنهما يتعاقبان، واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
﴿ ٠ ﴾