ÓõæÑóÉõ ÇáÔøóãúÓö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ÎóãúÓó ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة الشمس

خمس عشرة آية مكية

_________________________________ 

١

{والشمس وضحاها}.

قبل الخوض في التفسير لا بد من مسائل:

المسألة الأولى: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.

واعلم أنه تعالى ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمل المكلف فيها ويشكر عليها، لأن الذي يقسم اللّه تعالى به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى.

المسألة الثانية: قد عرفت أن جماعة من أهل الأصول قالوا: التقدير ورب الشمس ورب سائر ما ذكره إلى تمام القسم، واحتج قوم على بطلان هذا المذاهب، فقالوا: إن في جملة هذا القسم قوله: {يغشاها والسماء وما بناها} (الشمس: ٥) وذلك هو اللّه تعالى فيلزم أن يكون المراد، ورب السماء وربها وذلك كالمتناقض، أجاب القاضي عنه بأن قوله: {وما بناها} لا يجوز أن يكون المراد منه هو اللّه تعالى، لأن ما لا تستعمل في خالق السماء إلا على ضرب من المجاز، ولأنه لا يجوز منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه، ولأنه تعالى لا يكاد يذكر مع غيره على هذا الوجه، فإذا لا بد من التأويل وهو أن {ما} مع ما بعده في حكم المصدر فيكون التقدير: والسماء وبنائها، اعترض صاحب "الكشاف" عليه فقال: لو كان الأمر على هذا الوجه لزم من عطف قوله: {فألهمها} (الشمس: ٨) عليه فساد النظم.

المسألة الثالثة: القراء مختلفون في فواصل هذه السورة وما أشبهها نحو: {واليل إذا يغشى}، {والضحى * واليل إذا سجى} فقرءوها تارة بالإمالة وتارة بالتفخيم وتارة بعضها بالإمالة وبعضهابالتفخيم،قال الفراء: بكسر ضحاها، والآيات التي بعدها وإن كان أصل بعضها الواو نحو: تلاها، وصحاها ودحاها، فكذلك أيضا.

فإنه لماابتدئت السورة بحرف الياء أتبعها بما هو من الواو لأن الألف المنقلبة عن الواو قد توافق المنقلبة عن الياء، ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوهما قد يجوز في أفعالها أن تنقلب إلى الياء نحو: تلى ودحى، فلما حصلت هذه الموافقة استجازوا إمالته كما استجازوا إمالة ما كان من الياء،

وأما وجه من ترك الإمالة مطلقا فهو أن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الألفات ولا ينحون فيها نحو الياء، ويقوى ترك الإمالة للألف أن الواو في موسر منقلبة عن الياء، والياء في ميقات وميزان منقلبة عن الواو ولم يلزم من ذلك أن يحصل فيه ما يدل على ذلك الانقلاب، فكذا ههنا ينبغي أن تترك الألف غير ممالة ولا ينحى بها نحو الياء،

وأما إمالة البعض وترك إمال البعض، كما فعله حمزة فحسن أيضا، وذلك لأن الألف إنما تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها ألف منقلبة عن الياء إنما هي منقلبة عن الواو بدلالة تلوت ودحوت.

المسألة الرابعة: أن اللّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء إلى قوله: {قد أفلح} (الشمس: ٩) وهو جواب القسم، قال الزجاج: المعنى لقد أفلح، لكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضا منها.

قوله تعالى: {والشمس وضحاها} ذكر المفسرون في ضحاها ثلاثة أقوال قال مجاهد والكلبي: ضوؤها، وقال قتادة: هو النهار كله، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة، وقال مقاتل: هو حر الشمس، وتقرير ذلك بحسب اللغة أن نقول: قال الليث: الضحو ارتفاع النهار، والضحى فويق ذلك، والضحاء ممدودا امتد النهار، وقرب أن ينتصف.

وقال أبو الهيثم: الضح نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض وأصله الضحى، فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء فقلبوها وقال: ضح، فالضحى هو ضوء الشمس ونورها ثم سمى به الوقت الذي تشرق فيه الشمس على ما في قوله تعالى: {إلا عشية أو ضحاها} (النازعات: ٤٦) فمن قال من المفسرين: في ضحاها ضوؤها فهو على الأصل، وكذا من قال: هو النهار كله، لأن جميع النهار هو من نور الشمس، ومن قال: في الضحى إنه حر الشمس فلأن حرها ونورها متلازمان، فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وبالعكس، وهذا أضعف الأقوال،

واعلم أنه تعالى إنما أقسم بالشمس وضحاها لكثرة ما تعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر أثر الصبح في المشرق صار ذلك كالصور الذي ينفخ قوة الحياة، فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في الازدياد والقوة والتكامل، ويكون غاية كمالها وقت الضحوة، فهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها،

٢

وقوله: {والقمر إذا تلاها} قال الليل: تلا يتلو إذا تبع شيئا وفي كون القمر تاليا وجوه

أحدها: بقاء القمر طالعا عند غروب الشمس، وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس، فإذا القمر يتبعها في الإضاءة، وهو قول عطاء عن ابن عباس

وثانيها: أن الشمس إذا غربت فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب، وهو قول قتادة والكلبي

وثالثها: قال الفراء: المراد من هذا التلو هو أن القمر يأخذ الضوء من الشمس يقال: فلان يتبع فلانا في كذا أي يأخذ منه

ورابعها: قال الزجاج: تلاها حين استدار وكمل، فكأنه يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوؤه فصار كالقائم مقام الشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض

وخامسها: أنه يتلوها في كبر الجرم بحسب الحس، وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته، ولقد ظهر في علم النجوم أن بينهما من المناسبة ما ليس بين الشمس وبين غيرها.

٣

{والنهار إذا جلاها}. معنى التجلية الإظهار، والكشف والضمير في جلاها إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان

أحدهما: وهو قول الزجاج: أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس.

فكلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أجلى ظهورا، لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها، كقوله تعالى: {لا يجليها لوقتها إلا هو} أي لا يخرجها

الثاني: وهو قول الجمهور ـ أنه عائد إلى الظلمة، أو إلى الدنيا، أو إلى الأرض.

وإن لم يجر لها ذكر، يقولون: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.

٤

{واليل إذا يغشاها}. يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها، وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين

الأول: إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال: النهار يجليها، على ضد ما ذكر في الليل

والثاني: أن الضمير في يغشاها للشمس بلا خلاف، فكذا في جلاها يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى ههنا للشمس، قال القفال: وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة

أولها: الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار. وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش،

ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها،

ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار،

ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل، ومن تأمل قليلا في عظمة الشمس

ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي، والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها، فسبحانه ما أعظم شأنه.

٥

{والسمآء وما بناها}.

فيه سؤالات:

السؤال الأول: أن الذي ذكره صاحب "الكشاف" من أن {ما} ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف {فألهمها} عليه يوجب فساد النظم حق، والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسما بخالق السماء، لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس، فهو إشكال جيد،

والذي يخطر ببالي في الجواب عنه: أن أعظم المحسوسات هو الشمس، فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها، ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات، ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس، والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس، بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدىء لها، فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك جلال اللّه وعظمته على ما يليق به، والحس لا ينازعه فيه.

فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية، وبيداء كبرياء الصمدية، فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته.

السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: {والسماء وما بناها}؟

الجواب: أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين.

معأنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه، وما هو أصغر منه، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين، لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته، فقوله: {وما بناها} كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات.

السؤال الثالث: لم قال: {وما بناها} ولم يقل: ومن بناها؟

الجواب: من وجهين

الأول: أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية، كأنه قيل: والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها

والثاني: أن ما تستعمل في موضع من كقوله: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء} (النساء: ٢٢) والاعتماد على الأول.

السؤال الرابع: لم ذكر في تعريف ذات اللّه تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس؟

والجواب: لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب، والبسيط قسمان:

العلوية وإليه الإشارة بقوله: {والسماء}

والسفلية وإليه الإشارة بقوله: {والارض} (الشمس: ٦)

والمركب هو أقسام، وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله: {ونفس وما سواها} (الشمس: ٧).

٦

أما قوله تعالى: {والارض وما طحاها}.

ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: إنما أخر هذا عن قوله: {والسماء وما بناها} لقوله: {والارض بعد ذلك دحاها} (النازعات: ٣٠).

المسألة الثانية: قال الليث: الطحو كالدحوا وهو البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، والمعنى وسعها.

قال عطاء والكلبي: بسطها على الماء.

٧

أما قوله تعالى: {ونفس وما سَوَّاهَا} إن حملنا النفس على الجسد، فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح، وإن حملناها على القوة المدبرة، فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة

كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة، على ما يشهد به علم النفس

فإن قيل: لم نكرت النفس؟

قلنا: فيه وجهان

أحدهما: أن يريد به نفسا خاصة من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك لأن كل كثرة، فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس، فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان، والإنسان أنواع وأصناف ورائيسها النبي.

والأنبياء كانوا كثيرين، فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق، فقوله: {طحاها ونفس} إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات

الثاني: أن يريد كل نفس، ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله: {علمت نفس ما أحضرت} وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا اللّه على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات: {ويخلق * مالا * تعلمون} ولكل نوع نفس مخصوصة متميزةعن سائرها بالفضل المقوم لماهيته، والخواص اللازمة لذلك الفصل، فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض، فضلا عن التوغل في بحار أسرار اللّه سبحانه.

٨

أما قوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها}.

فالمعنى المحصل فيه وجهان

الأول: أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وإعقالهما، وأن أحدهما حسن

والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما، وهو كقوله: {وهديناه النجدين} (البلد: ١٠) وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة، قالوا: ويدل عليه قوله بعد ذلك:

٩

{قد أفلح من زكاها} وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين

والوجه الثاني: أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره، قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور، واختار الزجاج والواحدي ذلك، قال الواحدي: التعليم والتعريف والتبيين، غير والإلهام غير،فإن الإلهام هو أن يوقع اللّه في قلب العبد شيئا، وإذا أوقع في قلبه شيئا فقد ألزمه إياه.

وأصل معنى الإلهام من قولهم: لهم الشيء، والتهمه إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه اللّه تعالى في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد، وهو صريح في أن اللّه تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره،

وأما التمسك بقوله: {قد أفلح من زكاها} فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها اللّه تعالى وأصلحها وطهرها، والمعنى وفقها للطاعة، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام.

وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبرا للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره، بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية، فنبه سبحانه بقوله: {فألهمها فجورها وتقواها} على أن ذلك أيضا منه وبه وبقضائه وقدره، وحينئذ ثبت أن كل ما سوى اللّه فهو واقع بقضائه وقدره. وداخل تحت إيجاده وتصرفه.

ثم الذي يدل عقلا على أن المراد من قوله: {فألهمها فجورها وتقواها} هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مرارا أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات، فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل، وفيه نفي الصانع، وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل، وإن كان عن اللّه فهو المقصود، وأيضا فليجرب العاقل نفسه.

فإنه ربما كان الإنسان غافلا عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله: {فألهمها} ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة.

أما قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء، وفي الآية قولان

أحدهما: أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية

والثاني: قد أفلح من زكاها اللّه، وقبل القاضي هذا التأويل، وقال المراد منه أن اللّه حكم بتزكيتها وسماها بذلك، كما يقال في العرف: إن فلانا يزكي فلانا،

ثم قال: والأول أقرب، لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهرا، فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور.

واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد، بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه.

وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف، لأن بناء التفعيلات على التكوين، ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم اللّه به يمتنع تغيره، لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب، وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.

أما قوله ذكر النفس قد تقدم،

قلنا: هذا بالعكس أولى، فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد، وقوله: {فألهمها} أقرب إلى قوله: {ما} منه إلى قوله: {ونفس} فكان الترجيح لما ذكرناه، ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ: {قد أفلح من زكاها} وقف وقال: "اللّهم آت نفسي تقواها، أنت وليها وأنت مولاها، وزكها أنت خير من زكاها".

١٠

أما قوله تعالى: {وقد خاب من دساها}.

فقالوا: {دساها} أصله دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت إحدى السينات ياء، فأصل دسى دسس، كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي، وكما قالوا: الببت والأصل لببت، وملبي والأصل ملبب، ثم نقول:

أما المعتزلة فذكروا وجوها توافق قولهم:

أحدها: أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم، وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون، ويوقدون النيران بالليل للطارقين.

وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين

وثانيها: {خاب من دساها} أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم

وثالثها: {من دساها} في المعاصي حتى انغمس فيها

ورابعها: {من دساها} من دس في نفسه الفجور، وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها

وخامسها: أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملا متروكا منسيا، فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول.

وأما أصحابنا فقالوا: المعنى خابت وخسرت نفس أضلها اللّه تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها، هذه ألفاظهم في تفسير {دساها} قال الواحدي رحمه اللّه: فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق.

١١

أما قوله تعالى: {كذبت ثمود بطغواها} قال الفراء: الطغيان والطغوى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برؤوس الآيات فاختير لذلك وهو كالدعوى من الدعاء

وفي التفسير وجهان:

أحدهما: أنها فعلت التكذيب بطغيانها، كما تقول: ظلمني بجراءته على اللّه تعالى، والمعنى أن طغيانهم حملهم على التكذيب به هذا هو القول المشهور

والثاني: أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به، والمعنى كذبت بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب، وهذا لا يبعد لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة القدر المعتاد فيجوزأن يسمى العذاب الذي جاءهم طغوى لأنه كان صيحة مجاوزة للقدر المعتاد أو يكون التقدير كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} (الحاقة: ٤) أي بالعذاب الذي حل بها، ثم قال: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: ٥) فسمى ما أهلكوا به من العذاب طاغية.

١٢

{إذ انبعث أشقاها}.

انبعث مطاوع بعث يقال: بعثت فلانا على الأمر فانبعث له، والمعنى أنه كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاها وهو عاقر الناقة وفيه قولان:

أحدهما: أنه شخص معين واسمه قدار بن سالف ويضرب به المثل يقال: أشأم من قدار، وهو أشقى الأولين بفتوى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

والثاني: يجوز أن يكونوا جماعة، وإنما جاء على لفظ الوحدان لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تقول: هذان أفضل الناس وهؤلاء أفضلهم، وهذا يتأكد بقوله: {فكذبوه فعقروها} (الشمس: ١٤) وكان يجوز أن يقال أشقوها كما يقال أفاضلهم.

١٣

أما قوله تعالى:{فقال لهم رسول اللّه ناقة اللّه وسقياها}.

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد من الرسول صالح عليه السلام {ناقة اللّه} أي أنه أشار إليه لما هموا بعقرها وبلغه ما عزموا عليه، وقال لهم هي: {ناقة اللّه} وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي، فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء، واحذروا أيضا أن تمنعوها من سقياها، وقد بينا في مواضع من هذا الكتاب أنه كان لها شرب يوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم، وكانوا يستضرون بذلك في أمر مواشيهم، فهموا بعقرها، وكان صالح عليه السلام يحذرهم حالا بعد حال من عذاب ينزل بهم إن أقدموا على ذلك، وكانت هذه الحالة متصورة في نفوسهم، فاقتصر على أن قال لهم: {ناقة اللّه وسقياها} لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها.

المسألة الثانية: {ناقة اللّه} نصب على التحذير، كقولك الأسد الأسد، والصبي الصبي بإضمار ذروا عقرها واحذروا سقياها، فلا تمنعوها عنها، ولا تستأثروا بها عليها.

١٤

{فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها}.

ثم بين تعالى أن القوم لم يمتنعوا عن تكذيب صالح، وعن عقر الناقة بسبب العذاب الذي أنذرهم اللّه تعالى به وهو المراد بقوله: {فكذبوه فعقروها} ثم يجوز أن يكون المباشر للعقر واحدا وهو قدار، فيضاف الفعل إليه بالمباشرة، كما قال: {فتعاطى فعقر} ويضاف الفعل إلى الجماعة لرضاهم بما فعل ذلك الواحد.

قال قتادة: ذكر لنا أنه أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم، وهو قول أكثر المفسرين.

وقال الفراء: قيل إنهما كانا إثنين.

أما قوله تعالى: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} فاعلم أن في الدمدمة وجوها

أحدها: قال الزجاج: معنى دمدم أطبق عليهم العذاب، يقال: دمدمت على الشيء إذا أطبقت عليه، ويقال: ناقة مدمومة،أي قد ألبسها الشحم، فإذا كررت الإطباق قلت دمدمت عليه.

قال الواحدي: الدم في اللغة اللطخ، ويقال للشيء السمين: كأنما دم بالشحم دما، فجعل الزجاج دمدم من هذا الحرف على التضعيف نحو كبكبوا وبابه، فعلى هذا معنى دمدم عليهم، أطبق عليهم العذاب وعمهم كالشيء الذي يلطخ به من جميع الجوانب

الوجه الثاني: تقول للشيء: يدفن دمدمت عليه، أي سويت عليه، فيجوز أن يكون معنى فدمدم عليهم، فسوى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التراب

الوجه الثالث: قال ابن الأنباري: دمدم غضب، والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل ورابعها: دمدم عليهم أرجف الأرض بهم رواه ثعلب عن ابن الأعرابي، وهو قول الفراء،

أما قوله: {فسواها} يحتمل وجهين، وذلك لأنا إن فسرنا الدمدمة بالإطباق والعموم، كان معنى {فسوى}

الدمدمة عليهم وعمهم بها، وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل عليه السلام، وتلك الصيحة أهلكتهم جميعا، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم، وإن فسرناها بالتسوية، كان المراد فسوى عليهم الأرض.

١٥

أما قوله تعالى: {ولا يخاف عقباها}

ففيه وجوه

أولها: أنه كناية عن الرب تعالى إذ هو أقرب المذكورات، ثم اختلفوا فقال بعضهم: لا يخاف تبعة في العاقبة إذ العقبى والعافية سواء، كأنه بين أنه تعالى يفعل ذلك بحق.

وكل ما فعل ما يكون حكمة وحقا فإنه لا يخاف عاقبة فعله.

وقال بعضهم: ذكر ذلك لا على وجه التحقيق لكن على وجه التحقير لهذا الفعل، أي هو أهون من أن تخشى فيه عاقبة، واللّه تعالى يجل أن يوصف بذلك، ومنهم من قال: المراد منه التنبيه على أنه بالغ في التعذيب، فإن كل ملك يخشى عاقبة، فإنه يتقي بعض الاتقاء، واللّه تعالى لما لم يخف شيئا من العواقب، لا جرم ما اتقى شيئا

وثانيها: أنه كناية عن صالح الذي هو الرسول أي ولا يخاف صالح عقبى هذا العذاب الذي ينزل بهم وذلك كالوعد لنصرته ودفع المكاره عنه.

لو حاول محاول أن يؤذيه لأجل ذلك

وثالثها: المراد أن ذلك الأشقى الذي هو أحيمر ثمود.

فيما أقدم من عقر الناقة {ولا يخاف عقباها} وهذه الآية وإن كانت متأخرة لكنها على هذا التفسير في حكم المتقدم، كأنه قال: {إذ انبعث أشقاها * ولا يخاف عقباها * لا ندرى أشر أريد بمن فى الارض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا * وأنا ظننا أن لن نعجز اللّه فى الارض ولن نعجزه هربا * وأنا لما سمعنا الهدى ءامنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف} واللّه أعلم، روي أن صالحا لما وعدهم العذاب بعد ثلاث، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلموا فلنقتل صالحا، فإن كان صادقا فأعجلناه قبلنا، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته.

فأتوه ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح، فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه لبسوا السلاح وقالوا لهم: واللّه لا تقتلونه قد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا زدتم ربكم عليكم غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون، فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا وجوههم مصفرة فأيقنوا بالعذاب فطلبوا صالحا ليقتلوه فهرب صالح والتجأ إلى سيد بعض بطون ثمود وكان مشركا فغيبه عنهم فلم يقدروا عليه ثم شغلهم عنه ما نزل بهم من العذاب، فهذا هو قوله: {ولا يخاف عقباها} واللّه أعلم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

﴿ ٠