سُورَةُ الْبَيِّنَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ ثَمَانِي آياَتٍ

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة البينة

وهي ثمانية آيات مدنية

_________________________________ 

١

{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة}.

إعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، ثم إنه رحمه اللّه تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: {لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة} التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن

والجواب: عنه من وجوه

أولها: وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف.

وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان، كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل.

وهو محمد عليه السلام، فحكى اللّه تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني اللّه الغنى، فلما رزقه اللّه الغنى ازداد فسقا فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما عمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما، وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله: {لم يكن الذين كفروا منفكين} عن كفرهم: {حتى تأتيهم البينة} مذكورة حكاية عنهم، وقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} هو إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا

وثانيها: أن تقدير الآية، لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء

وثالثها: أنا لا نحمل قوله: {منفكين} على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة: أي حتى أتتهم، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي وهو كقوله تعالى: {ما تتلوا * الشياطين} أي ما تلت، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه، وقال كل واحد فيه قولا آخر رديا ونظيره قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} والقول المختار في هذه الآية هو الأول، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك، بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمنا، ومنهم من صار كافرا، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى، وفيها وجه خامس: وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان، ونظيره قوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين} والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازما في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام: اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته، وقوله: {منفكين} مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المعبث لم يبق الأمر على تلك الحالة.

المسألة الثانية: الكفار كانوا جنسين

أحدهما: أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفارا بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم: {عزير ابن اللّه} و: {المسيح ابن اللّه} وتحريفهم كتاب اللّه ودينه

والثاني: المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب، فذكر اللّه تعالى الجنسين بقوله: {الذين كفروا} على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل، وهو قوله: {من أهل الكتاب والمشركين}

وههنا سؤالان:

السؤال الأول: تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر، وهذا حق، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر، ومعلوم أن ليس بحق

والجواب: من وجوه

أحدها: كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان}

وثانيها: أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، بعضهم من أهل الكتاب، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة، وهذا كله شرك، وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوما بأعيانهم يصفهم بالأمرين.

وقال تعالى: {الركعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود} وهذا وصف لطائفة واحدة، وفي القرآن من هذا الباب كثير، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفا لموصوف واحد.

السؤال الثاني: المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب؟

قلنا: ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام: "سنوليهم سنة أهل الكتاب" وأنكره الآخرون قال: لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب، وهم اليهود والنصارى، قال تعالى حكاية عنهم: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} والطائفتان هم اليهود والنصارى.

السؤال الثالث: ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين؟ حيث قال: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}؟

الجواب: أن الواو لا تفيد الترتيب، ومع هذا ففيه فوائد

أحدها: أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر

وثانيها: أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم، فكان إصرارهم على الكفر أقبح

وثالثها: أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلا لكفر غيرهم، فلهذا قدموا في الذكر

ورابعها: أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر.

السؤال الرابع: لم قال من أهل الكتاب، ولم يقل من اليهود والنصارى؟

الجواب: لأن قوله: {من أهل الكتاب} يدل على كونهم علماء، وذلك يقتضي

أما مزيد تعظيم، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى، أو لأن كونه عالما يقتضي مزيد قبح في كفره، فذكروا بهذا الوصف تنبيها على تلك الزيادة من العقاب.

المسألة الثانية: هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع

أحدها: أنه تعالى فسر قوله: {الذين كفروا} بأهل الكتاب وبالمشركين، فهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر، فمن ذلك قال العلماء: الكفر كله ملة واحدة، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس

والثاني: أن العطف أوجب المغايرة، فلذلك نقول: الذمي ليس بمشرك، وقال عليه السلام: "غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك

الثالث: نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية.

المسألة الرابعة: قال القفال: الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتحوالزوال، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله: انفك الرهن، ومنه فكاك الأسير وفكه، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثا قويا لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة،

أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتيمز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل، وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال:

الأول: أنها هي الرسول، ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوها

الأول: أن ذاته كانت بينة على نبوته، وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة، ومن كان كذابا متصنعا فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي، فلم يبق إلا أن يكون صادقا أو معتوها

والثاني: معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل، فلم يبق إلا أنه كان صادقا

الثاني: أن مجموع الأخلاف الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز، والجاحظ قرر هذا المعنى، والغزالي رحمه اللّه نصره في كتاب المنقذ، فإذا لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة

الثالث: أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضا في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة، ولذلك سماه اللّه تعالى: {سراجا * منيرا}.

٢

انظر تفسير الآية:٣

٣

واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية: {رسول من اللّه} فهو رفع على البدن من البينة، وقرأ: عبد اللّه: {رسولا} حال من البينة قالوا: والألف واللام في قوله: {البينة} للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، أو يقال: إنها للتفخيم أي هو: {البينة} التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما اللّه ههنا في حق الرسول عليه لسلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال: {رسول من اللّه} أي هو رسول، وأي رسول، ونظيره ما ذكره اللّه تعالى في الثناء على نفسه فقال: {ذو العرش المجيد}

ثم قال: {فعال} فنكر بعد التعريف.

القول الثاني: أن المراد من {البينة} مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال: المراد من قوله: {حتى تأتيهم البينة} أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة اللّه تتلوا عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء} وكقوله: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة}.

القول الثالث: وهو قتادة وابن زيد: {البينة} هي القرآن ونظيره قوله: {أو لم * تأتيهم * بينة ما فى الصحف الأولى}

ثم قوله بعد ذلك: {رسول من اللّه} لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير: وتلك البينة وحي: {رسول من اللّه يتلو صحفا مطهرة}.

أما قوله تعالى: {يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة} فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب، وفي: {*المطهرة} وجوه:

أحدها: {مرفوعة مطهرة} عن الباطل وهي كقوله: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقوله: {مرفوعة مطهرة}،

وثانيها: مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء

وثالثها: أن يقال: مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون، كقوله تعالى: {فى كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون}.

واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتا للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله: {كتاب} فيه قولان:

أحدهما: المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف

والثاني: قال صاحب النظم: الكتب قد يكون بمعنى الحكم: {كتب اللّه لاغلبن} ومنه حديث العسيف: "لأقضين بينكما بكتاب اللّه" أي بحكم اللّه فيحتمل أن يكون المراد من قوله: {كتب قيمة} أي أحكام قيمة

أما القيمة ففيها قولان

الأول: قال الزجاج: مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت، وهو كقولهم: قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام

الثاني: أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة، من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه، ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم،

فإن قيل: كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أميا؟

قلنا: إذا تلا مثلا المسطور في تلك الصحف كان تاليا ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا كان من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم.

٤

وأما قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}

ففيه مسائل.

المسألة الأولى: في هذه الآية سؤال، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط، فما السبب فيه؟ وجوابه: من وجوه

أحدها: أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية

وثانيها: أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.

المسألة الثانية: قال الجبائي: هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا: إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة

والجواب: أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم اللّه بذلك وإرادته له حاصل في الأزل،

أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة.

المسألة الثالثة: قالوا: هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال: {إلا من بعد ما جاءتهم البينة}، ثم قال: {أم الكتاب} أي أن اللّه وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى اللّه، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم.

المسألة الرابعة: المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل: {إلا من بعد ما جاءتهم البينة} فهي عادة قديمة لهم.

٥

أما قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه ...}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {وما أمروا}

وجهان:

أحدهما: أن يكون المراد: {وما أمروا} في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله: {وذلك دين القيمة} علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعا في حقهم فهو مشروع في حقنا

وثانيها: أن يكون المراد: وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا بهذه الأشياء، وهذا أولى، لثلاثة أوجه:

أحدها: أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا وحمل كلام اللّه على ما يكون أكثر فائدة أولى

وثانيها: وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله: {حتى تأتيهم البينة} وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم

وثالثها: أنه تعالى ختم الآية بقوله: {وذلك دين القيمة} فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية دينا قيما فوجب أن يكون شرعا في حقنا سواء

قلنا: بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بيانا لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل.

المسألة الثانية: في قوله: {إلا ليعبدوا اللّه} دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلا لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض، فلو فعل اللّه فعلا لكان ناقصا لذاته مستكملا بالغير وهو محال، لأن ذلك الغرض إن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل، وإن كان محدثا افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز، وإن كان قادرا عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثا، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل.

ثم قال الفراء: العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيرا، من ذلك قوله تعالى: {يريد اللّه ليبين لكم * يريدون ليطفئوا} وقال في الأمر: {وأمرنا لنسلم} وهي في قراءة عبد اللّه: {وما أمروا إلا * ءان * عبد اللّه} فثبت أن المراد: وما أمروا إلا أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين.

والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوبا،

ثم قالت الشافعية: الوضوء مأمور به في قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى} ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا،

وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال اللّه وأحكامه بالأغراض، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية: وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا اللّه، والإستدلال على هذا القول أيضا قوي، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين في ذلك الشيء، وهذا أيضا يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات.

فإن قيل: النظر في معرفة اللّه مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه. لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه.

قلنا: هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة.

المسألة الثالثة: قوله: {أمروا} مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو: {كتب عليكم الصيام} {كتب عليكم القصاص} قالوا:

فيه وجوه

أحدها: كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك، ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال: {كتب ربكم على نفسه الرحمة}، {كتب فى قلوبهم الإيمان} وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملا يقول له أولا: ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمرهصريحا، لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته، فههنا أيضا لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد

وثانيها: أنا على القول بالحسن والقبح العقليين، نقول: كأنه تعالى يقول: لست أنا الآمر للعبادة فقط، بل عقلك أيضا يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك (أن) نهاية الإنعام واجبة في العقول.

المسألة الرابعة: اللام في قوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه} تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو رب، فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة.

وجبت لمحض العبودية، وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد اللّه للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة، ونعم ما قيل: من آثر العرفان للعرفان فقد قال: بالثائي ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول.

المسألة الخامسة: العبادة هي التذلل، ومنه طريق معبد، أي مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسما لكل طاعة اللّه، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية، والقعلية، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم، ثم نقول: لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين

أحدهما: غاية التعظيم، ولذلك

قلنا: إن صلاة الصبي، ليست بعبادة، لأنه لا يعرف عظمة اللّه، فلا يكون فعله في غاية التعظيم

والثاني: أن يكون مأمورا به، ففعل اليهودي ليس بعبادة، وإن تضمن نهاية التعظيم، لأنه غير مأمور به، والنكتة الوعظية فيه، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم؟.

المسألة السادسة: الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، والنكت والوعظية

فيه من وجوه

أحدها: كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك، بل بذلت لك البعض، فأطلب منك البعض نصفا من العشرين، وشاة من الأربعين، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك، فلا ترد بطاعتك سواي، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلا من أن تستثنيه لغيرك، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص،

وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان

وثانيها: كأنه تعالى قال: يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة، فإذا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن، فكأنه تعالى بفضله قال: الملك لا يخدم الملك لكن (لكي) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك: {هو الذى خلق لكم فى الارض جميعا} فاجعل أنت أيضا جميع ما تفعله لأجلي: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين}.

واعلم أن قوله: {مخلصين} نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص منابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل لوجههمخلصا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا وإن كان لا بد من ذلك، وفي التوراة: ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل.

وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت إثنتين واحدة للّه وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك، وإن زدت في الخشوع، لأن الناس يرونه لم يجز، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص؟ وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله: {مخلصين} قال بعضهم: مقرين له بالعبادة،

وقال آخرون: قاصدين بقلوبهم رضا اللّه في العبادة، وقال الزجاج: أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا}.

أما قوله تعالى: {حنفاء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكواة}

ففيه أقوال:

الأول: قال مجاهد: متبعين دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم، وهو إبراهيم ومن معه، فقال: {قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه} فكأنه تعالى قال: إن كنت تقلد أحدا في دينك، فكن مقلدا إبراهيم، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران، ومن ماحين بذله للضيفان، ومن ولده حين بذله للقربان، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه، ولم ير شخصا فاستعاده، فقال:

أما بغير أجر فلا، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام، وقال: حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك، فإن القائل: كنت أنا، بل انقطع إلى اللّه حتى عن جبريل حين قال:

أما إليك فلا، فالحق سبحانه كأنه يقول: إن كنت عابدا فاعبد كعبادته، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين،

أما تترك الحرام وموافقة الشياطين، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم، فاجتهد في متابعة ولده الصبي، كيف إنقاد لحكم ربه مع صفره، فمد عنقه لحكم الرؤبا، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل، وهو أم الذبيح، كيف تجرعت تلك الغصة، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث، والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل، ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف، لا يكلمها ولا يعطف عليها، قالت آللّه أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه نعم، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.

والقول الثاني: المراد من قوله: {حنفاء} أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولنا: للأعمى بصير وللمهلكة مفازة، ونظيره قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا} {اهدنا الصراط المستقيم}.

والقول الثالث: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما حجاجا، وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال: {حنفاء} وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال

الرابع: قال أبو قلابة الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا

الخامس: حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين، قال عليه السلام: "بعثن بالحنيفية السهلة السمحة"

السادس: قال قتادة: هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم، فقوله: {حنفاء} إشارة إلى النفي، ثم أردفه بالإثبات، وهو قوله: {ويقيموا الصلواة}

السابع: قال أبو مسلم: أصله من الحنف في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن أخوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن: قال الربيع بن أنيس: الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا،

وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة،

ثم قال: {وذلك دين القيمة}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال المبرد والزجاج: ذلك دين الملة القيمة، فالقيمة نعت لموصوف محذوف، والمراد من القيمة

أما المستقيمة أو القائمة، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله: {كتب قيمة} وقال الفراء: هذا من إضافة النعت إلى المنعوت، كقوله: {إن هذا لهو حق اليقين} والهاء للمبالغة كما في قوله: {كتب قيمة}.

المسألة الثانية: في هذه الآية لطائف إحداها: أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معا، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما اتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع، وهم المرجثة الذين قالوا: لا يضر الذنب مع الإيمان، واللّه تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله: {مخلصين} ومن العمل في قوله: {ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكواة} ثم قال: وذلك المجموع كله هو {دين القيمة} أي البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك،

ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول: القائم بتحصيل مصالحك عاجلا وآجلا هو هذا المجموع، ونظيره قوله تعالى: {دينا قيما} وقوله في القرآن: {قيما لينذر بأسا شديدا} لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق، ويؤيده قوله عليه السلام: "من كان في عمل اللّه كان اللّه في عمله" وأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام: "يا دنيا من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه"،

وثانيها: أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح، لخالقهم فالإحسان من اللّه لا من الملائكة، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من اللّه، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول اللّه مباهيا بهم: ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين؛ أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرينفتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة،فلهذا قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم} أفلا يكون هذا الدين قيما

وثالثها: أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للذين كالعلم والزكاة كالقدرة، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة

ورابعها: وهو فائدة الترتيب أن الحكم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء، وهو القول والاعتقاد فقال: {مخلصين} ثم لما أجابوه زاده، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال: "لا زكاة في مال يحول عليه الحول" ثم لما ذكر الكل قال: {وذلك دين القيمة}.

المسألة الثالثة: احتج من قال: الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية، فقال: مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فادا مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة.

ثم قال: {وذلك دين القيمة} أي وذلك المذكور هو دين القيمة

وإنما قلنا: إن الدين هو ازسلام لقوله تعالى: {إن الدين عند اللّه الإسلام}

وإنما قلنا: إن الإسلام هو الإيمان لوجهين

الأول: أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند اللّه تعالى لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند اللّه، فهو إذا عين الإسلام

والثاني: قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها * غير بيت من المسلمين} فاستثناء المسلم من المؤمن، يدل على أن الإسلام يصدق عليه، وإذا ثبتت هذه المقدمات، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان، وحينئذ يبطل قول من قال: الإيمان اسم لمجرد المعرفة، أو المجرد الإقرار أولهما معا

والجواب: لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله: {وذلك} إلى الإخلاص فقط؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار، فتقولون: المراد وذلك المذكور، ولا شك أن عدم الإضمار أولى، سلمنا أن قوله: {وذلك} إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم، فلم قلتم: إن ذلك المجموع هو الدين، وذلك لأن الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلا، وكانت آثاره ونتائجهة معه حاصلة أيضا، وهي الصلاة والزكاة، وإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلا، لكن لم قلتم: إن أصل الدين لا يكون حاصلا والنزاع ما وقع إلا فيه؟ واللّه أعلم.

٦

قوله تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولا في قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} ثم ذكر ثانيا حال المؤمنين في قوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه} أعاد في آخر هذه السورةذكر كلا الفريقين، فبدأ أيضا بحال الكفار، فقال: {إن الذين كفروا} واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين

أحدهما: الخلود في نار جهنم

والثاني: أنهم شر الخلق، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر؟

الجواب: من وجوه

أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقدم حق اللّه سبحانه على حق نفسه، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال: "اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: "اللّهم املأ بطونهم وقبورهم نارا" فكأنه عليه السلام قال: كانت الضربة ثم على وجه الصورة، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حق نفسي، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر.

إذا عرفت ذلك فنقول: أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في اللّه بل في الرسول،

وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في اللّه، فلما أراد اللّه تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولا في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، ثم ثانياف بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون

وثانيها: أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم، لأن المشركين رأوه صغيرا ونشأ فيهما بينهم، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم، وهذا أمر شاق،

أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد.

السؤال الثاني: لم ذكر: {كفروا} بلفظ الفعل: {والمشركين} باسم الفاعل؟

والجواب: تنبيها على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، ومقرين بمبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة.

السؤال الثالث: أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرونالقيامة،

أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب؟

والجواب: يقال: بئر جهنام إذا كان بعيد القعر، فكأنه تعالى يقول تكبروا طلبا للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين، ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك، وهذا القسم الثاني هو أقبح القمسين والإحسان أيضا على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك، وإحسان إلى من أساء إليك، وهذا أحسن القسمين، فكان إحسان اللّه إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءةومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية، فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط، وبالزنا رجم، وبالقتل قصاص، بل شتم المماثل يوجب التعزير، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات، وهو نارجهنم، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة،

ثم كأنه قال قائل: هب أنه ليس هناك رجاء الفرار، فهل هناك رجاء الإخراج؟ فقال: لا بل يبقون خالدين فيها، ثم كأنه قيل: فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم؟ فقال: لا بل يذمونهم، ويلعنونهم لأنهم شر البرية.

السؤال الرابع: ما السبب في أنه لم يقل: ههنا خالدين فيها أبدا، وقال في صفة أهل الثواب: {خالدين فيها أبدا}؟

والجواب: من وجوه

أحدها: التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه

وثانيها: أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل،

أما الثواب فأقسامه لا تتداخل

وثالثها: روى حكاية عن اللّه أنه قال: يا داود حببني إلى خلقي، قال: وكيف أفعل ذلك؟ قال: اذكر لهم سعة رحمتي، فكان هذا من هذا الباب.

السؤال الخامس: كيف القراءة في لفظ البرية؟

الجواب: قرأ نافع البريئة بالهمز، وقرأ: الباقون بغير همز وهو من برأ اللّه الخلق، والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه، كالنبي والذرية والخابية، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال، كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود، وإن كان الهمز هو الأصل، لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك.

وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال: إنه من البرأ الذي هو التراب.

السؤال السادس: ما الفائدة في قوله: هم شر البرية؟

الجواب: أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها، شر من السراق، لأنهم سرقوا من كتاب اللّه، صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وشر من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، وشر من الجهال الأجلاف، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح.

واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد.

السؤال السابع: هذه الآية هل هي مجراة على عمومها؟

الجواب: لا بل هي مخصوصة بصورتين

إحداهما: أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد

والثانية: قال بعضهم: لا يجوز أن يدخل في الآية من مضي من الكفار، لأن فرعون كان شرا منهم، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر، لأنهم أفضل الأمم.

٧

قوله تعالى: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه

أحدها: أن الوعيد كالدواء، والوعد كالغذاء، ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقيا انتفع بالغذاء، فإن البدن غير النقي كلما عذوته زدته شرا، هكذا قاله بقراط في كتاب الفصول

وثانيها: أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحا للمدارس والخف،

أما قبله فلا، ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى اللّه، فإذا نال الدنيا أعرض، على ما قال: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}

وثالثها: أن فيه بشارة، كأنه تعالى يقول: لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير، ألست كنت نجسا فيمكان نجس، ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهرا، أفلا أخرجك إلى الجنة طاهرا!.

المسألة الثانية: احتج من قال: إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه.

المسألة الثالثة: قال: {إن الذين ءامنوا} ولم يقل: إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده، وبذلوا الأموال والمهج لأجله، ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال: {لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} ولفظة: {ءامنوا} أي فعلوا الإيمان مرة.

واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية، وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب، والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب، فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك.

المسألة الرابعة: قوله: {وعملوا الصالحات} من مقابلة الجمع بالجمع، فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ.

المسألة الخامسة: احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك، قالوا: روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: "أتعجبون من منزلة الملائكة من اللّه تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند اللّه يوم القيامة أعظم من ذلك، واقرؤا إن شئتم: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية".

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه:

أحدها: ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه البتة

وثانيها: أن قوله: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك

وثالثها: أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل، قالوا: وذلك لأن الفضيلة

أما مكتسبة أو موهوبة، فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون، ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين، وأيضا فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض، ثم هم العلماء ونحن المتعلمون، ثم أنظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب، ومن ذلك فإن اللّه تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال: {ومن يقل منهم إنى إله من دونه} أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية، وأنت أبدا عبد البطن والفرج،

وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} ومرة: {لا يسئمون} وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة.

٨

قوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن}.

اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف

في مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقا من المحن والآفات، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيا لا للفراق ولكن مشتكيا من وحشة الحبس ليرحم، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم،

ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم،

ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف، ثم إن المكلف يصير كالمتحير، يقول: من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جنايةا فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل، فوجده عالما لا يشبه العالمين، وقادرا لا يشبه القادرين، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة، فترك الشكاية وأقبل على الشكر،

ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة، فجعل قلبه مسكنا لسطان عرفانه، فكأن الحق قال: عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد: يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل.

أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول اللّه: عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن * تجرى من تحتها الانهار} بل كأن الكريم الرحيم يقول: عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.

المسألة الثانية: الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين

أحدهما: أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص

والثاني: أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا، على ما قال: {ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم}.

المسألة الثانية: قال: {جزآؤهم} فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله: {الذى أحلنا دار المقامة من فضله}

والجواب: أما أهل السنة فإنهم يقولون: إنه لو قال الملك الكريم: من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله: {جزآؤهم} يكفي في صدقه هذا المعنى

وأما المعتزلة فإنهم قالوا: في قوله تعالى: {الذى أحلنا دار المقامة من فضله} إن كلمة من لابتداء الغاية فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة.

فإن قيل: فإذا كان لا حقلأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام؟

قلنا: أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف؟ أو عن إنعامه في غد القيامة؟ فإن سألت عن الأمسى فكأنه يقول: أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما روى: "الخلق عيال اللّه"

وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع. فالرحمن أولى.

وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.

المسألة الرابعة: في قوله: {عند ربهم}

لطائف:

أحدها: قال بعض الفقهاء: لو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا، إذا عرفت هذا فقوله: {عند ربهم} يفيد أنه وديعة والوديعة عين، ولو قال: لفلان على فهو إقرار بالدين، والعين أشرف من الدين فقوله: {عند ربهم} يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد،

فإن قيل: الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون،

قلنا: المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق اللّه تعالى محال، فلا جرم

قلنا: الوديعة هناك خير من المضمون.

وثانيها: إذا وقعت الفتنة في البلدة، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله: {جزاؤهم عند ربهم} حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.

وثالثها: أنه قال: {عند ربهم} وفيه بشارة عظيمة، كأنه تعالى يقول: أنا الذي ربيتك أولا حين كنت معدوما صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقا أعطيتك هذه الأشياء، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئا وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها، كلا إن هذا مما لا يكون.

المسألة الخامسة: قوله: {جزاؤهم عند ربهم جنات}

فيه قولان:

أحدهما: أنه قابل الجمع بالجمع، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما دارا على حدة، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين، ودليل

القول الأول: {جعلوا أصابعهم فى ءاذانهم واستغشوا ثيابهم} فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعا، ويدل عليه قوله تعالى: {وملكا كبيرا}ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات، كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن، لأنه قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}

ثم قال: {ومن دونهما جنتان} فذكر أربعا للواحد، والسبب فيه أنه بكى من خوف اللّه، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان إثنان دون الإثنين، فاستحق جنتين دون الجنتين، فحصلت له أربع جنات، لسكبه البكاء من أربعة أجفان،

ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله: {ذلك لمن خشى ربه} وفيه إشارة إلى أنه لا بد من دوام الخوف،

 أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال،

وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة.

المسألة السادسة: قوله: {عدن} يفيد الإقامة: {لا يخرجون منها} {وما هم منها بمخرجين} {لا يبغون عنها حولا} يقال: عدن بالمكان أقام، وروى أن جنات عدن وسط الجنة،

وقيل: عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة، قال بعضهم: إنها سميت جنة

أما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال: إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع. مثل حركة الجن، مع أنها دار إقامة وعدن،

وأما من الجنون فهو أن الجنة، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون، لولا أن اللّه بفضله يثبته،

وأما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار، أو من الجنين، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر {لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا}.

المسألة السابعة: قوله: {تجرى} إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري، يزيد نورا في البصر بل كأنه تعالى قال: طاعتك كانت جارية ما دمت حيا على ما قال: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد، ثم قال: من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص، وذلك لأن التنغيص في البستان،

أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم،

وأما بسبب الغرق والكثرة، فذكر من تحتها، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء، فلا تسمى الساقية نهرا، بل العظيم هو الذي يسمى نهرا بدليل قوله: {وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الانهار} فعطف ذلك على البحر.

المسألة الثامنة: اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولا والرضا ثانيا، وروى أنه عليه السلام قال: "إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا اللّه خير من الجنة.

أما الصفة الأولى: وهي الخلود، فاعلم أن اللّه وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل.

وأما الصفة الثانية: وهي الرضا، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا اللّه، ثم إنه قدم رضى اللّه عنهم على قوله:{ورضوا عنه} لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث، والمحدث لا يؤثر في الآزلي.

المسألة التاسعة: إنما قال: {رضى اللّه عنهم} ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ اللّه، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام، فلو قال: رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل،

أما لفظ اللّه فيفيد غاية الجلالة والهيبة، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة، فقوله: {رضى اللّه عنهم} يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة.

المسألة العاشرة: اختلفوا في قوله: {رضى اللّه عنهم} فقال بعضهم: معناه رضي أعمالهم، وقال بعضهم: المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم، قال: لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله، وهذا هو الأقرب،

وأما قوله: {ورضوا عنه} فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب.

أما قوله تعالى: {ذلك لمن خشى ربه}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى: {والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة} ولعل الخشية أشد من الخوف، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال: {هم من خشية ربهم مشفقون} والكلام في الخوف والخشية مشهور.

المسألة الثانية: هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلا على فضل العلم والعلماء، وذلك لأنه تعالى قال: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية، وهذه الآية وهي قوله: {ذلك لمن خشى ربه} تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء.

المسألة الثالثة: قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمنا بأن يعلم أنه من أهل الجنة، وجعل هذع الآية دالة عليه.

وهذا المذهب غير قوي، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية للّه تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أعرفكم باللّه أخوفكم من اللّه، وأنا أخوفكم منه" واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

وصلى اللّه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

﴿ ٠