سُورَةُ تَبَّتْ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ خَمْسُ آياَتٍ

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة المسد

خمس آيات مكية بالاتفاق  اعلم أنه تعالى قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ثم بين في سورة: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} أن محمدا عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد، فكأنه قيل: إلهنا ما ثواب المطيع، وما عقاب العاصي؟ فقال: ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، كما دل عليه سورة: {إذا جاء نصر اللّه}

وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى، كما دلت عليه سورة: {تبت} ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام: {وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات} فكأنه قيل: إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز، فما السبب في هذا التفاوت؟ فقال: {ليبلوكم * فيما *ءاتاكم} فكأنه قيل: إلهنا فإذا كان العبد مذنبا عاصيا فكيف حاله؟ فقال: في

الجواب: {إن ربك سريع العقاب} وإن كان مطيعا منقادا كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفورا لسيئاته في الدنيا رحيما كريما في الآخرة،

وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها

أحدها: قال ابن عباس: كان رسول اللّه يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الاقربين} فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟

ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟

ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة، فقال أبو لهب: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ ثم قال: يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة، فقال أبو لهب: هذه مرة قد أتتك فما عندك؟ ثم قال يا آل كلاب، ثم قال بعده: يا آل قصي، فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فيما عندك؟ فقال: إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون، اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه فأشهد بها لكم عند ربكم فقال أبو لهب عند ذلك: تبا لك ألهذا دعوتنا، فنزلت السورة

وثانيها: روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم

أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة

وثالثها: أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل كل الشاة، فقال: كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير،

ثم قالوا: فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال، وروى أنه قال أبو لهب: فمالي إن أسلمت فقال: ما للمسلمين، فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام بماذا تفضلا فقال: تبا لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري

ورابعها: كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا: أنت أعلم به فيقول لهم: إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا: لا ننصرف حتى نراه فقال: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا، فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك فحزن ونزلت السورة.

قوله تعالى: {تبت يدا أبى لهب}

اعلم أن قوله: {تبت} فيه أقاويل

أحدها: التباب الهلاك، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم، ونظيره قوله تعالى: {وما كيد فرعون إلا فى تباب} أي في هلاك، والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال: هلكت وأهلكت،

ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك، فدل على أنه كان صادقا في ذلك، ولا شك أن العمل

أما أن يكون داخلا في الإيمان، أو إن كان داخلا لكنه أضعف أجزائه، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل، وحصل وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك، فلهذا قال: {تبت}

وثانيها: تبت خسرت، والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى: {وما زادوهم غير تتبيب} أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر: غير تخسير

وثالثها: تبت خابت، قال ابن عباس: لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله: إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك، فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه، ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه، فيقول: انصرف راشدا فإنه مجنون، فإن المعتاد أن من يصرف إنسانا عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع

ورابعها: عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه

وخامسها: عن ابن وثاب؛ صفرت يداه على كل خير، وإن قيل: ما فائدة ذكر اليد؟

قلنا: فيه وجوه

أحدها: ما يرى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول اللّه، روى عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في السوق يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللّه تفلحوا، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه، لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا، فقالوا: محمد وعمه أبو لهب

وثانيها: المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى: {ذالك بما قدمت يداك} ومنه قولهم: يداك أو كتا، وقوله تعالى: {مما عملت أيدينا} وهذا التأويل متأكد بقوله: {وتب}

وثالثها: تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه، أو لأن بأحدى اليدين تجر المنفعة، وباوخرى تدفع المضرة، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة

ورابعها: روى أنه عليه السلام لما دعاه نهارا فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا فجلس النبي عليهالسلام أمامه كالمحتاج، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت، فقال: لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي: من أنا؟ فقال رسول اللّه: وأطلق لسانه يثني عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر، فقال الجدي: بل تبا لك، فنزلت السورة على وفق ذلك: {تبت يدا أبى لهب} لتمزيقه يدي الجدي

وخامسها: قال محمد بن إسحق: يروى أن أبا لهب كان يقول: يعدني محمد أشياء، لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا، ثم ينفخ في يديه ويقول: تبا لكما ما آرى فيكما شيئا، فنزلت السورة.

أما قوله تعالى: {وتب} ففيه وجوه

أحدها: أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب

وثانيها: كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر اللّه تعالى أنه محروم من الأمرين

وثالثها: {تبت يدا أبى لهب} يعني ماله ومنه يقال: ذات اليد {وتب} هو بنفسه كما يقال: {خسروا أنفسهم وأهليهم} وهو قول أبي مسلم

ورابعها: {تبت يدا أبى لهب} يعني نفسه: {وتب} يعني ولده عتبة على ما روى أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم: عتبة بلغوا محمدا عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى، وروى أنه قال ذلك في وجه رسول اللّه وتفل في وجهه، وكان مبالغا في عداوته، فقال: اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريبا من الصبح، فقال له أصحابه: هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فلسط اللّه عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه، فإن قيل: نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة، وقوله: {وتب} إخبار عن الماضي، فكيف يحمل عليه؟

قلنا: لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك

وخامسها: {تبت يدا أبى لهب} حيث لم يعرف حق ربه {وتب} حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضا فالتكنية من باب التعظيم؟

والجواب: عن الأول أن التكنية قد تكون اسما، ويؤيذه قراءة من قرأ تبت يدا أبو لهب كما يقال: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم،

وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه

أحدها: أنه لما كان اسما خرج عن إفادة التعظيم

والثاني: أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته

والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته، فكان جديرا بأن يذكر بها، ويقال أبو لهب: كما يقال: أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير

الرابع: كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به واحتقارا له.

السؤال الثاني: أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم، فكيف يليق به أنيشافه عمه بهذا التغليظ الشديد، وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق، وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله: يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد، ولما قال له: {لارجمنك واهجرنى مليا} قال: {سلام عليك سأستغفر لك ربي}

وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون: {فقولا له قولا لينا} مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب، كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصا ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره

والجواب: من وجوه

أحدها: أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه، لأنه كان كالأب له، فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة، فصار بسبب تلك العداوة متهما في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك

وثانيها: أن الحكمة في ذلك، أن محمدا لو كان يداهن أحدا في الدين ويسامحه فيه، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيهفلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحدا في شيء يتعلق بالدين أصلا

وثالثها: أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض، فإن كونه عما يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة، لا جرم استحق التغليظ العظيم.

السؤال الثالث: ما السبب في أنه لم يقل قل:

_________________________________ 

١

{تبت يدا أبى لهب وتب} وقال في سورة الكافرون: {قل ياأهل * أيها * الكافرون}؟

الجواب: من وجوه

الأول: لأن قرابة العمومة تقتضي رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له: قل ذلك لئلا يكون مشافها لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماما له

الثاني: أن الكفار في تلك السورة طعنوا في اللّه فقال اللّه تعالى: يا محمد أجب عنهم: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} وفي هذه السورة طعنوا في محمد، فقال اللّه تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم: {تبت يدا أبى لهب}

الثالث: لما شتموك، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك، يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول، فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ قال: لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.

واعلم أن هذا تنبيه من اللّه تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان اللّه ذابا عنه وناصرا له ومعينا.

السؤال الرابع: ما الوجه في قراءة عبد اللّه بن كثير المكي حيث كان يقرأ: {أبى لهب} ساكنة الهاء؟

الجواب: قال أبو علي: يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر، وأجمعوا في قوله: {سيصلى نارا ذات لهب} على فتح الهاء، وكذا قوله: {ولا يغنى من اللّهب} وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان، وقال غيره: إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لو فاق الفواصل.

٢

قوله تعالى: {ما أغنى عنه ماله وما كسب}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: ما في قوله: {ما أغنى} يحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفيا، وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحدا كثر مالا من قارون فهل دفع الموت عنه، ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخبارا بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.

المسألة الثانية: ما كسب مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه، يروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، ثم ذكروا في المعنى وجوها:

أحدها: لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح

وثانيها: أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها، ونتاجها، فإنه كان صاحب النعم والنتاج

وثالثها: {ماله} الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه

ورابعها: قال ابن عباس: {ما كسبت} ولده، والدليل عليه قوله عليه السلام: "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" وقال عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وروى أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع: فغضب فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث

وخامسها: قال الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول اللّه

وسادسها: قال قتادة: {وما كسب} أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل} وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: قال ههنا: {ما أغنى عنه ماله وما كسب} وقال في سورة: {واليل إذا يغشى}}وما يغني عنه ماله إذا تردى} فما الفرق؟

الجواب: التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله: {*}وما يغني عنه ماله إذا تردى} فما الفرق؟

الجواب: التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله: {*} فما الفرق؟

الجواب: التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله: {ما أغنى عنى ماليه} وقوله: {أتى أمر اللّه}.

السؤال الثاني: ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا؟

الجواب: قال بعضهم في عداوة الرسول: فلم يغلب عليه، وقال بعضهم: بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال: {سيصلى}.

٣

قوله تعالى: {سيصلى نارا ذات لهب}

وفيه مسائل.

المسألة الأولى: لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه، أخبر عن حاله في المستقبل بأنه: {سيصلى نارا}.

المسألة الثانية: {سيصلى} قرىء بفتح الياء وبضمها مخففا ومشددا.

المسألة الثالثة: هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه

أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسار، وقد كان كذلك

وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وقد كان كذلك.

روى أبو رافعمولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه، وكان أبو لهب يخلف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام، ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلا آخر، فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة، وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم، فكنت جالسا هناك وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه، فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، فقال له أبو لهب: كيف الخبر يا ابن أخي؟ فقال: لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا، وايم اللّه مع ذلك تأملت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: أولئك واللّه الملائكة، فأخذني وضربني على الأرض، ثم برك علي فضربني وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته، وقالت: تستضعفه أن غاب سيده، واللّه نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة، وقد صدق فيما قال: فانصرف ذليلا، فواللّه ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة فقتلته، ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتى أنتين في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون، وقالوا نخشى هذه القرحة، ثم دفنوه وتركوه، فهذا معنى قوله: {ما أغنى عنه ماله وما كسب}

وثالثها: الإخبار بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.

المسألة الرابعة: احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن اللّه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن جملة الإيمان تصديق اللّه في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفا بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضينوهو محال.

وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبرا بأنه آمن، لا بأنه ما آمن، وأجاب القاضي عنه فقال: متى قيل: لو فعل اللّه ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون؟ فجوابنا: أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم.

واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط،

أما الأول: فلأن هذه الآية دالة على أن خبر اللّه عن عدم إيمانه واقع، والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين.

وأما الجواب الثاني: فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم، بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقا، وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية، فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفا بالجمع بين الضدين، وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئا أم بقي ساكتا.

٤

أما قوله تعالى: {وامرأته حمالة الحطب}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء ومريئنه بالتصغير وقرىء حمالة الحطب بالنصب على الشتم، قال صاحب الكشاف: وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل وقرىء بالنصب والتنوين والرفع.

المسألة الثانية: أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية، وكانت في غاية العداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوها:

أحدها: أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول اللّه،

فإن قيل: إنها كانت من بيت العز فكيف يقال: إنها حمالة الحطب؟

قلنا: لعلها كانت مع كثرة مالها خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب، لأجل أن تليقه في طريق رسول اللّه

وثانيها: أنها كانت تمشي بالنميمة يقال: الممشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويقال للمكثار: هو حاطب ليل

وثالثها: قول قتادة: أنها كانت تعير رسول اللّه بالفقر، فعيرت بأنها كانت تحتطب

وثالثها: قول أبي مسلم وسعيد بن جبير: أن المراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول، لأنه كالحطب في تصيرها إلى النار، ونظيره أنه تعالى شبه فاعل الإثم بمن يمشي وعلى ظهره حمل،

قال تعالى: {فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}

وقال تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم}

وقال تعالى: {وحملها الإنسان}.

المسألة الثالثة: امرأته إن رفعته، ففيه وجهان

أحدهما: العطف على الضمير في سيصلى، أي سيصلي هو وامرأته. وفي جيدها في موضع الحال

والثاني: الرفع على الإبتداء، وفي جيدها الخبر.

المسألة الرابعة: عن أسماء لما نزلت {تبت} جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر، فدخلت المسجد، ورسول اللّه جالس ومعه أبو بكر، وهي تقول:

مذمما قلينا ودينه أبينا وحكمه عصينا فقال أبو بكر: يا رسول اللّه قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك، فقال عليه السلام: "إنها لا تراني" وقرأ:: {وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا} وقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها وفي هذه الحكاية أبحاث:

الأول: كيف جاز في أم جميل أن لا ترى الرسول، وترى أبا بكر والمكان واحد؟

الجواب: أما على قول أصحابنا فالسؤال زائل، لأن عند حصول الشرائط يكون الإدراك جائزا لا واجبا، فإن خلق اللّه الإدراك رأى وإلا فلا،

وأما المعتزلة فذكروا فيه وجوها

أحدها: لعله عليه السلام أعرض وجهه عنها وولاها ظهره، ثم إنها كانت لغاية غضبها لم تفتش، أو لأن اللّه ألقى في قلبها خوفا، فصار ذلك صارفا لها عن النظر

وثانيها: لعل اللّه تعالى ألقى شبه إنسان آخر على الرسول، كما فعل ذلك بعيسى

وثالثها: لعل اللّه تعالى حول شعاع بصرها عن ذلك السمت حتى أنها ما رأته.

واعلم أن الإشكال على الوجوه الثلاثة لازم، لأن بهذه الوجوه عرفنا أنه يمكن أن يكون الشيء حاضر ولا نراه، وإذا جوزنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون عندنا فيلات وبوقات، ولا نراها ولا نسمعها.

البحث الثاني: أن أبا بكر حلف أنه ما هجاك، وهذا من باب المعاريض، لأن القرآن لا يسمى هجوا، ولأنه كلام اللّه لا كلام الرسول، فدلت هذه الحكاية على جواز المعاريض.

بقي من مباحث هذه الآية سؤالان:

السؤال الأول: لم لم يكتف بقوله: {وامرأته} بل وصفها بأنها حمالة الحطب؟

الجواب: قيل: كان له امرأتان سواها فأراد اللّه تعالى أن لا يظن ظان أنه أراد كل من كانت امرأة له، بل ليس المراد إلا هذه الواحدة.

السؤال الثاني: أن ذكر النساء لا يليق بأهل الكرم والمروءة، فكيف يليق ذكرها بكلام اللّه، ولا سيما امرأة العم؟

الجواب: لما لم يستبعد في امرأة نوح وامرأة لوط بسبب كفر تينك المرأتين، فلأن لا يستعبد في امرأة كافرة زوجها رجل كافر أولى.

٥

قوله تعالى: {فى جيدها حبل من مسد} قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل، يقال مسد الحبل يمسده مسدا إذا أجاد فتله، ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق، والمسد ما مسد أي فتل من أي شيء كان، فيقال لما فتل من جلود الإبل، ومن الليف والخوص مسد.

ولما فتل من الحديد أيضا مسد، إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون وجوها

أحدها: في جيدها حبل مما مسد من الحبال لأنها كانت تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون، والمقصود بيان خساستها تشبيها لها بالحطابات إيذاءه لها ولزوجها

وثانيها: أن يكون المعنى أن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار.

فإن قيل: الحبل المتخذ من المسد كيف يبقى أبدا في النار؟

قلنا: كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبدا في النار، ومنهم من قال: ذلك المسد يكون من الحديد، وظن من ظن أن المسد لا يكون من الحديد خطأ، لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد أو من غيره، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، والحمد للّه رب العالمين.

﴿ ٠