سُورَةُ الْإِخْلَاصِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ أَرْبَعُ آياَتٍ تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة الاخلاصأربع آيات مكية _________________________________ ١{قل هو * أحد} قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصول: الفصل الأول: روى أبي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من قرأ سورة قل هو اللّه أحد، فكأنما قرأ ثلث القرآن وأعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك باللّه وأمن باللّه" وقال عليه الصلاة والسلام: "من قرأ قل هو اللّه أحد مرة واحدة أعطى من الأجر كمن آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله وأعطى من الأجر مثل مائة شهيد"، وروى: "أنه كان جبريل عليه السلام مع الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقبل أبو ذر الغفاري، فقال جبريل: هذا أبو ذر قد أقبل، فقال عليه الصلاة والسلام: أو تعرفونه؟ قال: هو أشهر عندنا منه عندكم، فقال عليه الصلاة والسلام: بماذا نال هذه الفضيلة؟ قال لصغره في نفسه وكثرة قراءته قل هو اللّه أحد" وروى أنس قال: "كنا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع وضياء وما رأيناها على تلك الحالة قط قبل ذلك فعجب كلنا، فنزل جبريل وقال: إن اللّه أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك فيصلوا على معاوية بن معاوية، فهل لك أن تصلي عليه ثم ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال وصار الرسول عليه الصلاة والسلام كأنه مشرف عليه فصلى هو وأصحابه عليه، ثم قال: بم بلغ ما بلغ؟ فقال جبريل: كان يحب سورة الإخلاص" وروى: "أنه دخل المسجد فسمع رجلا يدعو ويقول أسألك يا أللّه يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: غفر لك غفر لك غفر لك ثلاث مرات" وعن سهل بن سعد: "جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وشكا إليه الفقر فقال: إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك، واقرأ قل هو اللّه أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأدر اللّه عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه" وعن أنس: "أن رجلا كان يقرأ في جميع صلاته: {قل هو اللّه أحد}فسأله الرسول عن ذلك فقال: يا رسول اللّه إني أحبها، فقال: حبك إياها يدخلك الجنة" وقيل من قرأها في المنام: أعطي التوحيد وقلة العيال وكثرة الذكر للّه، وكان مستجاب الدعوة. الفصل الثاني: في سبب نزولها وفيه وجوه الأول: أنها نزلت بسبب سؤال المشركين، قال الضحاك: إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا: شققت عصانا وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها، فقال عليه الصلاة والسلام: لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول اللّه أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له بين لنا جنس معبودك، أمن ذهب أو فضة، فأنزل اللّه هذه السورة، فقالوا له: ثلثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟ فنزلت: {والصافات} إلى قوله: {إن إلهكم لواحد} فأرسلوه أخرى، وقالوا: بين لنا أفعاله فنزل: {إن ربكم اللّه الذى خلق * السماوات والارض} الثاني: أنها نزلت بسبب سؤال اليهود روى عكرمة عن ابن عباس، أن اليهود جاؤا إلى رسول اللّه ومعهم كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد هذا اللّه خلق الخلق، فمن خلق اللّه؟ فغضب نبي اللّه عليه السلام فنزل جبريل فسكنه، وقال: اخفض جناحك يا محمد، فنزل: {قل هو اللّه أحد} فلما تلاه عليهم قالوا: صف لنا ربك كيف عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب أشد من غضبه الأول، فأتاه جبريل بقوله: {وما قدروا اللّه حق قدره} الثالث: أنها نزلت بسبب سؤال النصارى، روى عطاء عن ابن عباس، قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت: {قل هو اللّه أحد} قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: {اللّه الصمد} فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا فنزل: {لم يلد} كما ولدت مريم: {ولم يولد} كما ولد عيسى: {ولم يكن له كفوا أحد} يريد نظيرا من خلقه. الفصل الثالث: في أساميها، اعلم أن كثرة الألقاب تدل على مزيد الفضيلة، والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها: سورة التفريد وثانيها: سورة التجريد وثالثها: سورة التوحيد ورابعها: سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال، ولأن من اعتقده كان مخلصا في دين اللّه، ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار، ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب وخامسها: سورة النجاة لأنها تنجيك عن التشبيه والكفر في الدنيا، وعن النار في الآخرة وسادسها: سورة الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللّه ولأن من عرف اللّه على هذا الوجه فقد وإله فبعد محنة رحمة كما بعد منحة نعمة وسابعها: سورة النسبة لما روينا أنه ورد جوابا لسؤال من قال: أنسب لنا ربك، ولأنه عليه السلام قال لرجل من بني سليم: "يا أخا بني سليم استوص بنسبة اللّه خيرا" وهو من لطيف المباني، لأنهم لما قالوا: أنسب لنا ربك، فقال: نسبة اللّه هذا والمحافظة على الأنساب من شأن العرب، وكانوا يتشددون على من يزيد في بعض الأنساب أو ينقص، فنسبة اللّه في هذه السورة أولى بالمحافظة عليها وثامنها: سورة المعرفة لأن معرفة اللّه لا تتم إلا بمعرفة هذه السورة، روى جابر أن رجلا صلى فقرأ: قل هو اللّه أحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك وتاسعها: سورة الجمال قال عليه الصلاة والسلام: "إن اللّه جميل يحب الجمال" فسألوه عن ذلكفقال: أحد صمد لم يلد ولم يولد لأنه إذا لم يكن واحدا عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه وعاشرها: سورة المقشقشة، يقال: تقشيش المريض مما به، فمن عرف هذا حصل له البرء من الشرك والنفاق لأن النفاق مرض كما قال: {فى قلوبهم مرض} الحادي عشر: المعوذة، روى أنه عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون فعوذه بها وباللتين بعدها، ثم قال: "نعوذ بهن فما تعوذت بخير منها" والثاني عشر: سورة الصمد لأنها مختصة بذكره تعالى والثالث عشر: سورة الأساس، قال عليه الصلاة والسلام: "أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو اللّه أحد" ومما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السموات والأرض بدليل قوله: {تكاد * السماوات * يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال} فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة هذه الأشياء وقيل السبب فيه معنى قوله تعالى: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} الرابع عشر: سورة المانعة روى ابن عباس أنه تعالى قال: لنبيه حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي، وهي المانعة تمنع عذاب القبر ولفحات النيران الخامس عشر: سورة المحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت السادس عشر: المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها السابع عشر: البراءة لأنه روى أنه عليه السلام رأى رجل يقرأ هذه السورة، فقال: أما هذا فقد برىء من الشرك، وقال عليه السلام: من قرأ سورة قل هو اللّه أحد مائة مرة في صلاة أو في غيرها كتبت له براءة من النار الثامن عشر: سورة المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد فقراءة السورة كالوسمة تذكرك ما تتغافل عنه مما أنت محتاج إليه التاسع عشر: سورة النور قال اللّه تعالى: {اللّه نور * السماوات والارض} فهو المنور للسموات والأرض، والسورة تنور قلبك وقال عليه السلام: "إن لكل شيء نور ونور القرآن قل هو اللّه أحد" ونظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة، فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان العشرون: سورة الأمان قال عليه السلام: "إذا قال العبد لا إله إلا اللّه دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي". الفصل الرابع: في فضائل هذه السورة وهي من وجوه الأول: اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن، ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات، معرفة ذات اللّه ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله، وهذه السورة مشتملة على معرفة الذات، فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن، وأما سورة: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} فهي معادلة لربع القرآن، لأن المقصود من القرآن أما الفعل وأما الترك وكل واحد منهما فهو أما في أفعال القلوب وأما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة، وسورة: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب، فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن، ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني: {قل ياأهل * أيها * الكافرون}، و: {قل هو اللّه أحد} في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان، من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى اللّه تعالى، إلا أن: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} يفيد بلفظه البراءة عما سوى اللّه وملازمة الاشتغال باللّه و: {قل هو اللّه أحد} يفيد بلفظه الاشتغال باللّه وملازمة الإعراض عن غير اللّه أو من حيث إن: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى اللّه، و: {قل هو اللّه أحد} تفيد براءة المعبود عنكل مالا يليق به الوجه الثاني: وهو أن ليلة القدر لكونها صدقا للقرآن كانت خيرا من ألف شهر فالقرآن كله صدف والدر هو قوله: {قل هو اللّه أحد} فلا جرم حصلت لها هذه الفضيلة الوجه الثالث: وهو أن الدليل العقلي دل على أن أعظم درجات العبد أن يكون قلبه مستنيرا بنور جلال اللّه وكبريائه، وذلك لا يحصل إلا من هذه السورة، فكانت هذه السورة أعظم السور، فإن قيل: فصفات اللّه أيضا مذكورة في سائر السور، قلنا: لكن هذه السورة لها خاصية وهي أنها لصغرها في الصورة تبقى محفوظة في القلوب معلومة للعقول فيكون ذكر جلال اللّه حاضرا أبدا بهذا السبب، فلا جرم امتازت عن سائر السور بهذه الفضائل وليرجع الآن إلى التفسير. قوله تعالى: {قل هو اللّه أحد} فيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن معرفة اللّه تعالى جنة حاضرة إذا لجنة أن تنال ما يوافق عقلك وشهوتك، ولذلك لم تكن الجنة جنة لآدم لما نازع عقله هواه، ولا كان القبر سجنا على المؤمن لأنه حصل له هناك ما يلائم عقله وهواه، ثم إن معرفة اللّه تعالى مما يريدها الهوى والعقل، فصارت جنة مطلقة، وبيان ما قلنا: أن العقل يريد أمينا تودع عنده الحسنات، والشهوة تريد غنيا يطلب منه المستلذات، بل العقل كالإنسان الذي له همة عالية فلا ينقاد إلا لمولاه، والهوى كالمنتجع الذي إذا سمع حضور غني، فإنه ينشط للانتجاع إليه، بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له النعم الماضية والهوى يطلبها ليطمع منه في النعم المتربصة، فلما عرفاه كما أراده عالما وغنيا تعلقا بذيله، فقال العقل: لا أشكر أحدا سواك، وقالت الشهوة: لا أسأل أحدا إلا إياك، ثم جاءت الشبهة فقالت: يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلا؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا بابا آخر؟ فبقي العقل متحيرا وتنغصت عليه تلك الراحة، فأراد أن يسافر في عالم الاستدلال ليفوز بجوهرة اليقين فكأن الحق سبحانه قال: كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري، فبعث اللّه رسوله وقال: لا تقله من عند نفسك، بل قل هو الذي عرفته صادقا يقول لي: {قل هو اللّه أحد} فعرفك الوحدانية بالسمع وكفاك مؤنة النظر والاستدلال بالعقل، وتحقيقه أن المطالب على ثلاثة أقسام قسم منها لا يمكن الوصول إليه بالسمع وهو كل ما تتوقف صحة السمع على صحته كالعلم بذات اللّه تعالى وعلمه وقدرته وصحة المعجزات، وقسم منها لا يمكن الوصول إليه إلا بالسمع وهو وقوع كل ما علم بالعقل والسمع معا، وهو كالعلم بأنه واحد وبأنه مرئي إلى غيرهما، وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله تعالى: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا}. المسألة الثانية: اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في سورة: {قل ياأهل * أيها * الكافرون} من قل وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل في سورة: {تبت} وأما في هذه السورة فقد اختلفوا، فالقراءة المشهورة: {قل هو اللّه أحد} وقرأ: أبي وابن مسعود. بغير قل هكذا: {هو اللّه أحد} وقرأ: النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بدون قل هو هكذا: {اللّه أحد * اللّه الصمد} فمن أثبت قل قال: السبب فيه بيان أن النظم ليس في مقدوره، بل يحكي كل ما يقال له، ومن حذفه قال: لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوما للنبي عليه الصلاة والسلام. المسألة الثالثة: اعلم أن في إعراب هذه الآية وجوها أحدها: أن هو كناية عن اسم اللّه، فيكون قوله: اللّه مرتفعا بأنه خبر مبتدأ، ويجوز في قوله: {أحد} ما يجوز في قولك: زيد أخوك قائم الثاني: أنهو كناية عن الشأن، وعلى هذا التقرير يكون اللّه مرتفعا بالابتداء وأحد خبره، والجملة تكون خبرا عن هو، والتقدير الشأن والحديث: هو أن اللّه أحد، ونظيره قوله: {فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا} إلا أن هي جاءت على التأنيث، لأن في التفسير: اسما مؤنثا، وعلى هذا جاء: {فإنها لا * لاولى الابصار} أما إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة، كقوله: {إنه من يأت ربه مجرما} والثالث: قال الزجاج: تقدير هذه الآية أن هذا الذي سألتم عنه هو اللّه أحد. المسألة الرابعة: في أحد وجهان أحدهما: أنه بمعنى واحد، قال الخليل: يجوز أن يقال: أحد إثنان وأصل أحد وحد إلا أنه قلبت الواو همزة للخفيف وأكثر ما يفعلون هذا بالواو المضمومة، والمكسورة كقولهم: وجوه وأجوه وسادة وأسادة والقول الثاني: أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين قال إلهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير اللّه تعالى لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحدكما يقال: رجل واحد أي فرد به بل أحد صفة من صفات اللّه تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء. ثم ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوها أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه وثانيها: أنك إذا قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقال: لكنه يقاومه إثنان بخلاف الأحد، فإنك لو قلت: فلان لا يقاومع أحد لا يجوز أن يقال: لكنه يقاومه إثنان وثالثها: أن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي، تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا وتقول في النفي: ما رأيت أحدا فيفيد العموم. المسألة الخامسة: اختلف القراء في قوله: {أحد * اللّه الصمد} فقراءة العامة بالتنوين وتحريكه بالكسر هكذا أحدن اللّه، وهو القياس الذي لا إشكال فيهوذلك لأن التنوين من أحد ساكن ولام المعرفة من اللّه ساكنة، ولما التقى ساكنان حرك الأول منهما بالكسر، وعن أبي عمرو، أحد اللّه بغير تنوين، وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن فلما شابهتها أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو والياء لذلك نحو غزا القوم ويغزو القوم، ويرمي القوم، ولهذا حذفت النون الساكنة في الفعل نحو: {لم يك} {ولا تك فى * مرية} فكذا ههنا حذفت في أحد اللّه لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف. وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله: {عزير ابن اللّه} وروى أيضا عن أبي عمرو: {أحد * اللّه} وقال: أدركت القراء يقرؤونها كذلك وصلا على السكون، قال أبو علي: قد تجري الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف وعلى هذا قال من قال: {فأضلونا السبيلا * ربنا} {وما أدراك * صبيا * قال إنى عبد اللّه} لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه وكثرته في ألسنتهم، وقرأ: الأعمش: {قل هو اللّه * الواحد} فإن قيل: لماذا؟ قيل: أحد على النكرة، قال الماوردي: فيه وجهان أحدهما: حذف لام التعريف على نية إضمارها والتقدير قل: هو اللّه الأحد والثاني: أن المراد هو التنكير على سبيل التعظيم. المسألة السادس: اعلم أن قوله: {هو اللّه أحد} ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول: مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى اللّه وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى اللّه لأن الحق هو الذي لذاتهيجب وجوده، وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوما، فهؤلاء لم يروا موجودا سوى الحق سبحانه، وقوله: {هو} إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين، فلا جرم كان قولنا: هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز، لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان، وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط، فلهذا السبب كانت لفظة: {هو} كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء، المقام الثاني: وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول، وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الخلق أيضا موجودا، فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق، بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق: فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو، فقيل: لأجلهم هو اللّه، لأن اللّه هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه، ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث: وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها، وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم ردا على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل: {قل هو اللّه أحد}. وههنا بحث آخر: أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات اللّه تعالى أما أن تكون إضافية وأما أن تكون سلبية، أما الإضافية فكقولنا: عالم، قادر مربد خلاق، وأما السلبية فكقولنا: ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانيا على النوع الثاني منها، وقولنا: اللّه يدل على مجامع الصفات الإضافية، وقولنا: أحد يدل على مجامع الصفات السلبية، فكان قولنا: {اللّه أحد} تاما في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشريةوإنما قلنا: إن لفظ اللّه يدل على مجامع الصفات الإضافية، وذلك لأن اللّه هو الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبدا بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وهذه مجامع الصفات الإضافة، وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية، وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب، وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل مركب فهو ممكن لذاته، فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكنا، فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية، وجب أن لا يكون متحيزا لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، فالأحد يستحيل أن يكون متحيزا، وإذا لم يكن متحيزا لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالا في شيء، لأنه مع محله لا يكون أحدا، ولا يكون محلا لشيء، لأنه مع حاله لا يكون أحدا، وإذا لم يكن حالاف ولا محلا لم يكن متغيرا البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة، وأيضا إذا كان أحدا وجب أن يكون واحدا إذ لو فرض موجودان واجبا الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب، فثبت أن كونه أحدا يستلزم كونه واحدا فإن قيل: كيف يعقل كون الشيء أحدا، فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب: أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية، فقد لاح بما ذكرنا أن قوله: {اللّه أحد} كلام متضمن لجميع صفات اللّه تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله: {وإلهكم إله واحد}. ٢قوله تعالى: {اللّه الصمد} فيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في تفسير: {الصمد} وجهين الأول: أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج، قال الشاعر: ( ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد ) وقال أيضا: ( علوته بحسامي ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد ) والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس: "أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ما الصمد؟ قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج" وقال الليث: صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده و القول الثاني: أن الصمد هو الذي لا جوف له، ومنه يقال: لسداد القارورة الصماد، وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة، وقال قتادة: وعلى هذا التفسير: الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت، وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء، واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي جسما فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى اللّه عن ذلك، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته، فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية. وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه، بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيدا مرجوعا إليه في دفع الحاجات، وهو إشارة إلى الصفات الإضافية، وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعا للوجهين. أما النوع الأول: فذكروا فيه وجوها: الأول: الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيدا مرجوعا إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك الثاني: الصمد هو الحليم لأن كونه سيدا يقتضي الحلم والكرم الثالث: وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده الرابع: قال الأصم: الصمد هو الخالق للأشياء، وذلك لأن كونه سيدا يقتضي ذلك الخامس: قال السدي: الصمد هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب السادس: قال الحسين بن الفضل البجلي: الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه السابع: أنه السيد المعظم الثامن: أنهرضي اللّه تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس: كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر اللّه التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء اللّه تعالى الجواب الثاني: ما قلناه: إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة: {فكيف كان عذابى ونذر} أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} (لقمان: ٢٧) فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: ١٦)، الثالث: إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن الخطاب مع الجن والإنس، والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود، لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وأتم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام، فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقريروالمرة الأولى لبيان فائدة الكلام، وهذا منقول وهو ضعيف، لأن اللّه تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة، وما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة الرابع: هو أن أبواب النار سبعة واللّه تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار، من قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان}، إلى قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم ءان} (الرحمان: ٣١ ـ ٤٤) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمان: ٤٦) ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها وإذا كان الصمد مفسرا بالمصمود إليه في الحوائج، أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود عكذا سوى اللّه تعالى، فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد، فقوله: {اللّه أحد} إشارة إلى كونه واحدا، بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه، وقوله: {اللّه الصمد} إشارة إلى كونه واحدا، بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد. وبقي في الآية سؤالان: السؤال الأول: لم جاء أحد منكرا، وجاء الصمد معرفا؟ الجواب: الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس، وثبت أن كل محسوس فهو منقسم، فإذا مالا يكون منقسما لا يكون خاطرا بيان أكثر الخلق، وأما الصمد فهو الذي يكون مصمودا إليه في الحوائج، وهذا كان معلوما للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن اللّه} وإذا كانت الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق، وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق، لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف. السؤال الثاني: ما الفائدة في تكرير لفظة اللّه في قوله: {اللّه أحد * اللّه الصمد}؟ الجواب: لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا، أما نكرتين أو معرفتين، وقد بينا أن ذلك غير جائز، فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكرا ولفظ الصمد معرفا. ٣{لم يلد ولم يولد}. قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد} فيه سؤالات: السؤال الأول: لم قدم قوله: {لم يلد} على قوله: {ولم يولد} مع أن في الشاهد يكون أولا مولودا، ثم يكون والدا؟ الجواب: إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد، لأنهم ادعوا أن له ولدا، وذلك لأن مشركي العرب قالوا: {الملائكة * بنات * اللّه وقالت * اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه} ولم يدع أحد أن له والدا فلهذا السبب بدأ بإلهم فقال: {لم يلد} ثم أشار إلى الحجة فقال: {ولم يولد} كأنه قيل: الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره. السؤال الثاني: لماذا اقتصر على ذكر الماضي فقال: {لم يلد} ولم يقل: لن يلد؟ الجواب: إنما اقتصر على ذلك لأنه ورد جوابا عن قولهم ولد اللّه والدليل عليه قوله تعالى: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد اللّه} فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك في الماضي، لا جرم وردت الآية على وفق قوله. السؤال الثالث: لم قال ههنا: {لم يلد} وقال في سورة بني إسرائيل: {ولم يتخذ ولدا}؟ الجواب: أن الولد يكون على وجهين: أحدهما: أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي والثاني: أن لا يكون متولدا منه ولكنه يتخذه ولدا ويسميه هذا الاسم، وإن لم يكن ولدا له في الحقيقة، والنصارى فريقان: منهم من قال: عيسى ولد اللّه حقيقة، ومنهم من قال: إن اللّه اتخذه ولدا تشريفا له، كما اتخذ إبراهيم خليلا تشريفا له، فقوله: {لم يلد} فيه إشارة إلى نفي الوالد في الحقيقة، وقوله: {لم يتخذ ولدا} إشارة إلى نفي القسم الثاني، ولهذا قال: {لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك} لأن ازنسان قد يتخذ ولدا ليكون ناصرا ومعينا له على الأمر المطلوب، ولذلك قال في سورة أخرى: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه هو الغنى} وإشارة إلى ما ذكرنا أن اتخاذ الولد إنما يكون عند الحاجة. السؤال الرابع: نفي كونه تعالى والدا ومولودا، هل يمكن أن يعلم بالسمع أم لا، وإن كان لا يمكن ذلك فما الفائدة في ذكره ههنا؟ الجواب: نفي كونه تعالى والدا مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس بجسم ولا متبعض ولا منقسم، ونفي كونه تعالى مولودا مستفاد من العلم بأنه تعالى قديم، والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن، فلا يمكن أن يكونا مستفادين من الدلائل السمعية. بقي أن يقال: فلما لم يكن استفادتهما من السمع، فما الفائدة في ذكرهما في هذه السورة؟ قلنا: قد بينا أن المراد من كونه أحدا كونه سبحانه في ذاته وماهيته منزها عن جميع أنحاء التراكيب، وكونه تعالى صمدا معناه كونه واجبا لذاته ممتنع التغير في ذاته وجميع صفاته، وإذا كان كذلك فالأحدية والصمدية يوجبان نفي الولديةوالمولودية، فلما ذكر السبب الموجب لانتفاء الوالدية والمولودية، لا جرم ذكر هذين الحكمين، فالمقصود من ذكرهما تنبيه اللّه تعالى على الدلالة العقلية القاطعة على انتفائهما. السؤال الخامس: هل في قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد} فائدة أزيد من نفي الولدية ونفي المولودية؟ قلنا: فيه فوائد كثيرة، وذلك لأن قوله: {اللّه أحد} إشارة إلى كونه تعالى في ذاته وماهيته منزها عن التركيب، وقوله: {اللّه الصمد} إشارة إلى نفي الأضداد والأنداد والشركاء والأمثال وهذان المقامان الشريفان مما حصل الاتفاق فيهما بين أرباب الملل والأديان وبين الفلاسفة، إلا أن من بعد هذا الموضع حصل الاختلاف بين أرباب الملل وبين الفلاسفة، فإن الفلاسفة قالوا: إنه يتولد عن واجب الوجود عقل، وعن العقل عقل آخر ونفس وفلك، وهكذا على هذا الترتيب حتى ينتهي إلى العقل الذي هو مدبر ما تحت كرة القمر، فعلى هذا القول يكون واجب الوجود قد ولد العقل الأول الذي هو تحته، ويكون العقل الذي هو مدبر لعالمنا هذا كالمولود من العقول التي فوقه، فالحق سبحانه وتعالى نفي الوالدية أولا، كأنه قيل: إنه لم يلد العقول والنفوس، ثم قال: والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولودا من شيء آخر، فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا الواحد الذي هو الحق سبحانه. ٤قوله سبحانه: {ولم يكن له كفوا أحد} فيه سؤالان: السؤال الأول: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله ورد مقدما في أفصح الكلام؟ والجواب: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات اللّه، واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف، وتقديم إلهم أولى، فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقا للتقديم. السؤال الثاني: كيف القراءة في هذه الآية؟ الجواب: قرىء: {كفوا} بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء، والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق، وقال أبو عبيدة: يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل، وللمفسرين فيه أقاويل أحدها: قال كعب وعطاء: لم يكن له مثل ولا عديل، ومنه المكافأة في الجزاء لأنه يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها: قال مجاهد: لم يكن صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال: لم يكن أحد كفؤا له فيصاهره، ردا على من حكى اللّه عنه قوله: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى: {لم يلد} وثالثها: وهو التحقيق أنه تعالى بين لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله: {لم يلد ولم يولد} على ما بيناه، فحينئذ ختم السورة بأن شيئا من الموجودات يمتنع أن يكون مساويا له في شيء من صفات الجلال والعظمة، أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي، وأما سائر الحقائق، فإنها قابلة للعدم، وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك، وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسانا واعلم أن هذه السورة أربع آيات، وفي ترتيبها أنواع من الفوائد: الفائدة الأولى: أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد، والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسنا و: {لم يلد ولم يولد} على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلا، ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر، بل بمحض الإحسان وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} إشارة إلى نفي مالا يجوز عليه من الصفات. الفائدة الثانية: نفي اللّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: {أحد} ونفي النقص والمغلوبية بلفظ الصمد، ونفي المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد، ونفي الأضداد والأنداد بقوله: {ولم يكن له كفوا أحد}. الفائدة الثالثة: قوله: {أحد} يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة، والنصارى في التثليث، والصابئين في الأفلاك والنجوم، والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللّه لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات، والثالثة تبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، والمشركين في أن الملائكة بنات اللّه، والآية الرابعة تبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء له وشركاء. الفائدة الرابعة: أن هذه السورة في حق اللّه مثل سورة الكوثر في حق الرسول لكن الطعن في حق الرسول كان بسبب أنهم قالوا: إنه أبتر لا ولد له، وههنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا للّه ولدا، وذلك لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ووجود الولد عيب في حق اللّه تعالى، فلهذا السبب قال ههنا: {قل} حتى تكون ذابا عنيوفي سورة: {إنا أعطيناك} أنا أقول ذلك الكلام حتى أكون أنا ذابا عنك، واللّه سبحانه وتعالى أعلم. ( المقدمة ) بسم اللّه الرحمن الرحيم قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصلين: الفصل الأول: سمعت بعض العارفين فسر هاتين السورتين على وجه عجيب، فقال إنه سبحانه لما شرح أمر الإلهية في سورة الإخلاص الإخلاص ذكر هذه السورة عقيبها في شرح مراتب مخلوقات اللّه فقال أولا: {قل أعوذ برب الفلق} وذلك لأن ظلمات العدم غير متناهية، والحق سبحانه هو الذي فلق تلك الظلمات بنور التكوين والإيجاد والإبداع، فلهذا قال: {قل أعوذ برب الفلق} ثم قال: {من شر ما خلق} والوجه فيه أن عالم الممكنات على قسمين عالم الأمر وعالم الخلق على ما قال: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: ٥٤] وعالم الأمر كله خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات، أما عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات، فالشر لا يحصل إلا فيه، وإنما سمي عالم الأجسام والجسمانيات بعالم الخلق؛ لأن الخلق هو التقدير، والمقدار من لواحق الجسم، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم قال: أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور الإيجاد والإبداع من الشرور الواقعة في عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات، ثم من الظاهر أن الأجسام، أما أثرية أو عنصرية والأجسام الأثرية خيرات، لأنها بريئة عن الاختلال والفطور، على ما قال: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: ٣] وأما العنصريات فهي أما جماد أو نبات أو حيوان، أما الجمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمة فيها خالصة والأنوار عنها بالكلية زائلة، وهي المراد من قوله: {ومن شر غاسق إذا وقب} وأما النبات فالقوة العادية النباتية هي التي تزيد في الطول والعرض والعمق معا، فهذه النباتية كأنها تنفث في العقد الثلاثة، وأما الحيوان فالقوى الحيوانية هي الحواس الظاهرة والحواس الباطنية والشهوة والغضب وكلها تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال اللّه وهو المراد من قوله: {من شر حاسد إذا حسد} ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهي المستعيذة، فلا تكون مستعاذا منها، فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في سورة الناس مراتب درجات النفس الإنسانية في الترقي، وذلك لأنها بأصل فطرتها مستعدة لأن تنتقش بمعرفة اللّه تعالى ومحبته إلا أنها تكون أول الأمر خالية عن هذه المعارف بالكلية، ثم إنه من المرتبة الثانية يحصل فيها علوم أولية بديهية يمكن التوصل بها إلى استعلام المجهولات الفكرية، ثم في آخر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل، قوله تعالى: {قل أعوذ برب الناس} [الناس: ١] إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الإنسانية وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية، وذلك لأن النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يربيها ويزينها بتلك المعارف البديهية، ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله: {ملك الناس} [الناس: ٢] ثم في المرتية الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القول إلى الفعل يحصل الكمال التام للنفس وهو المراد من قوله: {إله الناس} [الناس: ٣] فكأن الحق يسمي نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الإنسانية بما يليق بتلك المرتبة، ثم قال: {من شر الوسواس الخناس} [الناس: ٤] والمراد منه القوة الوهمية، والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم، قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس، ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة، فلهذا السبب يسمى الوهم: بالخناس. ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل، وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم، وهناك آخر درجات مراتب النفس الإنسانية، فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه. الفصل الثاني: ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها: أحدها: روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك، فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب السورتين. وثانيها: أن اللّه تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين، وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا: تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك، وأقوى ظهرك وأنظر وجهك، فأنزل اللّه تعالى المعوذتين. وثالثها: وهو قول جمهور المفسرين، أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى اللّه عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة وفي وتر دسه في بئر يقال لها ذروان فمرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام وطلحة وجاءوا به، وقال جبريل للنبي حل عقدة، وقرأ: آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يجد بعض الخفة والراحة. واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم، قال القاضي هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، واللّه تعالى يقول: {واللّه يعصمك من الناس} [المائدة: ٦٧] وقال: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: ٦٩] ولأن تجويزه يفضي غلى القدح في النبوة، لأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز. قال الأصحاب: هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل، والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة أما قوله: الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور، فلو وقع ذلك لكان الكفار صادقين في ذلك القول. فجوابه: أن الكفار كانوا يريدون بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بواسطة السحر، فلذلك ترك دينهم، فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد، وبالجملة فاللّه تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه ونبوته، فأما في الإضرار ببدنه فلا يبعد، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة ولنرجح إلى التفسير. |
﴿ ٠ ﴾