سُورَةُ النَّاسِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ سِتُّ آياَتٍ

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة الناس

وهي ست آيات مدنية

_________________________________ 

١

انظر تفسير الآية:٣

٢

انظر تفسير الآية:٣

٣

{قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء: {قل أعوذ} بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ونظيره: {فخذ أربعة من الطير} وأيضا أجمع القراء على ترك الإمالة في الناس، وروى عن الكسائي الإمالة في الناس إذا كان في موضع الخفض.

المسألة الثانية: أنه تعالى رب جميع المحدثات، ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص وذلك لوجوه

أحدها: أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم

وثانيها: أن أشرف المخلوقات في العالم هم الناس

وثالثها: أن المأمور بالاستعاذة هو الإنسان، فإذا قرأ الإنسان هذه صار كأنه يقول: يا رب يا ملكي يا إلهي.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {ملك الناس * إله الناس} هما عطف بيان كقوله: سيرة أبي حفص عمر الفاروق، فوصف أولا بأنه رب الناس

ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون، كما يقال: رب الدار ورب المتاع قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} فلا جرم بينه بقوله: {ملك الناس}

ثم الملك قد يكون إلها وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله: {إله الناس} لأن الإله خاص به وهو سبحانه لا يشركه فيه غيره وأيضا بدأ بذكر الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه، وهو من أوائل نعمه إلى أن رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملكه، فثنى بذكر الملك،

ثم لما علم أنالعبادة لازمة له واجبة عليه، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه إله، فلهذا ختم به، وأيضا أول ما يعرف العبد من ربه كونه مطيعا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا هو الرب،

ثم لا يزال يتنقل من معرفة هذه الصفات إلى معرفة جلالته واستغنائه عن الخلق، فحينئذ يحصل العلم بكونه ملكا، لأن الملك هو الذي يفتقر إليه غيره ويكون هو غنيا عن غيره، ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته، فحينئذ يعرفه إلها.

المسألة الرابعة: السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات، لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار، ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه ربا للناس، ملكا للناس، إلها للناس.

ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه ربا وملكا وإلها لهم.

المسألة الخامسة: لا يجوز ههنا مالك الناس ويجوز: {مالك يوم الدين} في سورة الفاتحة، والفرق أن قوله: {رب * الناس} أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكا فهو ملك،

فإن قيل: أليس قال في سورة الفاتحة: {رب العالمين} ثم قال: {مالك يوم الدين} فليزم وقوع التكرار هناك؟

قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير،

وأما ههنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد، فيلزم منه التكرير فظهر الفرق، وأيضا فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس، وقد قرىء مالك لكن في الشواذ. قوله تعالى:

٤

{من شر الوسواس الخناس} الوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة،

وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر، كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه، نظيره قوله: {إنه عمل غير صالح} والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله: {فوسوس لهما الشيطان}

وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات، عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه. قوله تعالى:

٥

اعلم أن قوله: {الذى * يوسوس} يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارىء على الخناس ويبتدىء الذي يوسوس، على أحد هذين الوجهين.

٦

أما قوله تعالى: {من الجنة والناس}

ففيه وجوه:

أحدها: كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال: {شياطين الإنس والجن} وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس، ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه

وثانيها: قال قوم قوله: {من الجنة والناس} قسمان مندرجان تحت قوله في: {صدور الناس} كأن القدر المشترك بين الجن والإنس، يسمى إنسانا والإنسان أيضا يسمى إنسانا فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك، والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روى أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم: من أنتم فقالوا: أناس من الجن، أيضا قد سماهم اللّه رجالا في قوله: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} فجاز أيضا أن يسميهم ههنا ناسا، فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن، فجدير أن يحذر العاقل شره، وهذا القول ضعيف، لأن جعل الإنسان اسما للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جنا لاجتنانهم والإنسان إنسانا لظهوره من الإيناس وهو الإبصار، وقال صاحب الكشاف: من أراد تقرير هذا الوجه، فالأولى أن يقول: المراد من قوله: {يوسوس فى صدور الناس} أي في صدور الناس كقوله: {يوم يدعو * الداع} وإذا كان المراد من الناس الناسي، فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق اللّه تعالى

وثالثها: أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس.

واعلم أن هذه السورة لطيفة أخرى: وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد،

وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت: أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

﴿ ٠