٤

قوله تعالى: {مالك يوم الدين} قرأ محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك. قال الشاعر:

وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن ندينا

وقال آخر:

فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها

الخلائق: الطبائع التي جبل الإنسان عليها.

وروي عن نافع إشباع الكسرة في {مَلِكِ} فيقرأ ملكي على لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره..

اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: {ملك} أعم وأبلغ من {مالك} إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد.

وقيل: {مالك} أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.

وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ {مالك} أن اللّه سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول: {رب العالمين} فلا فائدة في قراءة من قرأ {مالك} لأنها تكرار. قال أبو علي: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: {هو اللّه الخالق البارئ المصور} فالخالق يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} بعد قوله: {الذين يؤمنون بالغيب}. والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال: {الرحمن الرحيم} فذكر {الرحمن} الذي هو عام وذكر {الرحيم} بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله: {وكان بالمؤمنين رحيما}. وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من {ملك} و {ملك} أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان اللّه تعالى مالكا كان ملكا،

واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي

وذكر ثلاثة أوجه،

الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب كما تقول: مالك الملوك.

الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا.

والثالث: أنك تقول: مالك الملك ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من {مالك} الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن {الملك} - بضم الميم - و {ملك} يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: ٢٤٧] ولهذا قال عليه السلام: (الإمامة في قريش) وقريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: (ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا) [النمل: ٢، ٢١] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.

قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا واللّه أعلم.. لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا اللّه تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)

وعنه أيضا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إن أخنع اسم عند اللّه رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا اللّه عز وجل)

قال سفيان: مثل: شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال: أوضع. وعنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(أغيظ رجل على اللّه يوم القيامة وأخبثه رجل ل[كان] يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا اللّه سبحانه).

قال ابن الحصار: وكذلك {ملك يوم الدين} و مالك الملك لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال اللّه العظيم: {إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا} [البقرة: ٢٤٧]. وقال صلى اللّه عليه وسلم:

(ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل اللّه يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة).. إن قال قائل: كيف قال {مالك يوم الدين} ويوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت اللّه في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قول عز وجل: {مالك يوم الدين} على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر.ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه واللّه عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قاله أبو القاسم الزجاجي.ووجه ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم} [غافر: ١٦] فأجاب جميع الخلق: {للّه الواحد القهار} [غافر: ١٦] فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو. إن وُصِف اللّه سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.. اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال اللّه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: ٣] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم، وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم كما يقال: ليله ليلاء. قال الراجز:

نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي

وهو مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا: أدْلٍ في جمع دلو.. الدين: الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق} [النور: ٢٥] أي حسابهم. وقال: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} [غافر: ١٧] و {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية: ٢٨] وقال: {أئنا لمدينون} [الصافات: ٥٣] أي مجزيون محاسبون. وقال لبيد:

حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوما كما هو دائن

آخر:

إذا رمونا رميناهم ودناهم مثل ما يقرضونا

آخر:

وأعلم يقينا أن ملكك زائل وأعلم بأنّ كما تدين تدان

وحكى أهل اللغة: دِنته بفعله دينا {بفتح الدال} ودينا {بكسرها} جزيته، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث:

(الكيس من دان نفسه) أي حاسب.

وقيل: القضاء،

وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة:

لعمرك ما كانت حمولة معبد على جدها حربا لدينِك من مضر

ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم:

وأيام لنا غر طوال عصينا المَلْك فيها أن ندينا

فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي:. قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر، فهو من الأضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال:

كدينك من أم الحويرث قبلها

وقال المثقب يذكر ناقته:

تقول إذا درأتُ لها وضيني أهذا دينُه أبدا وديني

والدين: سيرة الملك. قال زهير:

لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدَك

أراد في موضع طاعة عمرو. والدين: الداء عن اللحياني. وأنشد:

يا دين قلبك من سلمى وقد دينا

﴿ ٤