٣٣

قوله تعالى: {أنبئهم بأسمائهم} أمره اللّه أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم.

في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله، وفي الحديث:

(وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم) أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال اللّه، لأن اللّه تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا اللّه منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم.

اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم {عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: ٢٧] {لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: ٦]. وقوله: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا للّه ولا الملائكة المقربون} [النساء: ١٧٢] وقوله: {قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} [الأنعام: ٥]. وفي البخاري: (يقول اللّه عز وجل: من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة} [الأنعام: ٥] بالهمز، من برأ اللّه الخلق. وقوله عليه السلام:

(وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم) الحديث. أخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن اللّه تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، واللّه أعلم.

وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر اللّه تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ههنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه اللّه حيث قالوا: الملائكة أفضل.

قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل لأن اللّه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا للّه تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا للّه، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد، وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا.

قوله تعالى: {إني أعلم غيب السماوات والأرض} دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه اللّه كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه اللّه تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في {الأنعام} إن شاء اللّه تعالى عند قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}

قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون } أي من قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم.

{وما كنتم تكتمون} قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية.

قال ابن عطية: وجاء {تكتمون} للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: ٤] وإنما ناداه منهم عيينة،

وقيل الأقرع.

وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن اللّه عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق إن اللّه لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه.

و{ما} في قوله: {ما تبدون} يجوز أن ينتصب بـ {أعلم} على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به {ما} فيكون مثل حواج بيت اللّه، وقد تقدم.

﴿ ٣٣