٢١٦

قوله تعالى: {كتب} معناه فرض، وقد تقدم مثله. وقرأ قوم {كتب عليكم القتل}، وقال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة. والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلى اللّه عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: ٣٩] ثم أذن له في قتال المشركين عامة.

واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي.

قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك.

وقال الجمهور من الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي.

قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة {براءة} إن شاء اللّه تعالى. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع.

قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع.

قوله تعالى: {وهو كره لكم} ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع. قال ابن عرفة: الكره، المشقة والكره - بالفتح - ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها. وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض اللّه تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات.

قلت: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس، وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.

قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا} قيل: {عسى}: بمعنى قد، قاله الأصم.

وقيل: هي واجبة. و{عسى} من اللّه واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله} [التحريم: ٥]. وقال أبو عبيدة: {عسى} من اللّه إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم.

قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا للّه وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:

رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

﴿ ٢١٦