٢٥٦

قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: {قد تبين الرشد من الغي}.

والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله: {إلا من أكره} [النحل: ١٦].

وقرأ أبو عبدالرحمن {قد تبين الرشد من الغي} وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده؛ عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ {الرشاد} بالألف. وروي عن الحسن أيضا {الرشد} بضم الراء والشين.

{الغي} مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق.

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:

[الأول] قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: ٧٣]. وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.

الثاني: ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين}. هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن اللّه بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر: اللّهم اشهد، وتلا {لا إكراه في الدين}.

الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل اللّه تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.

قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء اللّه بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: {لا إكراه في الدين} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.

الرابع: قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يردهما فنزلت: {لا إكراه في الدين} ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: (أبعدهما اللّه هما أول من كفر) فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى اللّه عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل اللّه جل ثناؤه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: ٦٥] الآية ثم إنه نسخ {لا إكراه في الدين} فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة [براءة]. والصحيح في سبب قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في {النساء} بيانه إن شاء اللّه تعالى.

[وقيل] معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو القول الخامس.

[وقول سادس] وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة

والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في {براءة} إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه} جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى. - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس.

وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع.

وقال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال اللّه تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} [النساء: ٦]. وقد يكون جمعا قال اللّه تعالى: {أولياؤهم الطاغوت} [البقرة ٢٥٧] والجمع الطواغيت.

{ويؤمن باللّه} عطف.

{فقد استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه.

واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد: العروة الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا اللّه؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد. ثم قال: {لا انفصام لها} قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث

(فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا) أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم؛ قال اللّه تعالى: {لا انفصام لها} وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة:

كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم

وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل {مقصوم} بالقاف فيكون بائنا باثنين. وافْصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان باللّه مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات {سميع} من أجل النطق {عليم} من أجل المعتقد.

﴿ ٢٥٦