٢٨٦

قوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري. والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر جزم. نص اللّه تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر. وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي اللّه عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول:

ما كلف اللّه نفسا فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد

اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة.

واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو لا؟

فقال فرقة: وقع في نازلة أبي لهب، لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن.

وقالت فرقة: لم يقع قط. وقد حكى الإجماع على ذلك. وقوله تعالى: {سيصلى نارا} [المسد: ٣] معناه إن وافى، حكاه ابن عطية.

{ويكلف} يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا. فاللّه سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا. فللّه الحمد والمنة، والفضل والنعمة.

قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي.

وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية. وهو مثل قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: ١٦٤] {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام: ١٦٤]. والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان.

وجاءت العبارة في الحسنات بـ {لها} من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ {عليها} من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلى دين. وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: ١٧].

قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر اللّه تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى اللّه تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى.

في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة. ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض. وقال المهدوي وغيره:

وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.

قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية.

قال الكيا الطبري: قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه. ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي:

ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل. وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة.

قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} المعنى: أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام:

(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أي إثم ذلك.

وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ؟

اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات.

وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر.

وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع.

قوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} أي ثقلا قال مالك والربيع: الإصر الأمر الغليظ الصعب. وقال سعيد بن جبير: الإصر شدة العمل. وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة:

يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا

عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا. وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى: {وأخذتم على ذلكم إصري}. [آل عمران: ٨١] والإصر: الضيق والذنب والثقل. والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر أصرا حبسه. والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري: والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. قال ابن خويز منداد: ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [المؤمنون: ٧٨] وكقول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(الدين يسر فيسروا ولا تعسروا). اللّهم شق على من شق على أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

قلت: ونحوه قال الكيا الطبري قال: يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين.

﴿ ٢٨٦