٧ خرج مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم اللّه فاحذروهم). وعن أبي غالب قال: كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة: كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى ف قلت: ما يبكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمة لهم، (إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات. ..} إلى آخر الآيات. ثم قرأ {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات...} [آل عمران: ١٠٥]. ف قلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال نعم. قلت: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: إني إذا لجريء إني إذا لجريء! بل سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا - ) ثم قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار). اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة؛ فقال جابر بن عبداللّه، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: (المحكمات من أي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر اللّه تعالى بعلمه دون خلقه، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور). قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم (أن اللّه تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء...) الحديث. وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرآن كله محكم: لقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} [هود: ١]. وقيل: كله متشابه؛ لقوله: {كتابا متشابها} [الزمر: ٢٣]. قلت: وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} أي في النظم والرصف وأنه حق من عند اللّه. ومعنى {كتابا متشابها}، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً. وليس المراد بقوله: {آيات محكمات} {وأخر متشابهات} هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إن البقر تشابه علينا} [البقرة: ٧٠] أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما. فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع. وقال ابن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الأنعام {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام:١٥١] إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء ٢٣] قال ابن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضا: (المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به) وقال ابن مسعود وغيره: (المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات) وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى اللّه فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو {لم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: ٤] {وإني لغفار لمن تاب} [طه: ٨٢]. والمتشابهات نحو {إن اللّه يغفر الذنوب جميعا} [الزمر: ٥٣] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا: {وإني لغفار لمن تاب} [طه: ٨٢] وإلى قوله عز وجل: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به} [النساء: ٤٨]. قلت: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. واللّه أعلم. وقال ابن خويز منداد: للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين. فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون: (سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا) وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: ٢٤] يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}[النساء: ٢٣] يمنع ذلك. ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه. وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه. والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} [المائدة: ٦] بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه {في المائدة} إن شاء اللّه تعالى. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي. قال: ما هو؟ قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: ١٠١] وقال: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات: ٢٧] وقال: {ولا يكتمون اللّه حديثا} [النساء:٤٢] وقال: {واللّه ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات {أم السماء بناها} إلى قوله {دحاها} [النازعات: ٢٧ - ٢٨ - ٢٩ - ٣٠] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين... إلى: طائعين} [فصلت:٩، ٠ ١، ١١] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال: {وكان اللّه غفورا رحيما}[النساء: ١٠٠] {وكان اللّه عزيزا حكيما} [النساء: ١٥٨]. {وكان اللّه سميعا بصيرا} [النساء:١٣٤] فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: ({فلا أنساب بينهم} في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قوله: {ما كنا مشركين} {ولا يكتمون اللّه حديثا} فإن اللّه يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين؛ فختم اللّه على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن اللّه لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق اللّه الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها}. فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله: {وكان اللّه غفورا رحيما} يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن اللّه لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند اللّه). قوله تعالى: {وأخر متشابهات} لم تصرف {أُخر} لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف. أبو عبيد: لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش. الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة. وأنكره المبرد أيضا وقال: إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان. سيبويه: لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال: ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه اللّه تعالى بالنكرة. قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} الذين رفع بالابتداء، والخبر {فيتبعون ما تشابه منه}. والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار. ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} [الصف: ٥]. وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}: إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم. قلت: قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك. قوله تعالى: {فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} قال شيخنا أبو العباس رحمة اللّه عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى اللّه عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام: (الأول) لا شك في كفرهم، وإن حكم اللّه فيهم القتل من غير استتابة. (الثاني) الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. (الثالث) اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها. وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها. (الرابع) الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ. وقال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل. فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي اللّه عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبداللّه صبيغ. فقال عمر رضي اللّه عنه: وأنا عبداللّه عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد واللّه ذهب ما كنت أجد في رأسي. وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في {الذاريات}. ثم إن اللّه تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. ومعنى {ابتغاء الفتنة} طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى {ابتغاء تأويله} أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم اللّه جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا اللّه. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب {يقول الذين نسوه من قبل} [الاعراف:٥٣] أي تركوه - {قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: ٥٣] أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال: فالوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} أي لا يعلم أحد متى البعث إلا اللّه. قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك {آلم} فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل {وما يعلم تأويله إلا اللّه}. والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه. واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله {لا ريب فيه} [البقرة: ٢] أي لا شك. وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال: فسرت الشيء (مخففا) أفسره (بالكسر) فسرا. والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك. وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول اللّه عز وجل: {يا بني آدم}. قوله تعالى: {والراسخون في العلم} اختلف العلماء في {والراسخون في العلم} هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع. فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله {إلا اللّه} هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذ هب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم. قال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة. وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم {آمنا به كل من عند ربنا}. وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس. و{يقولون} على هذا خبر {الراسخون}. قال الخطابي: وقد جعل اللّه تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين: محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... إلى قوله: كل من عند ربنا} فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر اللّه بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى اللّه عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه. ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله {والراسخون في العلم يقولون آمنا به}. وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة. وإنما روي عن مجاهد أنه نسق {الراسخون} على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع {يقولون} نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبداللّه راكبا، بمعنى أقبل عبداللّه راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبداللّه يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان {يصلح} حالا له؛ كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - : أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا أي يقصر ماشيا؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي اللّه سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك. ألا ترى قوله عز وجل: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه} [النمل: ٦٥] وقوله: {لا يجليها لوقتها إلا هو} [الأعراف: ١٨٧] وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: ٨٨]، فكان هذا كله مما استأثر اللّه سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه}. ولو كانت الواو في قوله: {والراسخون} للنسق لم يكن لقوله: {كل من عند ربنا} فائدة. واللّه أعلم. قلت: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم اللّه عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. و{يقولون} على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال: الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين؛ فيجوز أن يكون {والبرق} مبتدأ، والخبر {يلمع} على التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله. ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و{يلمع} في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا. واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن اللّه سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم؛ فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس: (أنا ممن يعلم تأويله) وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممن يعلم تأويله؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي. قلت: وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال: وتقدير تمام الكلام {عند اللّه} أن معناه وما يعلم تأويله إلا اللّه يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه. فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: (لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين) قيل له: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس: (اللّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله {والراسخون في العلم}. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع!. لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر اللّه بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم؛ كقوله في عيسى: {وروح منه}[النساء: ١٧١] إلى غير ذلك. فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له. وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح. والرسوخ: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر: لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا. وحكى بعضهم: رسخ الغدير: نضب ماؤه؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد. ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه. وسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: (هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه). فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه واللّه يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: ٤٤] فكيف لم يجعله كله واضحا؟ قيل له: الحكمة في ذلك - واللّه أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه. واللّه أعلم. قوله تعالى: {كل من عند ربنا} فيه ضمير عائد على كتاب اللّه تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير: كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة {كل} عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل. ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب. و{أولو} جمع ذو. |
﴿ ٧ ﴾