٧٣ قوله تعالى: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة. وقال السدي: من قول يهود خيبر ليهود المدينة. وهذه الآية أشكل ما في السورة. فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا. و{أن} و{يحاجوكم} في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم. {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل. فيكون {أن يؤتى} مؤخرا بعد {أو يحاجوكم}، وقوله {إن الهدى هدى اللّه} اعتراض بين كلامين. وقال الأخفش: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم؛ يذهب إلى أنه معطوف. وقيل: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أتوه؛ لأن علماء اليهود قالت لهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالكلام على نسقه. و{أن} في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقر به، أي لا تصدقون بذلك. ويجوز أن تكون {أن} في موضع نصب على إضمار فعل؛ كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لأن الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه. وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد. وقال أبو حاتم: {آن} معناه {ألأن}، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة؛ كقراءة من قرأ {أن كان ذا مال} [القلم: ١٤] أي ألأن. وقوله {أو يحاجوكم} على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين؛ أو تكون {أو} بمعنى {أن} لأنهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر. وتقدير الآية: وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل: يا محمد إن الهدى هدى اللّه ونحن عليه. ومن قرأ بترك المد قال: إن النفي الأول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا. فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم: لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي أنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم. فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة. ومن استثنى ليس من الأول، وإلا لم يجز الكلام. ودخلت {أحد} لأن أول الكلام نفي، فدخلت في صلة {أن} لأنه مفعول الفعل المنفي؛ فإن في موضع نصب لعدم الخافض. وقال الخليل: (أن) في موضع خفض بالخافض المحذوف. وقيل: إن اللام ليست بزائدة، و{تؤمنوا} محمول على تُقِرّوا. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقيل: المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله عز وجل {إلا لمن تبع دينكم} ثم قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم {قل إن الهدى هدى اللّه}. أي إن البيان الحق هو بيان اللّه عز وجل {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و{لا} مقدرة بعد {أن} أي لئلا يؤتى؛ كقوله {يبين اللّه لكم أن تضلوا} [النساء: ١٧٦] أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول {أحد} في الكلام. و{أو} بمعنى {حتى} و{إلا أن}؛ كما قال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال آخر: وكنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما ومثله قولهم: لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى {حتى} أو {إلى أن}؛ وكذلك مذهب الكسائي. وهي عند الأخفش عاطفة على {ولا تؤمنوا} وقد تقدم. أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى. ويحتمل أن تكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من اللّه تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم؛ لئلا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. والمعنى لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أو يقدر على ذلك، فإن الهدى هدى اللّه وإن الفضل بيد اللّه. قال الضحاك: إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا؛ فبين اللّه تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون. ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة. ففي الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء). قال علماؤنا: فلو علموا أن ذلك من فضل اللّه لم يحاجونا عند ربنا؛ فأعلم اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال: قل لهم الآن {إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم}. وقرأ ابن كثير {آن يؤتى} بالمد على الاستفهام؛ كما قال الأعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضر به ريب المنون ودهر متبل خبل وقرأ الباقون بغير مد على الخبر. وقرأ سعيد بن جبير {إن يؤتى} بكسر الهمزة، على معنى النفي؛ ويكون من كلام اللّه تعالى كما قال الفراء. والمعنى: قل يا محمد {إن الهدى هدى اللّه إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم} يعني اليهود - بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم. ونصب {أو يحاجوكم} يعني بإضمار {أن} و{أو} تضمر بعدها {أن} إذا كانت بمعنى {حتى} و{إلا أن}. وقرأ الحسن {أن يؤتي} بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول. قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى اللّه} فيه قولان: أحدهما: إن الهدى إلى الخير والدلالة إلى اللّه عز وجل بيد اللّه جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم: {إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء}. والقول الآخر: قل إن الهدى هدى اللّه الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لا غيره. وقال بعض أهل الإشارات في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم. واللّه أعلم. |
﴿ ٧٣ ﴾