١١٥

قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة} يعني اليهود.

{أينما ثقفوا} أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم.

{إلا بحبل من اللّه} استثناء منقطع ليس من الأول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من اللّه {وحبل من الناس} يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من اللّه، فحذف؛ قاله الفراء.

{وباؤوا بغضب من اللّه} أي رجعوا.

وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة. ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وقد مضى في البقرة مستوفى. ثم أخبر فقال: {ليسوا سواء} وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم سواء؛ عن ابن مسعود.

وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء. وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال:

(إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللّه تعالى في هذه الساعة غيركم) قال: أنزلت هذه الآية {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى قوله: واللّه عليم بالمتقين}

وروى ابن وهب مثله. وقال ابن عباس: قول اللّه عز وجل {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون} من آمن مع النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبداللّه بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيه، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود؛ فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره؛ فأنزل اللّه عز وجل في ذلك من قولهم: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون. إلى قوله: وأولئك من الصالحين}. وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة. وأنشد:

وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع

وقيل: في الكلام حذف؛ والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى؛ كقول أبي ذؤيب:

عصاني إليها القلب إني لأمره  مطيع فما أدري أرُشْد طِلابها

أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء: {أمة} رفع بـ {سواء}، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات اللّه وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع {أمة} بـ {سواء} فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه. وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر.

و{أناء الليل} ساعاته. وأحدها إنًى وأنًى وإنْيٌ، وهو منصوب على الظرف.

و{يسجدون} يصلون؛ عن الفراء والزجاج؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله: {وله يسجدون} أي يصلون. وفي الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن} [الفرقان: ٦٠] وفي النجم {فاسجدوا للّه واعبدوا} [النجم: ٦٢]. وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة. وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود؛ فعبدة الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي اللّه تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات اللّه؛ ألا ترى لما ذكر قيامهم قال {وهم يسجدون} أي مع القيام أيضا. الثوري: هي الصلاة بين العشاءين.

وقيل: هي في قيام الليل. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل كمن هو قائم وساجد آناء الليل.

{يؤمنون باللّه} يعني يقرون باللّه ويصدقون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

{ويأمرون بالمعروف} قيل: هو عموم.

وقيل: يراد به الأمر باتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم. {وينهون عن المنكر} والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته.

{ويسارعون في الخيرات} التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم.

وقيل: يبادرون بالعمل قبل الفوت. {وأولئك من الصالحين} أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم في الجنة.

{وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما؛ إخبارا عن الأمة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب؛ لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: ١١٠]. وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء. ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه.

﴿ ١١٥