١١٨

أكد اللّه تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: ١٠٠]. والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبْطُن بُطونا وبِطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر:

أولئك خلصائي نعم وبطانتي  وهم عيبتي من دون كل قريب

نهى اللّه عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه  فكل قرين بالمقارن يقتدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).

وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يألونكم خبالا} يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه.

وروي عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا} قال: (هم الخوارج).

وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي اللّه عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني؛ فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم اللّه، ولا تكرمهم وقد أهانهم اللّه، ولا تأمنهم وقد خونهم اللّه. وعن عمر رضي اللّه عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرِّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون اللّه تعالى.

وقيل لعمر رضي اللّه عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.

قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء.

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ما بعث اللّه من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم اللّه تعالى).

وروى أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لا تستضيؤوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا). فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب اللّه عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية.

قوله تعالى: {من دونكم} أي من سواكم. قال الفراء: {ويعملون عملا دون ذلك} أي سوى ذلك.

وقيل: {من دونكم} يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى {لا يألونكم خبالا} لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة لـ {بطانة من دونكم}. يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وأَلَوْت أُلُوًّا قصرت؛ قال امرؤ القيس:

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه  بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

والخَبال: الخَبْل. والخبل: الفساد؛ وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول. وفي الحديث: (من أصيب بدم أو خبل) أي جرح يفسد العضو. والخبل: فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده. قال أوس:

أبني لُبينى لستم بيد  إلا يدا مخبولة العضد

أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء:

نظر ابن سعد نظرة وبت بها  كانت لصحبك والمطي خبالا

أي فساد. وانتصب (خبالا) بالمفعول الثاني؛ لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال؛ كما قالوا: أوجعته ضربا: {وما} في قوله: {ودوا ما عنتم} مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في {البقرة} معناه.

قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح؛ يقال: شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا؛ فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء. وفي التنزيل {ولا يغتب بعضكم بعضا} [الحجرات: ١٢] الآية. وقال صلى اللّه عليه وسلم:

(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام). فذكر الشَّحْو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم.

وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز؛ وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك. وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر.

قوله تعالى: {وما تخفي صدورهم أكبر} إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم.

وقرأ عبداللّه بن مسعود: {قد بدأ البغضاء} بتذكير الفعل؛ لما كانت البغضاء بمعنى البغض.

﴿ ١١٨