١٢٩ ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى اللّه تعالى) فأنزل اللّه تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}. الضحاك: هَمَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو على المشركين فأنزل اللّه تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}. وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل اللّه عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء} فهداهم اللّه للإسلام وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى: {أو يتوب عليهم} قيل: هو معطوف على {ليقطع طرفا}. والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون {أو} ها هنا بمعنى {حتى} و{إلا أن}. قال امرؤ القيس: أو نموت فنعذرا قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صلى اللّه عليه وسلم: (اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكى عنه؛ بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم ! فقال: (إني لم أبعث لَعّانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعين له ذلك النبي؛ فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ! لقد دعا نوح على قومه فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: ٢٦] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا؛ فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، ف قلت: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقوله: (اشتد غضب اللّه على قوم كسروا رباعية نبيهم) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوص في المباشر؛ لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم. زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: (اللّهم ربنا ولك الحمد في الآخرة - ثم قال - اللّهم العن فلانا وفلانا) فأنزل اللّه عز وجل {وليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} الآية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه اللّه تعالى نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله للّه يتوب على من يشاء ويجعل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الأمر شيء وللّه ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، واللّه أعلم. وبين بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} أن الأمور بقضاء اللّه وقدره ردا على القدرية وغيرهم. واختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها؛ فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة. وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت؛ ثم قال: يا بني إنها بدعة. وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ قاله الشافعي والطبري. وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا. وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو؛ وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد بن عبدالعزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع؛ وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الأربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا. وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت؛ فقال: (يا محمد إن اللّه لم يبعثك سبّابا ولا لعّانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: (اللّهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللّهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق). |
﴿ ١٢٩ ﴾