١٣٣

قوله تعالى: {وسارعوا} قرأ نافع وابن عامر {سارعوا} بغير واو؛ وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ باقي السبعة {وسارعوا}. وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو. والمسارعة المبادرة، وهي مفاعلة. وفي الآية حذف. أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة. قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير {سارعوا إلى مغفرة من ربكم}: معناه إلى تكبيرة الإحرام. وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. عثمان بن عفان: إلى الإخلاص. الكلبي: إلى التوبة من الربا.

وقيل: إلى الثبات في القتال.

وقيل غير هذا. والآية عامة في الجميع، ومعناها معنى {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: ١٤٨] وقد تقدم.

قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض} تقديره كعرض فحذف المضاف؛ كقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان: ٢٨] أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال الشاعر:

حسبت بغام راحلتي عناقا  وما هي ويب غيرك بالعناق

يريد صوت عناق. نظيره في سورة الحديد {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} [الحديد: ٢١].

واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض؛ فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا اللّه. وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر؛ فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم

(ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض). فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض، وقدرة اللّه أعظم من ذلك كله. وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض. وفي الصحيح:

(إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال اللّه تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره. وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره؛ قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية؛ فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(سبحان اللّه فأين الليل إذا جاء النهار). وبمثل هذه الحجة استدل الفاروق على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم

{وجنة عرضها السموات والأرض} فأين النار ؟ فقالوا له: لقد نزعت بما في التوراة. ونبه تعالى بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا اللّه؛ وهذا كقوله تعالى: {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق} [الرحمن: ٥٤] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأتقن من البطائن. وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة؛ قال الشاعر:

كأن بلاد اللّه وهي عريضة  على الخائف المطلوب كفة حابل

وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة؛ فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض؛ كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه.

وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله {أعدت للمتقين} وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن اللّه تعالى إذا طوى السموات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء؛ لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة. وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة.

قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد.

قال ابن عطية: وقول ابن فورك {يزاد فيها} إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة.

قلت: صدق ابن عطية رضي اللّه عنه فيما قال: وإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة؛ فالجنة الآن على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السموات والأرض؛ إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم.

ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد. وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا اللّه خالقه الذي لا نهاية لقدرته، ولا غاية لسعة مملكته، سبحانه وتعالى.

﴿ ١٣٣