١٥٩ قوله: {ما} صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله: {عما قليل} [المؤمنون: ٤٠] {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: ١٥٥] {جند ما هنالك مهزوم} [ص: ١١]. وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها.. ابن كيسان: {ما} نكرة في موضع جر بالباء {ورحمة} بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق اللّه تعالى إياه. وقيل: {ما} استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من اللّه لنت لهم؛ فهو تعجيب. وفيه بعد؛ لأنه لو كان كذلك لكان {فبم} بغير ألف. {لنت} من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق؛ وأنشد المفضل في المذكر: وليس بفظ في الأداني والأولى يؤمون جدواه ولكنه سهل وفظ على أعدائه يحذرونه فسطوته حتف ونائله جزل وقال آخر في المؤنث: أموت من الضر في منزلي وغيري يموت من الكظه ودنيا تجود على الجاهلين وهي على ذي النهى فظه وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر: يبكى علينا ولا نبكي على أحد؟ لنحن أغلظ أكبادا من الإبل ومعنى {لانفضوا} لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا: مستعجلات القيض غير جرد ينفض عنهن الحصى بالصمد وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم: لا يفضض اللّه فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. في قوله تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} قال العلماء: أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما للّه عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح اللّه المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: ٣٨]. قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل. قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن اللّه أذن لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر اللّه نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان اللّه تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم: فأمر اللّه تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر اللّه تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس: {وشاورهم في بعض الأمر} ولقد أحسن القائل: شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل فاللّه قد أوصى بذاك نبيه في قوله: (شاورهم)و (توكل) جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (المستشار مؤتمن). قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه؛ قاله الخطابي وغيره. وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال: شاور صديقك في الخفي المشكل وقد تقدم. وقال آخر: وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبا ولا تعصه في أبيات. والشورى بركة. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي). وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى اللّه تعالى. وقال الحسن: واللّه ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم. وروي عن علّي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم). والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده اللّه تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر اللّه تعالى نبيه في هذه الآية. قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على اللّه} قال قتادة: أمر اللّه تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على اللّه، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب؛ كما قال: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء؛ واللّه تعالى يقول: {وشاورهم في الأم فإذا عزمت }. فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: {فإذا عزمت} بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى} [الأنفال: ١٧]. ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك {فتوكل على اللّه}. والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى اللّه عليه وسلم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللّه). أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه اللّه عز وجل مع العزيمة. فلبسه لأمته صلى اللّه عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه اللّه بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول اللّه اخرج بنا إلى عدونا؛ دال على العزيمة. وكان صلى اللّه عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبداللّه بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول اللّه ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فواللّه ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول اللّه، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل). قوله تعالى: {فتوكل على اللّه إن اللّه يحب المتوكلين} التوكل: الاعتماد على اللّه مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: {أو تكلت} قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها. واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير اللّه من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان اللّه تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: ١٦٠]. وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار اللّه تعالى عنهما في قوله {لا تخافا}. وقال: {فأوجس في نفسه خيفة موسى ٠ قلنا لا تخف} [طه: ٦٧ - ٦٨]. وأخبر عن إبراهيم بقوله: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف} [هود: ٧٠]. فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى. |
﴿ ١٥٩ ﴾