١١٩ قوله تعالى: {ولأضلنهم} أي لأصرفنهم عن طريق الهدى. {ولأمنينهم} أي لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرأئن حاله. وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار. {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} البتك القطع، ومنه سيف باتك. أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه. يقال: بتكه وبتكه، (مخففا ومشددا ) وفي يده قطعة، والجمع بتك، قال زهير: طارت وفي كفه من ريشها بتك قوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه} اللامات كلها للقسم. واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح. وذلك كله تعذيب، للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان. والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق اللّه تعالى. وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي ). الحديث، أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا. وروى إسماعيل قال: حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، قال: (هل لك من مال ) ؟ قال قلت: نعم. قال (من أي المال ) ؟ قلت: من كل المال، من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد: والغنم - قال: (فإذا أتاك اللّه مالا فلير عليك أثره ) ثم قال: (هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بمر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك ) ؟ قال: قلت أجل. قال: (وكل ما آتاك اللّه حل وموسى اللّه أحد من موسك، وساعد اللّه أشد من ساعدك). قال قلت: يا رسول اللّه، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال:(بل أقره ). ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) أخرجه أبو داود عن علي قال: أمرنا؛ فذكره. المقابلة: المقطوعة طرف الأذن. والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن. والشرقاء: مشقوقة الأذن. والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء. قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز. وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك. وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره. والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبدالعزيز. وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد. وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى. ومنهم من كره ذلك، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ). واختاره ابن المنذر وقال: لأن ذلك ثابت عن ابن عمر، وكان يقول: هو نماء خلق اللّه؛ وكره ذلك عبدالملك بن مروان. وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل. وقال ابن المنذر: وفيه حديثان: أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل. والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم. والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول: فيه تمام الخلق. قال أبو عمر: يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق. قلت: أسنده أبو محمد عبدالغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا تخصوا ما ينمي خلق اللّه ). رواه عن الدارقطني شيخه، قال: حدثنا أبو عبداللّه المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل، فذكره. قال الدارقطني: ورواه عبدالصمد بن النعمان عن أبي مالك. الرابعة: وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ) ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه. ثم هذه مثلة، وقد نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن المثلة، وهو صحيح. وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا: لو لم يشتروا منهم لم يخصوا. ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز؛ لأنه مثلة وتغيير لخلق اللّه تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قال أبو عمر. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم: الكي بالنار وأصله العلامة، يقال: وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى: {سيماهم في وجوههم} [الفتح: ٢٩]. فالسيما العلامة والميسم المكواة. وثبت في صحيح مسلم عن أنس قال: رأيت في يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره. والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه، أخرجه مسلم. وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى اللّه عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال: (اتق الوجه فإن اللّه خلق آدم على صورته ). أي على صورة المضروب؛ أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه. وهذا أحسن ما قيل في تأويله واللّه أعلم. وقالت طائفة: الإشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن؛ قال ابن مسعود والحسن. ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبداللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق اللّه ) الحديث أخرجه مسلم، وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء اللّه تعالى. والوشم يكون في اليدين، وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر. وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة. والمستوشمة التي يفعل ذلك بها؛ قال الهروي. وقال ابن العربي: ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه؛ ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته. قال القاضي عياض: ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان {الواشية والمستوشية} (بالياء مكان الميم ) وهو من الوشي وهو التزين؛ وأصل الوشي نسج الثوب على لونين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد؛ أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر. والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقول الشعر؛ ويقال لها النامصة. ابن العربي: وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه؛ فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة فيه. والمتفلجات جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها؛ أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة. وفي غير كتاب مسلم: {الواشرات}، وهي جمع واشرة، وهي التي تشر أسنانها؛ أي تصنع فيها أشرا، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان؛ تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة. وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها؛ فقيل: لأنها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق اللّه تعالى؛ كما قال ابن مسعود، وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا؛ لأنه من باب تغيير خلق اللّه تعالى، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره. وكرهه مالك للرجال. وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء. وروي عن عمر إنكار ذلك وقال: إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، ولا تدع الخضاب بالحناء؛ فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال: (لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل) فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت. قال القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، فإنه يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي اللّه عنها: إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير. وقال أنس: يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا. قال أبو جعفر الطبري: في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها اللّه عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها. وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها؛ لأن كل ذلك تغيير خلق اللّه. قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه؛ لأنه من تغيير خلق اللّه تعالى: إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره. قلت: ومن هذا الباب قوله صلى اللّه عليه وسلم: (لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ) أخرجه مسلم. فنهى صلى اللّه عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها؛ وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به، والواصلة هي التي تفعل ذلك، والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها. مسلم عن جابر قال: زجر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا. وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟ فقال: (لعن اللّه الواصلة والمستوصلة ). وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر، وبه قال مالك وجماعه العلماء. ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك؛ لأنه في معنى وصله بالشعر. وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر؛ وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا: إنما جاء النهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى. وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا، وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث. وقد روي عن عائشة رضي اللّه عنها ولم يصح. وروي عن ابن سيرين أنه سأل رجل فقال: إن أمي كانت تمشط النساء، أتراني آكل من مالها ؟ فقال: إن كانت تصل فلا. ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل، واللّه أعلم. وقالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق اللّه هو أن اللّه تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة. قال الزجاج: إن اللّه تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق اللّه. وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وروي عن ابن عباس {فليغيرن خلق اللّه} دين اللّه؛ وقال النخعي، واختاره الطبري قال: وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى اللّه عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي؛ أي فليغيرن ما خلق اللّه في دينه. وقال مجاهد أيضا: {فليغيرن خلق اللّه} فطرة اللّه التي فطر الناس عليها؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ). فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: ١٧٢]. قال ابن العربي: روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسوده ويقول: هذا من قول اللّه {فليغيرن خلق اللّه}. قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى اللّه عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض؛ بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه. قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية. وقد كانت تحت بلال أخت عبدالرحمن بن عوف زهرية. وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما. قوله تعالى: {ومن يتخذ الشيطان وليا من دون اللّه} أي يطيعه ويدع أمر اللّه. {فقد خسر} أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق اللّه تعالى فيه وتركه من أجله. |
﴿ ١١٩ ﴾