٩١

قوله تعالى: {ليس على الضعفاء} الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} [البقرة: ٢٨٦] وقوله: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} [النور: ٦١].

وروى أبو داود عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه). قالوا: يا رسول اللّه، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: (حبسهم العذر). فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال: ليس على هؤلاء حرج.

{إذا نصحوا للّه ورسوله} إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه

قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: ١٤٤]. هذه عزائم القوم. والحق يقول: {ليس على الأعمى حرج} [النور: ٦١] وهو في الأول. {ولا على الأعرج حرج} [النور:٦١] وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام: (إن اللّه قد عذرك) فقال: واللّه لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي اللّه عنهم. وقال عبداللّه بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.

قوله تعالى: {إذا نصحوا} النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) ثلاثا. قلنا لمن؟ قال:

(للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). قال العلماء: النصيحة للّه إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى اللّه عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب اللّه: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح

(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} {من سبيل} في موضع رفع اسم {ما} أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن.

ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه.

وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة.

قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها.

﴿ ٩١