ÓõæÑóÉõ ÇáÑøóÚúÏö ãóßøöíøóÉñ Çóæú ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ËóáÇóËñ æóÃóÑúÈóÚõæäó ÂíóÉð سورة الرعد سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة؛ وهما قوله عز وجل: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} [الرعد: ٣١] [إلى آخرهما]. _________________________________ ١ قوله تعالى: {المر تلك آيات الكتاب} تقدم القول فيها. {والذي أنزل إليك} يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك. {من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} لا كما يقول المشركون: إنك تأتي به من تلقاء نفسك؛ فاعتصم به، وأعمل بما فيه. قال مقاتل: نزلت حين قال المشركون: إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه. {والذي} في موضع رفع عطفا على {آيات} أو على الابتداء، و{الحق} خبره؛ ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع {الحق} على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره: ذلك الحق؛ كقوله تعالى: {وهم يعلمون الحق} [البقرة:١٤٦ - ١٤٧] يعني ذلك الحق. قال الفراء: وإن شئت جعلت {الذي} خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما يقال: أتانا هذا الكتاب عن أبي حفص والفاروق؛ ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليت الكتيبة في المزدحم يريد: إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة. {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} ٢ قوله تعالى: {اللّه الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} الآية. لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزل قادر على الكمال؛ فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته؛ وقد تقدم هذا المعنى. وفي قوله: {بغير عمد ترونها} قولان: أحدهما: أنها مرفوعة بغير عمد ترونها؛ قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما. الثاني: لها عمد، ولكنا لا نراه؛ قال ابن عباس: لها عمد على جبل قاف؛ ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا؛ ذكره الزجاج. وقال ابن عباس أيضا: هي توحيد المؤمن. أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر؛ ذكره الغزنوي. والعمد جمع عمود؛ قال النابغة: وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} تقدم الكلام فيه. {وسخر الشمس والقمر} أي ذللّهما لمنافع خلقه ومصالح عباده؛ وكل مخلوق مذلل للخالق. {كل يجري لأجل مسمى} أي إلى وقت معلوم؛ وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها. وقيل: معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة. {يدبر الأمر} أي يصرفه على ما يريد. {يفصل الآيات} أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة؛ ولهذا قال: {لعلكم بلقاء ربكم توقنون}. ٣ قوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولا وعرضا. {وجعل فيها رواسي} أي جبالا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثبوت؛ قال عنترة: فصبرت عارفة لذلك حرة ترسوا إذا نفس الجبان تطلع وقال جميل: أحبها والذي أرسى قواعده حبا إذا ظهرت آياته بطنا وقال ابن عباس وعطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس. مسألة: في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وقوله تعالى: {وأنهارا} أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق. {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} بمعنى صنفين. قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين. الفراء: يعني بالزوجين ها هنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص. وقيل: معنى {زوجين} نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. {إن في ذلك لآيات} أي دلالات وعلامات {لقوم يتفكرون} ٤ قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} {وفي الأرض قطع متجاورات} في الكلام حذف؛ المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال: {سرابيل تقيكم الحر} والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر. {متجاورات} أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر؛ فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته؛ فإنه نبه سبحانه بقوله: {تسقى بماء واحد} على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع؛ فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته؛ جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. ذهبت الكفرة - لعنهم اللّه - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا؛ والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام. قوله تعالى: {وجناتٌ من أعناب} قرأ الحسن {وجناتٍ} بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: {وجعل فيها رواسي}. ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على {كل} التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون {جنات} بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. {وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات؛ أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب؛ فيكون الزرع والنخيل من الجنات؛ ويجوز أن يكون معطوفا على {كل} حسب ما تقدم في {وجنات}. وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما {صنوان} بضم الصاد، الباقون بالكسر؛ وهما لغتان؛ وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا؛ نظيرها قنوان، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق؛ النحاس: وكذلك هو في اللغة؛ يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل؛ ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه). ولا فرق فيها بين التثنية والجمع ولا بالإعراب؛ فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية؛ قال الشاعر: العلم والحلم خلتا كرم للمرء زين هما اجتمعا صنوان لا يستتم حسنهما إلا بجمع ذا وذاك معا قوله تعالى: {يسقى بماء واحد} كصالح بني آدم وخبيثهم؛ أبوهم واحد؛ قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر: {يسقى} بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: {جنات} واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة؛ قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن؛ {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما {ويُفَضِّل} بالياء ردا على قوله: {يدبر الأمر} [الرعد: ٢] و{يفصل} [الرعد: ٢] و{يغشي} [الرعد:٣] الباقون بالنون على معنى: ونحن نفضل. وروى جابر بن عبداللّه قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول لعلي رضي اللّه عنه: (الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم {وفي الأرض قطع متجاورات} حتى بلغ قوله: {يسقى بماء واحد}) و{الأكل} الثمر. قال ابن عباس: يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في قوله تعالى: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال: الفارسي والدقل والحلو والحامض) ذكره الثعلبي. قال الحسن: المراد بهذه الآية المثل؛ ضربه اللّه تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر. والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد؛ ومنه قول الشاعر: الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجر الصندل والكافور والبان ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن اللّه تعالى. ٥ قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم} أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ واللّه تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل: الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب؛ ونظم الآية يدل على الأول والثاني؛ لقوله: {أئذا كنا ترابا} أي انبعث إذا كنا ترابا؟ !. {أئنا لفي خلق جديد} وقرئ {إنا}. و{الأغلال} جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة؛ بدليل قوله: {إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر: ٧١] إلى قوله: {ثم في النار يسجرون} [غافر: ٧٢]. وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم. ٦ قوله تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: ٣٢]. قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقيل: {قبل الحسنة} أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. {وقد خلت من قبلهم المثلات} العقوبات؛ الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ {المثلات} بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مثلة، ويجوز {المثلات} تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ {المثلات} بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه اللّه. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء. قوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب اللّه تعالى {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}. {وإن ربك لشديد العقاب} إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لولا عفو اللّه ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحداً عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد). ٧ قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا} أي هلا {أنزل عليه آية من ربه}. لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: {إنما أنت منذر} أي معلم. {ولكل قوم هاد} أي نبي يدعوهم إلى اللّه. وقيل: الهادي اللّه؛ أي عليك الإنذار، واللّه هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم. ٨ انظر تفسير الآية:٩ ٩ قوله تعالى: {اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى} أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة {الأنعام} أن اللّه سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمس) الحديث. وفيه (لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه). واختلف العلماء في تأويل قوله: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه. وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها. وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. {وما تزداد} بدم النفاس بعد الوضع. في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه. حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي اللّه عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر: اللّه أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، واللّه أعلم. واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض. في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية. واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبدالحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وباللّه التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان اللّه! من يقول هذا؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللّهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!؛ فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. وقال عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش. قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر اللّه به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن. قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ اللّه أخبركم بهذا أم على اللّه تفترون؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!. قوله تعالى: {وكل شيء عنده بمقدار} يعني من النقصان والزيادة. ويقال: {بمقدار} قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، واللّه سبحانه أعلم. قلت: هذه الآية تمدح اللّه سبحانه وتعالى بها بأنه {عالم الغيب والشهادة} أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و{الكبير} الذي كل شيء دونه. {المتعال} عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد للّه. ١٠ قوله تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن اللّه سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و{منكم} يحتمل أن يكون وصفا لـ { سواء} التقدير: سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق {بسواء} على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل: {سواء} أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. {ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} {بالنهار} أي يستوي في علم اللّه السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس: خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس: {مستخف} مستتر، {وسارب} ظاهر. مجاهد: {مستخف} بالمعاصي، {وسارب} ظاهر. وقيل: معنى {سارب} ذاهب؛ قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيدة فهو سارب أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر: أني سربت وكنت غير سروب وقال القتبي: {سارب بالنهار} أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه. ١١ قوله تعالى: {له معقبات} قوله تعالى: {له معقبات} أي للّه ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: {معقبات} والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - {له معاقيب من بين يديه ومن خلفه}. ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء؛ قال اللّه تعالى: {ولى مدبرا ولم يعقب} [النمل: ١٠] أي لم يرجع؛ وفي الحديث: (معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن) فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين {معقبات} لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: {من بين يديه ومن خلفه} أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار. قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه} اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر اللّه، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، {يحفظونه من أمر اللّه} أي بأمر اللّه وبإذنه؛ فـ {من} بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: {من} بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر اللّه، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر اللّه لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل: {أطعمهم من جوع} [قريش: ٤] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن اللّه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجن؛ قال كعب: لولا أن اللّه وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر اللّه؛ وخصهم بأن قال: {من أمر اللّه} لأنهم غير معاينين؛ كما قال: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: ٨٥] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أم اللّه من بين يديه ومن خلفه يحفظونه. وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر اللّه لا تقديم فيه ولا تأخير. وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله؛ فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في {له} للّه عز وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول. وقيل: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} يعني به النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله: {لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر} [الرعد: ٧] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى اللّه عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال: {ولكل قوم هاد} [الرعد: ٧] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع: أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر اللّه لم يغنوا عنهم من اللّه شيئا؛ قال ابن عباس وعكرمة؛ وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر اللّه، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر اللّه تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر اللّه على ظنه وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ؛ قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب؛ وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة؛ فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه؛ فقوله: {يحفظونه من أمر اللّه} أي من امتثال أمر اللّه. وقال عبدالرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر اللّه تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: {يحفظونه من أمر اللّه} وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك. الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر؛ - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه؛ والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) الحديث، رواه الأئمة. وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - {معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر اللّه يحفظونه} فهذا قد بين المعنى. وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي اللّه عنه على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: (ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر اللّه تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا اللّه تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته للّه عز وجل وأقل استحياءه منا يقول اللّه تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: ١٨] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول اللّه تعالى {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت للّه رفعك وإذا تجبرت على اللّه قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قاسم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل). ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم؛ والهاء في {له} لهن؛ على ما تقدم. وقال العلماء رضوان اللّه عليهم: إن اللّه سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه بصاحبه؛ فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ. قوله تعالى: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} أخبر اللّه تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير اللّه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ كما قال صلى اللّه عليه وسلم: وقد (سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث). واللّه أعلم. قوله تعالى: {وإذا أراد اللّه بقوم سوءا} أي هلاكا وعذابا، {فلا مرد له} وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وله: إذا أراد اللّه بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. {وما لهم من دونه من وال} أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر: ما في السماء سوى الرحمن من وال ووال وولي كقادر وقدير. ١٢ انظر تفسير الآية:١٣ ١٣ قوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال} أي بالمطر. {السحاب} جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} قد مضى في {البقرة} القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال اللّه تعالى: {أذى من مطر} [النساء: ١٠٢] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. {وينشئ السحاب الثقال} قال مجاهد: أي بالماء. {ويسبح الرعد بحمده} من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: {والملائكة من خيفته} فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. {من خيفته} من خيفة اللّه؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من اللّه ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة اللّه طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح اللّه؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبداللّه عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف اللّه، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف اللّه. قوله تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم نفرا يدعونه إلى اللّه ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه! فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى اللّه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم. {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء}). ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: (أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم: هذا يا رسول اللّه عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: (دعه فإن يرد اللّه به خيرا يهده) فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: (لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين). قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: (ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى اللّه يجعله حيث يشاء). قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: (لا). قال: فما تجعل لي؟ قال: (أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل اللّه). قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه اللّه، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل اللّه عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ واللّه لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: (يمنعك اللّه من ذلك وأبناء قيلة) يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: واللّه لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل اللّه ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره). ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد وفيه قال: إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب وأسلم لبيد بعد ذلك رضي اللّه عنه. مسألة: روى أبان عن أنس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تأخذ الصاعقة ذاكرا للّه عز وجل). وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: (كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته). وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبداللّه بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟ وقد تقدم هذا المعنى في {البقرة}. قوله تعالى: {وهم يجادلون في اللّه} يعني جدال اليهودي حين سأل عن اللّه تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم. ويجوز أن يكون، {وهم يجادلون في اللّه} حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى اللّه عز وجل، فقال لرسول اللّه: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد نزل: {وهم يجادلون في اللّه} {وهو شديد المحال} قال ابن الأعرابي: {المحال} المكر، والمكر من اللّه عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من اللّه إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد {وهو شديد المحال} أي النقمة. وقال الأزهري: {المحال} أي القوة والشدة. والمحل: الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: {المحال} العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: {المحال} الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ {وهو شديد الَمحال} بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة؛ وأنشد للأعشى: فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد كثير الندى شديد المحال وقال آخر: ولبس بن أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا وقال عبدالمطلب: لا هم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك ١٤ قوله تعالى: {له دعوة الحق} أي للّه دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا اللّه. وقال الحسن: إن اللّه هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال: {ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء: ٦٧]؛ قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية؛ لأنه قال: {والذين يدعون من دونه} يعني الأصنام والأوثان. {لا يستجيبون لهم بشيء} أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. {إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} ضرب اللّه عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد؛ قال: فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون اللّه كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر: فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت قال علي رضي اللّه عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى {إلا كباسط} إلا كاستجابة باسط كفيه {إلى الماء} فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله: {ليبلغ فاه} متعلقة بالبسط، وقوله: {وما هو ببالغه} كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون {هو} كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء. {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال: {أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلوا عنا} [الأعراف: ٣٧] وقال ابن عباس: أي أصوات الكافرين محجوبة عن اللّه فلا يسمع دعاءهم. ١٥ قوله تعالى: {وللّه يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. وقال ابن زيد: {طوعا} من دخل في الإسلام رغبة، و{كرها} من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل: {طوعا} من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و{كرها} من يكره نفسه للّه تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى {والأرض} وبعض من في الأرض. قال القشري: وفي الآية مسلكان: أحدهما: أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني: وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان: أحدهما: أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني: وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: ٤٤] وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة. قوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والآصال} أي ظلال الخلق ساجدة للّه تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف اللّه إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق اللّه من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا للّه وهم داخرون} [النحل: ٤٨] قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع؛ وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره. وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت. قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل؛ فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب؛ يقال: سجدت النخلة أي مالت. و{الآصال} جمع أصل، والأصل جمع أصيل؛ وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع؛ قال أبو ذؤيب الهذلي: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل و{ظلالهم} يجوز أن يكون معطوفا على {من} ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و{بالغدو} يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به. ١٦ قوله تعالى: {قل من رب السماوات والأرض قل اللّه} أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قل من رب السماوات والأرض} ثم أمره أن يقول لهم: هو اللّه إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. {قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا} هذا يدل على اعترافهم بأن اللّه هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: {قل أفاتخذتم من دونه أولياء} معنى؛ دليله قوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه} [الزمر: ٣٨] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره؟،! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر؛ وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: {قل هل يستوي الأعمى والبصير} فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق. وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون اللّه، والبصير مثل اللّه تعالى: {أم هل تستوي الظلمات والنور} أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي {يسوي} بالياء لتقدم الفعل؛ ولأن تأنيث {الظلمات} ليس بحقيقي. الباقون بالتاء؛ واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و{الظلمات والنور} مثل الإيمان والكفر؛ ونحن لا نقف على كيفية ذلك. {أم جعلوا للّه شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} هذا من تمام الاحتجاج؛ أي خلق غير اللّه مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق اللّه من خلق آلهتهم. {قل اللّه خالق كل شيء} أي قل لهم يا محمد: {اللّه خالق كل شيء}، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق اللّه. {وهو الواحد} قبل كل شيء. {القهار} الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع؛ أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة؛ فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو اللّه فكيف يجوز اعتداد الشريك له؟ ! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟ !. ١٧ قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا} ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه. قال مجاهد: {فسالت أودية بقدرها} قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن {بقدرها} بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي: {فسالت أودية} توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى {بقدرها} بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. {فاحتمل السيل زبدا رابيا} أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد. ثم قال: {ومما يوقدون عليه في النار} وهو المثل الثاني. {ابتغاء حلية} أي حلية الذهب والفضة. {أو متاع زبد مثله} قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: {زبد مثله} أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: {كذلك يضرب اللّه الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء} قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ {جفالا} قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما اللّه للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد. والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه اللّه للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: {أنزل من الماء ماء} قال: قرآنا، {فسالت أودية بقدرها} قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب {سوق العروس} إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن اللّه سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، {يوقدون} بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله: {ينفع الناس} فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: {أفاتخذتم من دونه أولياء} [الرعد: ١٦] الآية. وقوله: {في النار} متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في {عليه} التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كامئا. وفي قوله: {في النار} ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق {في النار} بـ {يوقدون} من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار؛ لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: {في النار} غير مقيد. وقوله: {ابتغاء حلية} مفعول له. {زبد مثله} ابتداء وخبر؛ أي زبد مثل زبد السيل. وقيل: إن خبر {زبد} قوله: {في النار} الكسائي: {زبد} ابتداء، و{مثله} نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو {مما يوقدون}. {كذلك يضرب اللّه الأمثال} أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام. ١٨ قوله تعالى: {للذين استجابوا لربهم} أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال: فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه اللّه من التوحيد والنبوات. {الحسنى} لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. {والذين لم يستجيبوا} أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. {لو أن لهم ما في الأرض جميعا} أي من الأموال. {ومثله معه} ملك لهم. {لافتدوا به} من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في {آل عمران} {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا} [آل عمران: ١٠]، {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} [آل عمران: ٩١] حسب ما تقدم بيانه هناك. {أولئك لهم سوء الحساب} أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة. وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي: يا فرقد! أتدري ما سوء الحساب؟ قلت لا! قال أن يحاسب الرجل: بذنبه كله لا يفقد منه شيء. {ومأواهم جهنم} أي مسكنهم ومقامهم. {وبئس المهاد} أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم. ١٩ قوله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} هذا مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب رضي اللّه عنه، وأبي جهل لعنه اللّه. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. {إنما يتذكر أولو الألباب}. ٢٠ قوله تعالى: {الذين يوفون بعهد اللّه} هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد اللّه. والعهد اسم الجنس؛ أي بجميع عهود اللّه، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: {ولا ينقضون الميثاق} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة اللّه عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم اللّه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه اللّه على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: (كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: ألا تبايعون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك حتى قالها ثلاثا؛ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول اللّه! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: (أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية - قال: لا تسألوا الناس شيئا). قال: ولقد كان بعضد، أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله. إياه. قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث؛ فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا؛ قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق؛ فلما حل في قعره قال: استغيث لعل أحدا يسمعني. ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، واللّه! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سد هذا البئر؛ ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: واللّه! لا أخرج منها أبدا؛ ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت من يراك؟ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك! قال: فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر؛ فخرجت فلم أر أحدا؛ فسمعت هاتفا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد: نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف قال ابن العربي: هذا رجل عاهد اللّه فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء اللّه تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم يخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: (اخف عنا). فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور؛ وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن اللّه تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع؛ لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على اللّه تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب؛ ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار؛ قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه. وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة: {فجاء أسد فأخرجني} فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من اللّه تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون اللّه تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة للّه تعالى عنده، وقد أمره بحفظها. ٢١ قوله تعالى: {والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل} ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. {ويخشون ربهم} قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. {ويخافون سوء الحساب} سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. {يصلون ما أمر اللّه به} الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى اللّه عليه وسلم. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ {ويخشون ربهم} فيما أمرهم بوصله، {ويخافون سوء الحساب} في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وباللّه توفيقنا. ٢٢ قوله تعالى: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} قيل: {الذين} مستأنف؛ لأن {صبروا} ماض فلا ينعطف على {يوفون} وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان {الذين} يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال: {الذين يوفون} ثم قال: {والذين صبروا} ثم عطف عليه فقال: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} قال ابن زيد: صبروا على طاعة اللّه، وصبروا عن معصية اللّه. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه اللّه {وأقاموا الصلاة} أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. {وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في {البقرة} وغيرها. {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال، قال ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسفه السيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا اللّه؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: ١١٤] ومنه قول عليه السلام لمعاذ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). قوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي؛ فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عني بالدار دار الدنيا؛ أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا. ٢٣ انظر تفسير الآية:٢٤ ٢٤ قوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها} أي لهم جنات عدن؛ فـ {جنات عدن} بدل من {عقبي} ويجوز أن تكون تفسيرا لـ{عقبى الدار} أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن {عقبى الدار} حدث و{جنات عدن} عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون {جنات عدن} خبر ابتداء محذوف. و{جنات عدن} وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قال القشيري أبو نصر عبدالملك. وفي صحيح البخاري: (إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) فيحتمل أن يكون {جنات} كذلك إن صح فذلك خبر. وقال عبداللّه بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج؛ فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. و{عدن} مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه؛ على ما يأتي بيانه في سورة {الكهف} إن شاء اللّه تعالى. {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} يجوز أن يكون معطوفا على {أولئك} المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في {يدخلونها} وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع {من} نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه اللّه بهم كرامة لهم. وقال ابن عباس: هذا الصلاح الإيمان باللّه والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه؛ بل برحمة اللّه تعالى. قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} أي بالتحف والهدايا من عند اللّه تكرمة لهم. {سلام عليكم} أي يقولون: سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم اللّه، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية. {بما صبرتم} أي بصبركم؛ فـ{ما} مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في {بما} متعلقة بمعنى. {سلام عليكم} ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر اللّه تعالى ونهيه؛ قال سعيد بن جبير. وقيل: على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل اللّه؛ كما روي عن عبداللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هل تدرون من يدخل الجنة من خلق اللّه)؟ قالوا: اللّه ورسول أعلم؛ قال: (المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). وقال محمد بن إبراهيم: (كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان؛ وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: (كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصري رحمه اللّه: {بما صبرتم} عن فضول الدنيا. وقيل: {بما صبرتم} على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية؛ قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: {بما صبرتم} عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا - {بما صبرتم} عن اتباع الشهوات. وعن عبداللّه بن سلام وعلي بن الحسين رضي اللّه عنهم أنهما قالا: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر؛ فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ قالوا: قبل الحساب؟ قالوا نعم! فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة اللّه، وصبرناها عن معاصي اللّه وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: {سلام عليكم بما صبرتم}. {فنعم عقبى الدار} أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها؛ عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه؛ فالعقبى على هذا اسم، و{الدار} هي الدنيا. وقال أبو عمران الجوني: {فنعم عقبى الدار} الجنة عن النار. وعنه: {فنعم عقبى الدار} الجنة عن الدنيا. ٢٥ قوله تعالى: {والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم. نقض الميثاق: ترك أمره. وقيل: إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا اللّه تعالى. {ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل} أي من الأرحام. والإيمان بجميع الأنبياء. {ويفسدون في الأرض} أي بالكفر وارتكاب المعاصي {أولئك لهم اللعنة} أي الطرد والإبعاد من الرحمة. {ولهم سوء الدار} أي سوء المنقلب، وهو جهنم. وقال سعد بن أبي وقاص: واللّه الذي لا إله إلا هو ! إنهم الحرورية. ٢٦ قوله تعالى: {اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان؛ فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم. {ويقدر} أي يضيق؛ ومنه {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: ٧] أي ضيق. وقيل: {يقدر} يعطي بقدر الكفاية. {وفرحوا بالحياة الدنيا} يعني مشركي مكة؛ فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند اللّه؛ وهو معطوف على {ويفسدون في الأرض}. وفي الآية تقديم وتأخير؛ التقدير: والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا. {وما الحياة الدنيا في الآخرة} أي في جنبها. {إلا متاع} أي متاع من الأمتعة، كالقصعة والسكرجة. وقال مجاهد: شيء قليل ذاهب؛ من متع النهار إذا ارتفع؛ فلا بد له من زوال. ابن عباس: زاد كزاد الراعي. وقيل: متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها. وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة، من التقوى والعمل الصالح، {ولهم سوء الدار} ثم ابتدأ. {اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يوسع ويضيق. ٢٧ قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبداللّه بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بالآيات. {قل إن اللّه يضل من يشاء} عز وجل {يضل من يشاء} أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها. {ويهدي إليه من أناب} أي من رجع. والهاء في {إليه} للحق، أو للإسلام، أو للّه عز وجل؛ على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وقيل: هي للنبي صلى اللّه عليه وسلم. ٢٨ قوله تعالى: {الذين آمنوا} {الذين} في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي اللّه الذين أمنوا. وقيل بدل من قوله: {من أناب} فهو في محل نصب أيضا. {وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه} أي تسكن وتستأنس بتوحيد اللّه فتطمئن؛ قال: أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر اللّه بألسنتهم؛ قال قتادة: وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن. وقال سفيان بن عيينة: بأمره. مقاتل: بوعده. ابن عباس: بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه. وقيل: {يذكر اللّه} أي يذكرون اللّه ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة. قوله تعالى: {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} أي قلوب المؤمنين. قال ابن عباس: هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه باللّه سكن قلبه. وقيل: {بذكر اللّه} أي بطاعة اللّه. وقيل: بثواب اللّه. وقيل: بوعد اللّه. وقال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم. ٢٩ قوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} ابتداء وخبره. وقيل: معناه لهم طوبى، فـ{طوبى} رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير: جعل لهم طوبى، ويعطف عليه {وحسن مآب} على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب. وذكر عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبدالسلمي قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال: فيها فاكهة؟ قال: (نعم شجرة تدعى طوبى) قال: يا رسول اللّه! أي شجر أرضنا تشبه؟ قال (لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها). قال: يا رسول اللّه! فما عظم أصلها! قال: (لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما). وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب {التذكرة}، والحمد للّه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبداللّه عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى؛ يقول اللّه تعالى لها: تفتقي لعبدي عما شاء؛ فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب. وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال: {طوبى} شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها؛ وقد قيل: إن أصلها في قصر النبي صلى اللّه عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا. وقال ابن عباس: {طوبى لهم} فرح لهم وقرة عين؛ وعنه أيضا أن {طوبى} اسم الجنة بالحبشية؛ وقال سعيد بن جبير. الربيع بن أنس: هو البستان بلغة الهند؛ قال القشيري: إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين. وقال قتادة: {طوبى لهم} حسنى لهم. عكرمة: نعمى لهم. إبراهيم النخعي: خير لهم، وعنه أيضا كرامة من اللّه لهم. الضحاك: غبطة لهم. النحاس: وهذه الأقوال متقاربة؛ لأن طوبى فعلى من الطيب؛ أي العيش الطيب لهم؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب. وقال الزجاج: طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم؛ والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا: موسر وموقن. قلت: والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (طوبى شجرة في الجنة غرسها اللّه بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة) ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي. وقال ابن عباس: {طوبى} شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن. وقال أبو جعفر محمد بن علي: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {طوبى لهم وحسن مآب} قال: (شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة) ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: (شجرة أصلها في دار على وفروعها في الجنة). فقيل له: يا رسول اللّه! سئلت عنها فقلت: (أصلها في داري وفروعها في الجنة) ثم سئلت عنها فقلت: (أصلها في دار علي وفروعها في الجنة) فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد) وعنه صلى اللّه عليه وسلم: (هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها) {وحسن مآب} آب إذا رجح. وقيل: تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه وعملوا الصالحات طوبى لهم. ٣٠ قوله تعالى: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم} أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن. وقيل: شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله. {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} يعني القرآن. {وهم يكفرون بالرحمن} قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي: (اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم) فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ اكتب باسمك اللّهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه) فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول اللّه ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبداللّه؛ فقال أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم: دعنا نقاتلهم؛ فقال: (لا ولكن اكتب ما يريدون) فنزلت. وقال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم: (اسجدوا للرحمن) [الفرقان: ٦٠] {قالوا وما الرحمن} فنزلت. {قل} لهم يا محمد: الذي أنكرتم. {هو ربي لا إله إلا هو} ولا معبود سواه؛ هو واحد بذاته؛ وإن اختلفت أسماء صفاته. {عليه توكلت} واعتمدت ووثقت. {وإليه متاب} أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره. وقيل: سمع أبو جهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: (يا اللّه يا رحمن) فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين؛ فنزلت هذه الآية، ونزل. {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: ١١٠]. ٣١ قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} هذا متصل بقوله: {لولا أنزل عليه آية من ربه} [يونس: ٢٠]. وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبداللّه بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول اللّه فأتاهم؛ فقال له عبداللّه: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا؛ فقد كان سليمان سحرت له الريح كما زعمت؛ فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله؛ أحق ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على اللّه منه؛ فأنزل اللّه تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} الآية؛ قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك؛ والجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه؛ كما قال امرؤ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزجاج: {ولو أن قرآنا} إلى قوله: {الموتى} لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} [الأنعام: ١١١] إلى قوله: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه} [الأنعام: ١١١]. {بل للّه الأمر جميعا} أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر اللّه. قوله تعالى: {أفلم ييئس الذين آمنوا} قال الفراء قال الكلبي: {ييأس} بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح. وقيل: هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري: أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في {البقرة} ويروى يأسرونني من الأسر. وقال رباح بن عدي: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا في كتاب الرد {أني أنا ابنه} وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم؛ والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات. وقيل: هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن اللّه تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار. وقرأ علي وابن عباس: {أفلم يتبين الذين آمنوا} من البيان. قال القشيري: وقيل لابن عباس المكتوب {أفلم ييئس} قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار {ييئس}. قال أبو بكر الأنباري: روي عن عكرمة عن ابن أبي: نجيح أنه قرأ - {أفلم يتبين الذين آمنوا} وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه: أفلم يتبين؛ فإن كان مراد اللّه تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد اللّه المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان. {أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا} {أن} مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء اللّه {لهدى الناس جميعا} وهو يرد على القدرية وغيرهم. قوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال: أفني تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين. وقال عكرمة عن ابن عباس: القارعة النكبة. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم {أو تحل} أي القارعة. {قريبا من دارهم} قاله قتادة والحسن. وقال ابن عباس: أو تحل أنت قريبا من دارهم. وقيل: نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة. {حتى يأتي وعد اللّه} في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل: نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد اللّه بالإذن لك في قتالهم وقهرهم. وقال الحسن: وعد اللّه يوم القيامة. ٣٢ قوله تعالى: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم} تقدم معنى الاستهزاء في {البقرة} ومعنى الإملاء في {آل عمران} أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة. {فكيف كان عقاب} أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك. ٣٣ قوله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال: قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل: {أفمن هو قائم} أي عالم؛ قاله الأعمش. قال الشاعر: فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت واللّه قائم أي عالم؛ فاللّه عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. {وجعلوا} حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على {استهزئ} أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا {للّه شركاء} يعني أصناما جعلوها آلهة. {قل سموهم} أي قل لهم يا محمد: {سموهم} أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون: اللات والعزى ومناة وهبل. {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} {أم} استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله: {سموهم} معناه: ألهم أسماء الخالقين. {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض}؟. وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون اللّه بباطن لا يعلمه. {أم بظاهر من القول} يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم: إن اللّه لا يعلم لنفسه شريكا. وقيل: {أم تنبئونه} عطف على قوله: {أفمن هو قائم} أي أفمن هو قائم، أم تنبئون اللّه بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون للّه شريكا، واللّه لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض. ومعنى. {أم بظاهر من القول}: الذي أنزل اللّه على أنبيائه. وقال قتادة: معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر: أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر أي باطل. وقال الضحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام: أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. {بل زين للذين كفروا مكرهم} أي دع هذا! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: استدراك. على هذا الوجه، أي ليس للّه شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس ومجاهد - {بل زين للذين كفروا مكرهم} مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم اللّه تعالى، وقيل: الشيطان. ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا. {وصدوا عن السبيل} أي صدهم اللّه؛ وهي قراءة حمزة والكسائي. الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله: {ويصدون عن سبيل اللّه} [الأنفال: ٤٧] وقوله: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} [الفتح: ٢٥]. وقراءة الضم أيضا حسنة في {زين} و{صدوا} لأنه معلوم أن اللّه فاعل، ذلك في مذهب أهل السنة؛ ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - {وصِدوا} بكسر الصاد؛ وكذلك. {هذه بضاعتنا ردت إلينا} [يوسف: ٦٥] بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله؛ وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر. {ومن يضلل اللّه} بخذلانه. {فما له من هاد} أي موفق؛ وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم؛ لقوله: {، ومن يضلل اللّه} فكذلك قوله: {وصدوا}. ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء؛ وكذلك {وال} و{واق}؛ لأنك تقول في الرجل: هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين. وقرئ {فما له من هادي} و{والي} و{واقي} بالياء؛ وهو على لغة من يقول: هذا داعي وواقي بالياء؛ لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف؛ فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي. وقال الخليل في نداء قاض: يا قاضي بإثبات الياء؛ إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي. ٣٤ قوله تعالى: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} أي للمشركين الصادين: بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد؛ من قولك: شق علي كذا يشق. {وما لهم من اللّه من واق} أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و{من} زائدة. ٣٥ قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} اختلف النحاة في رفع {مثل} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع الابتداء وخبره {تجري من تحتها الأنهار} أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال اللّه تعالى: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} [الفتح: ٢٩] وقال: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: ٦٠] أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك؛ كما تقول: مررت برجل شبهك؛ قال: ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج: مثل اللّه عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال: لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: ١١]: أي ليس هو كشيء. وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة {تجري من تحتها الأنهار} وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل. {أكلها دائم وظلها} لا ينقطع؛ وفي الخبر: (إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى) وقد بيناه في {التذكرة}. {وظلها} أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني. {تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها. ٣٦ قوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبداللّه بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل اللّه تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: ١١٠] فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، اللّه والرحمن! واللّه ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت: {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} [الأنبياء: ٣٦] {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: ٣٠] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل اللّه تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك}. {ومن الأحزاب} يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس. وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن اللّه خالق السماوات والأرض. {قل إنما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به} قراءة الجماعة بالنصب عطفا على {أعبد}. وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن اللّه وعزير ابن اللّه، ومن اعتقد التشبيه كاليهود. {إليه أدعو} أي إلى عبادته أدعو الناس. {وإليه مآب} أي أرجع في أموري كلها. ٣٧ قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. {ولئن اتبعت أهواءهم} أي أهواء المشركين في عبادة ما دون اللّه، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. {بعدما جاءك من العلم ما لك من اللّه من ولي ولا واق} أي ناصر ينصرك. {ولا واق} يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد الأمة. ٣٨ قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل اللّه هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: {ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل اللّه من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي. هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى اللّه عليه وسلم: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم) الحديث. وقد تقدم في {آل عمران} وقال: (من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق اللّه في النصف الثاني). ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليهما الجنة فقال: (من وقاه اللّه شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه) خرجه الموطأ وغيره. وفي صحيح البخاري عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى اللّه عليه وسلم! قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما واللّه إني لأخشاكم للّه وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني). خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في {آل عمران} الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبي أن يخرج اللّه مني من يكاثر به النبي صلى اللّه عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) يعني بقول: (أنتق أرحاما) أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا. وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال {لا} ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم). صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك. قوله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه} عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل اللّه ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. {لكل أجل كتاب} أي لكل أمر قضاه اللّه كتاب عند اللّه؛ قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه اللّه أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره. {لكل نبأ مستقر} [الأنعام: ٦٧]؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب. وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة. وذكر الترمذي الحكيم في {نوادر الأصول} عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات اللّه عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال: يا موسى ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حلي الرجال، قال: فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه {لكل أجل كتاب}. ٣٩ قوله تعالى: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت} أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. {ويثبت} ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. {ويثبت} أي ويثبته؛ كقوله: {والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات} [الأحزاب: ٣٥] أي والذاكرات اللّه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {ويثبت} بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول: {يثبت اللّه الذين آمنوا} [إبراهيم: ٢٧]. وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت). وقال ابن عباس: يمحو اللّه ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو اللّه منهما ما يشاء ويثبت. {وعنده أم الكتاب} الذي لا يتغير منه شيء. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم. قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ: توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر واللّه أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللّهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللّهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللّهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب اللّه لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللّهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: (من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه). ومثله عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (من أحب) فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان: أحدهما: معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم اللّه ثابت لا تبدل له، كما قال: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (من أحب أن يمد اللّه في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق اللّه وليصل رحمه) كيف يزاد في العمر والأجل؟ ! فقال: قال اللّه عز وجل: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام: ٢]. فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني: يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا اللّه؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده اللّه في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه اللّه من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: ٣٤] فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، واللّه أعلم. وقال مجاهد: يحكم اللّه أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه. وقال الضحاك: يمحو اللّه ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو اللّه ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، {يمحو اللّه ما يشاء} يقول: يبدل اللّه من القرآن ما يشاء فينسخه، {ويثبت} ما يشاء فلا يبدله، {وعنده أم الكتاب} يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى: {إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا} [الفرقان: ٧٠] الآية. وقال الحسن: {يمحو اللّه ما يشاء} من جاء أجله، {ويثبت} من لم يأت أجله. وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي. وقال السدي: {يمحو اللّه ما يشاء} يعني: القمر، {ويثبت} يعني: الشمس؛ بيانه قوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء: ١٢] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله: {اللّه يتوفى الأنفس حين موتها} الآية [الزمر: ٤٢]. وقال علي بن أبي طالب يمحو اللّه ما يشاء من القرون، كقوله: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون} [يس: ٣١] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} [المؤمنون: ٣١] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا. وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة اللّه، ثم يعمل بمعصية اللّه فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية اللّه الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه اللّه من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. وقيل: يمحو اللّه ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة. وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو اللّه فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. وقال ابن عباس: إن للّه لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، للّه فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء). والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء اللّه؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، واللّه أعلم. وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم اللّه محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. {وعنده أم الكتاب} أصل ما كتب من الآجال وغيرها. وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل. وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم اللّه ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم اللّه، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} [الأنبياء: ١٠٥] وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم اللّه تعالى بما خلق وبما هو خالق. ٤٠ قوله تعالى: {وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم} {ما} زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} [الرعد: ٣٤] وقوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} [الرعد: ٣١] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم {أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ} فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ {وعلينا الحساب} أي الجزاء والعقوبة. ٤١ قوله تعالى: {أولم يروا} يعني، أهل مكة، {أنا نأتي الأرض} أي نقصدها. {ننقصها من أطرافها} اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد: {ننقصها من أطرافها} موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول اللّه تعالى: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول. قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، {ننقصها من أطرفها} قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك. وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: نقصها بجور ولاتها. قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، واللّه أعلم. قوله تعالى: {واللّه يحكم لا معقب لحكمه} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير. {وهو سريع الحساب} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج. في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في {البقرة} بيانه. ٤٢ قوله تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. {فللّه المكر جميعا} أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فللّه خير المكر؛ أي يجازيهم به. {يعلم ما تكسب كل نفس} من خير وشر، فيجازي عليه. {وسيعلم الكفار} كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون: {الكفار} على الجمع. وقيل: عني به أبو جهل. {لمن عقبى الدار} أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد ٤٣. وا لست مرسلا} قال قتادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. {قل كفى باللّه} أي قل لهم يا محمد: {كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم} بصدقي وكذبكم. {ومن عنده علم الكتاب} وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبداللّه بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير. وروى الترمذي عن ابن أخي عبداللّه بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبداللّه بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك؛ قال: أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبداللّه بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبداللّه، ونزلت في آيات من كتاب اللّه؛ فنزلت في. {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: ١٠] ونزلت في. {قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب {التذكرة}. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه الجاهلية حصين فسماه النبي صلى اللّه عليه وسلم عبداللّه. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير {ومن عنده علم الكتاب}؟ قال: هو عبداللّه بن سلام. قلت: وكيف يكون عبداللّه بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي. وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو اللّه تعالى؛ وكانوا يقرؤون {ومن عنده علم الكتاب} وينكرون على من يقول: هو عبداللّه بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ {ومن عنده علم الكتاب} وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - {ومِن عنده} بكسر الميم والعين والدال {علم الكتاب} بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبداللّه بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبداللّه بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، واللّه أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صلى اللّه عليه وسلم. (أنا مدينة العلم وعلي بابها) وهو حديث باطل؛ النبي صلى اللّه عليه وسلم علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى اللّه عليه وسلم بصدقه. قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبداللّه بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبداللّه بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا} يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبداللّه بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ واللّه أعلم بحقيقة ذلك. |
﴿ ٠ ﴾