ÓõæÑóÉõ ÇáúßóåúÝö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÚóÔúÑõ ÂíÇóÊò

سورة الكهف

سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله {جرزا} [الكهف: ٨]، والأول أصح.

وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبداللّه بن أبي فروة: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك). قالوا: بلى يا رسول اللّه؟ قال:

(سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال) ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال). وفي رواية (من آخر الكهف). وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان

(فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف). وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال). ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.

_________________________________

١

انظر تفسير الآية:٣

٢

انظر تفسير الآية:٣

٣

ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى اللّه عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غدا) ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث اللّه إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند اللّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل: (لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا) فقال له جبريل: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} [مريم: ٦٤].

فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى اللّه عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: {الحمد اللّه الذي أنزل على عبده الكتاب} يعني محمدا، إنك رسول مني، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك.

{ولم يجعل له عوجا قيما} أي معتدلا لا اختلاف فيه.

{لينذر بأسا شديدا من لدنه} أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا.

{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا} أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال.

{وينذر الذين قالوا اتخذ اللّه ولدا} [الكهف: ٤] بعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات اللّه.

{ما لهم به من علم ولا لآبائهم} [الكهف: ٥] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم.

{كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: ٥] أي لقولهم إن الملائكة بنات اللّه.

{إن يقولون إلا كذبا. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف: ٦] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام:

{باخع نفسك} مهلك نفسك؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:

ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر

وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له.

{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} [الكهف: ٧] قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي:

{وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: ٨] أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم

وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: (إياكم والقعود على الصعدات) يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:

طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال:

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} [الكهف: ٩] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:

ومستقر المصحف المرقم

وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال

{إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف: ١٢]. ثم قال:

{نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: ١٣] أي بصدق الخبر

{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا} [الكهف: ١٤] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق:

{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين} [الكهف: ١٥]. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة.

{فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا. وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه} [الكهف: ١٧]. قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:

جدب المندي عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسه العشنزر

وهذان البيتان في أرجوزة له. و{تقرضهم ذات الشمال} تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس

وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:

ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار

{ذلك من آيات اللّه} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم.

{من يهد اللّه فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} [الكهف: ] قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:

بأرض فلاة لا يسد وصيلاها علي ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان.

{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم} [الكهف: ] أهل السلطان والملك منهم.

{لنتخذن عليهم مسجدا. سيقولون} [الكهف:٢١] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم.

{ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم} أي لا تكابرهم.

{إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا} [الكهف:٢٢] فإنهم لا علم لهم بهم.

{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء اللّه واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف:٢٤] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة اللّه، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك.

{ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} [الكهف: ] أي سيقولون ذلك.

{قل اللّه اعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف:٢٦] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه.

قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول:

قد تقدم معنى الحمد للّه. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد للّه الزي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و{قيما} نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض.

وقيل: {قيما} على الكتب السابقة يصدقها.

وقيل: {قيما} بالحجج أبدا.

{عوجا} مفعول به؛ والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلقا؛ كما قال تعالى: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء:٨٢] وقيل: أي لم يجعله مخلوقا؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى {قرآنا عربيا غير ذي عوج} [الزمر:٢٨] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: {عوجا} اختلافا. قال الشاعر:

أدوم بودي للصديق تكرما ولا خير فيمن كان في الود أعوجا

{لينذر بأسا شديدا} أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب اللّه. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة.

{من لدنه} أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {من لدنه} بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون {لدنه} بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي {لدن} ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:

من لد لحييه إلى منحوره

المنحور لغة المنحر.

قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم} أي بأن لهم {أجرا حسنا} وهي الجنة.

{ماكثين} دائمين.

{فيه أبدا} لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في {بأن}. والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.

٤

انظر تفسير الآية:٥

٥

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا} وهم اليهود، قالوا عزير ابن اللّه، والنصارى قالوا المسيح ابن اللّه، وقريش قالت الملائكة بنات اللّه. فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال للّه ولد.

{ما لهم به من علم} {من} صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل.

{ولا لآبائهم} أي أسلافهم.

{كبرت كلمة} {كلمة} نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {كلمة} بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ اللّه ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن.

{تخرج من أفواههم} في موضع الصفة.

{إن يقولون إلا كذبا} أي ما يقولون إلا كذبا.

٦

قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} {باخع} أي مهلك وقاتل؛ وقد تقدم.

{آثارهم} جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك.

{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} أي القرآن. {أسفا} أي حزنا وغضبا على كفرهم؛ وانتصب على التفسير.

٧

قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة} {ما} و{زينة} مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد.

وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء.

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} قال: العلماء زينة الأرض.

وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها؛ فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.

معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(إن الدنيا خضرة حلوة واللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون). وقوله صلى اللّه عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج اللّه لكم من زهرة الدنيا) قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: (بركات الأرض) خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري.

والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى اللّه بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة اللّه إلا [أن] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللّهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا اللّه أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام:

(فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع). وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن اللّه تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه اللّه بما آتاه.

وقال ابن عطية: كان أبي رضى اللّه عنه يقول في قوله {أحسن عملا}: أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.

قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى اللّه عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبداللّه الثقفي لما قال: يا رسول اللّه، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية: غيرك. قال: (قل آمنت باللّه ثم استقم) خرجه مسلم.

وقال سفيان الثوري: {أحسن عملا} أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني:

{أحسن عملا} أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم: قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء؛ قاله سفيان الثوري.

قال علماؤنا: وصدق رضي اللّه عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ.

وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه.

وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس.

وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها؛ قال إبراهيم بن أدهم.

وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك.

وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.

٨

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} تقدم بيانه. وقال أبو سهل: ترابا لا نبات به؛ كأنه قطع نباته. والجرز: القطع؛ ومنه سنة جرز. قال الراجز:

قد جرفتهن النون الأجراز

والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة؛ فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز.

٩

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} مذهب سيبويه أن {أم} إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة.

وقيل: {أم} عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبي صلى اللّه عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات اللّه أعظم من قصتهم وأشيع؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدم. فلما نزل قال اللّه تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي: خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الإسراء أعجب. الماوردي: معنى الكلام النفي؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النقب المتسع في الجبل؛ وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل؛ وهذا غير شهير في اللغة.

واختلف الناس في الرقيم؛ فقال ابن عباس: كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين وحنان والأواه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرقيم واد. وقال السدي: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غم اللّه علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته.

وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا. وكذا قال القراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا.

فال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمة الوادي؛ أي مكان جري الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض؛ لأن القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده.

وروى عنه سعيد بن جبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته؛ فذلك اللوح هو الرقيم.

وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان؛ فاللّه اعلم. وعن ابن عباس أيضا: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة.

وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر.

وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم؛ فذكر كل واحد منهم أصلح عمله.

قلت: وفي هذا خير معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري.

وقال قوم: أخبر اللّه عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. واللّه اعلم.

وقيل: الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء؛ يقال: عليك بالرقمة ودع الضفة؛ ذكره الغزنوي.

قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها.

قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم، لأن اللّه تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} [الكهف: ١٨]. وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع اللّه من هو خير منك عن ذلك؛ وسيأتي في آخر القصة.

وقال مجاهد في قول {كانوا من آياتنا عجبا} قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه؛ يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب.

وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا.

١٠

قوله تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقينوس.

وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى.

وقيل: كانوا قبل عيسى، واللّه اعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس.

وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى اللّه أبصارهم فلم يروا شيئا؛ فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا.

وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر باللّه، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا باللّه ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة اللّه؛ فرفع أمرهم إلى الملك

وقيل لي: إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل؛ فقالوا له فيما

روي: {ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذا اعتزلتموهم} [الكهف: ١٦] وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح اللّه لنا؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم.

وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك.

وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم اللّه تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به؛ فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا؛ فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما؛ ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف.

وقيل في خروجهم غير هذا.

وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم؛ قال ابن عباس. واسم الكلب حمران

وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم.

هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة {النحل}. وقد نص اللّه تعالى على ذلك في {براءة} وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات اللّه عليهم والأولياء. وقد فضل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص اللّه تعالى عليها في كتابه فقال: {فأوُوا إلى الكهف}.

وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت؛ وقد جاء في الخبر: (إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك). ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر اللّه فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.

وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم). وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (نعم صوامع المؤمنين بيوتهم) من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما النجاة يا رسول اللّه؟ فقال:

(يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك). وقال صلى اللّه عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن). خرجه البخاري.

وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال). وذكر أيضا علي بن سعد عن عبداللّه بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية اللّه فإذا كان ذلك حلت العزبة). قالوا: يا رسول اللّه، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال:

(إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران). قالوا وكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال:

(يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها).

قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه فأووا إلى الكهف} [الكهف: ١٦]. ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا.

وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب؛ مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - واللّه اعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، واللّه الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول اللّه عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة). خرجه النسائي.

قوله تعالى: {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجؤوا إلى اللّه تعالى فقالوا: {ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي مغفرة ورزقا.

{وهيئ لنا من أمرنا رشدا} توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

١١

عبارة عن إلقاء اللّه تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا؛ لأن النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم؛ أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها.

وقيل: المعنى {فضربنا على آذانهم} أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:

ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد

وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى اللّه عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و{عددا} نعت للسنين؛ أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير؛ لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط.

وقال أبو عبيدة: {عددا} نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين اللّه تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال: {ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا} [الكهف: ٢٥].

١٢

قوله تعالى: {ثم بعثناهم} أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث؛ لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف.

{لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} {لنعلم} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته؛ وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان اللّه تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري {ليعلم} بالياء. والحزبان الفريقان،

والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا.

والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين.

وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف.

وقيل: هما حزبان من المؤمنين.

وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية.

و{أحصى} فعل ماض. و{أمدا} نصب على المفعول به؛ قاله أبو علي. وقال الفراء: نصب على التمييز. وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية. وقال مجاهد: {أمدا} نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري: {أمدا} منصوب بـ {لبثوا}.

ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و{أحصى} فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر؛ كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صلى اللّه عليه وسلم: (ماؤه أبيض من اللبن). وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.

١٣

قوله تعالى: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} لما اقتضى قوله تعالى {لنعلم أي الحزبين أحصى} اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع.

{إنهم فتية} أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة؛ كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى.

وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم.

وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا؛ لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة. {وزدناهم هدى} أي يسرناهم للعمل الصالح؛ من الانقطاع إلى اللّه تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الإيمان. وقال السدي: زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم؛ فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه اللّه، فقال: يا قوم لم تطردونني، لم ترجمونني لم تضربونني فواللّه لقد عرفت اللّه قبل أن تعرفوه بأربعين سنة؛ فزادهم اللّه بذلك هدى.

١٤

قوله تعالى: {وربطنا على قلوبهم} عبارة عن شدة عزم وقوة صبر، أعطاها اللّه لهم حتى قالوا بين يدي الكفار: {ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا}. ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط؛ ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى: {وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} [الأنفال: ١١] وقد تقدم.

قوله تعالى: {إذ قاموا فقالوا} يحتمل ثلاثة معان:

أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات اللّه هيبته.

والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد؛ فقال أسنهم: إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا: {ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا}. أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا.

والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى اللّه تعالى ومنابذة الناس؛ كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد.

قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول {إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض}.

قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا اللّه على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم؛ وهذه سنة اللّه في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان؛ هيهات بينهما واللّه ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء اللّه تعالى. وقد تقدم في {سبحان} عند قوله: {ولا تمش في الأرض مرحا} [الإسراء: ٣٧] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي.

١٥

قوله تعالى: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة} أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة.

{لولا} أي هلا. {يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} أي بحجة على عبادتهم الصنم.

وقيل: {عليهم} راجع إلى الآلهة؛ أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة؛ فقولهم {لولا} تحضيض بمعنى التعجيز؛ وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم.

١٦

قوله تعالى: {وإذ اعتزلتموهم} قيل: هو من قول اللّه لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاؤوا إلى الكهف.

وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا؛

فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال {إلا اللّه} أي إنكم لم تتركوا عبادته؛ فهو استثناء منقطع.

قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون اللّه، ولا علم لهم به؛ وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون اللّه كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة اللّه.

وفي مصحف عبداللّه بن مسعود {وما يعبدون من دون اللّه}. قال قتادة هذا تفسيرها.

قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه} قال: كان فتية من قوم يعبدون اللّه ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة اللّه.

ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون {إلا} بمنزلة غير، و{ما} من قوله {وما يعبدون إلا اللّه} قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول {اعتزلتموهم}. ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا باللّه تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على اللّه؛ فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من اللّه في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم. {مرفقا} قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه؛ ومنهم من يجعل {المرفق} بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان.

١٧

قوله تعالى: {وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين} أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. و{تزاور} تتنحى وتميل؛ من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين؛ كما قال ابن أبي ربيعة:

وجنبي خيفة القوم أزور ومن اللفظة قول عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه

وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى في سرير عبداللّه بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {تزاور} بإدغام التاء في الزاي، والأصل {تتزاور}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تزاور} مخففة الزاي. وقرأ ابن عامر {تزور} مثل تحمر. وحكى الفراء {تزوار} مثل تحمار؛ كلها بمعنى واحد.

{وإذا غربت تقرضهم} قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه؛ والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم؛ وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم.

وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من اللّه، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة {بقرضهم} بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس.

وقيل: {وإذا غربت تقرضهم} أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن اللّه تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس علبهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحر أو برد.

{وهم في فجوة منه} أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء؛ مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر:

ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل

أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء.

{ذلك من آيات اللّه} لطف بهم.

{من يهد اللّه فهو المهتدي} أي لو هداهم اللّه لاهتدوا.

{ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} أي لا يهديهم أحد.

١٨

قوله تعالى: {وتحسبهم أيقاظا} وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا.

وقيل: تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه.

و{أيقاظا} جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه.

{وهم رقود} كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر.

{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة: كان لهم في كل عام تقليبتان.

وقيل: في كل سنة مرة. وقال مجاهد: في كل سبع سنين مرة.

وقالت فرقة: إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل اللّه، ويجوز أن يكون من ملك بأمر اللّه، فيضاف إلى اللّه تعالى.

قوله تعالى: {وكلبهم} قال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [قال] في ليله أو في نهاره: صلى اللّه على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [إذا قال]: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.

أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه؛ على ما قال مقاتل.

واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي. تحصيله: أي لون ذكرت أصبت؛ حتى قيل لون الحجر

وقيل لون السماء.

واختلف أيضا في اسمه؛ فعن علي: ريان. ابن عباس: قطمير. الأوزاعي: مشير. عبداللّه بن سلام: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا.

وقيل قطمير؛ ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس: هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب: مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا مني أنا أحب أحباء اللّه تعالى فناموا حتى أحرسكم.

ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان). وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط). قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم اللّه أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ واللّه اعلم. وقال في إحدى الروايتين (قيراطان) وفي الأخرى (قيراط). وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر؛ أخرجه الصحيح. وقال: (عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان). ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص؛ كالفرس والهرة. واللّه اعلم.

وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في {المائدة} من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد للّه.

الرابعة: قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي اللّه عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم في ذكره اللّه في محكم تنزيله.

قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر اللّه تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى اللّه عليه وسلم وآله خير آل.

روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول اللّه، متى الساعة؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما أعددت لها) قال: ولا صدقة، ولكني أحب اللّه ورسوله. قال: (فأنت مع من أحببت). في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (فأنت مع من أحببت). قال أنس: فأنا أحب اللّه ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.

قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين؛ كلب أحب قوما فذكره اللّه معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صلى اللّه عليه وسلم، {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: ٧].

وقالت فرقة: لم يكن كلبا حقيقة، وإنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا؛ لأنه منها كالكلب من الإنسان؛ ويقال له: كلب الجبار.

قال ابن عطية: فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة؛ ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب).

وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ {وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد}. فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي؛ إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق {كالبهم} يعني صاحب الكلب.

قوله تعالى: {باسط ذراعيه} أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي؛ لأنها حكاية حال ولم يفصد الإخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى.

ثم قيل: بسط ذراعيه لطول المدة.

وقيل: نام الكلب، وكان ذلك من الآيات.

وقيل: نام مفتوح العين. {بالوصيد} الوصيد: القناء؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد.

وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد:

بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر

وقد تقدم. وقال عطاء: عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد: النبات المتقارب الأصول، فهو مشترك، واللّه اعلم.

قوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها.

{لوليت منهم فرارا} أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم.

{ولملئت منهم رعبا} أي لما حفهم اللّه تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة.

وقيل: لوحشة مكانهم؛ وكأنهم آواهم اللّه إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم.

وقيل: كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم.

وقيل: الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم؛ وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد؛ لأنهم لما استيقظوا

قال بعضهم لبعض: لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها؛ إلا أن يقال: إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم.

قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن اللّه عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة {لملئت منهم} بتشديد اللام على تضعيف المبالغة؛ أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون {لملئت} بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبَّل السعدي:

وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملِّىء من كعب بن عوف سلاسله

وقرأ الجمهور {رعبا} بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم: هما لغتان.

و{فرارا} نصب على الحال و{رعبا} مفعول ثان أو تمييز.

١٩

قوله تعالى: {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم} البعث: التحريك عن سكون.

والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين عاث ونشوان

أي أيقظت واللام في قوله {ليتساءلوا} لام الصيرورة وهي لام العاقبة؛ كقوله {ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: ٨] فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم.

{قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم اللّه في آخر النهار؛ فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا: اللّه اعلم بالمدة.

قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الربع؛ ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بورقكم} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم {بورقكم} بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج {بورقكم} بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم؛ فيما ذكر الغزنوي. والمدينة: أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس؛ فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم.

قوله تعالى: {فلينظر أيها أزكى طعاما} قال ابن عباس: أحل ذبيحة؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوسا.

وقيل {أزكى طعاما} أي أكثر بركة.

قيل: إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز.

وقيل: كان زبيبا.

وقيل تمرا؛ فاللّه اعلم.

وقيل: {أزكى} أطيب.

وقيل أرخص.

قوله تعالى: {فليأتكم برزق منه} أي بقوت.

{وليتلطف} أي في دخول المدينة وشراء الطعام.

{ولا يشعرن بكم أحدا} أي لا يخبرن.

وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه.

في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي اللّه عنه؛ ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام؛ ألا ترى إلى عبدالرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة؛ أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبدالرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه.

روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة؛ فلما ذكرت الرحمن؛ قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى؛ من كتاب الأفعال.

الوكالة عقد نيابة، أذن اللّه سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه.

وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى: {والعاملين عليها} [التوبة: ٦٠] وقوله اذهبوا بقميصي في آخر الأنعام.

روى جبر بن عبداللّه قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر؛ فقال:

(إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية.

الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل؛ لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه.

في هذه الآية نكتة بديعة، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز.

قال ابن العربي: وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت؛ إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل.

قلت: هذا حسن؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى اللّه عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: (أعطوه) فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها؛ فقال: (أعطوه) فقال: أوفيتني أوفى اللّه لك. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إن خيركم أحسنكم قضاء). لفظ البخاري.

فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن؛ فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه؛ وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم مريضا ولا مسافرا.

وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه؛ وهذا الحديث خلاف قولهما.

قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر؛ ومثله قوله تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: ٢٢٠] حسبما تقدم بيانه في {البقرة}. ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية.

قال ابن العربي: ليس في الآية دليل على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين:

أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه.

الثاني: حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه.

قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكن} [البقرة: ٢٢٠] وقوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا} [النور: ٦١] على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

٢٠

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل.

وقيل: يرموكم بالسب والشتم؛ والأول أصح، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [عقوبة] مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها.

٢١

قوله تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و{أعثر} تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم.

{ليعلموا أن وعد اللّه حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم} {يتنازعون} يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض.

وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا؛ فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى اللّه تعالى في حجة وبيان، فأعثر اللّه على أهل الكهف؛ فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو اللّه أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره؛ فسر الملك بذلك وقال: لعل اللّه قد بعث لكن آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى {أعثرنا عليهم}.

{ليعلموا أن وعد اللّه حق} أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق

{إذ يتنازعون بينهم أمرهم}. وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا؛ فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا.

وروي أن طائفة كافرة قالت: نبني بيعة أو مضيفا، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا.

وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين.

وروي عن عبداللّه بن عمر أن اللّه تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.

وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل؛ فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا.

وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة؛ فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند اللّه تعالى يوم القيامة). لفظ مسلم.

قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صلى اللّه عليه وسلم عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال:

(اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد). وروى الصحيحان عن عائشة وعبداللّه بن عباس قالا: لما نزل برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة اللّه على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.

وروى مسلم عن جابر قال: نهي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي.

قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة. وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي اللّه عنهما - على ما ذكر مالك في الموطأ - وقبر أبينا آدم صلى اللّه عليه وسلم، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس.

وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر؛ مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح.

وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر.

وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة؛ لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كل جمعة وعلمته بصخرة؛ ذكره أبو عمر.

وأما الجائزة: فالدفن في التابوت؛ وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة.

روي أن دانيال صلوات اللّه عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات اللّه عليهم أجمعين؛ فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفي الصحيح عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا؛ كما صنع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. اللحد: هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق؛ لأنه الذي اختاره اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم.

وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد.

وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد.

وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر.

وكرهه أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الإحكام. وعلى هذا يسوي بين الحجر والآجر.

وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا؛ فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم حزمة من قصب. وحكي عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه اللّه أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد.

قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ فإن المدينة سبخة، قال شقران: أنا واللّه طرحت القطيفة تحت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القبر.

قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن غريب.

٢٢

قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} الضمير في {سيقولون} يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم. وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص.

وقيل: المراد به النصارى؛ فإن قوما منهم حضروا النبي صلى اللّه عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم.

وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى اللّه عليه وسلم عن أصحاب الكهف. والواو في قول {وثامنهم كلبهم} طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم؛ لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام.

وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية؛ فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال: إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله

{التائبون العابدون - ثم قال - والناهون عن المنكر والحافظون} [التوبة: ١١٢]. يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم

{حتى إذا جاؤوه فتحت أبوابها} [الزمر: ٧١] بلا واو، ولما ذكر الجنة قال:

{وفتحت أبوابها} [الزمر: ٧٣] بالواو. وقال

{خير منكن مسلمات} [التحريم: ٥] ثم قال

{وأبكارا} [التحريم: ٥] فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى:

{هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: ٢٣] ولم يذكر الاسم الثامن بالواو.

وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله {سبعة وثامنهم} لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب؛ ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين {رجما بالغيب} ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء؛ فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم: القول بالظن؛ يقال لكل ما يخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم؛ كما قال:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

قلت: قد ذكر الماوردي والغزنوي: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى {وثامنهم كلبهم} أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا. وقال القشري: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر

{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: ٤]. وفي موضع آخر:

{إلا لها منذرون. ذكرى} [الشعراء: ٢٠٨].

قوله تعالى: {قل ربي أعلم بعدتهم} أمر اللّه تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من أهل الكتاب؛ في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطي ودون الكردي. وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صيني. والصحيح أنه زبيري. وقال: ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو الحيري عني.

قوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك؛ وهو رد علم عدتهم إلى اللّه تعالى.

وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفي هذا دليل على أن اللّه تعالى لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال {إلا مراء ظاهرا} أي ذاهبا؛ كما قال:

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

ولم يبح له في هذه الآية أن يماري؛ ولكن قوله {إلا مراء} استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله {قيهم} عائد على أهل الكهف.

وقوله: {فلا تمار فيهم} يعني في عدتهم؛ وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها.

{ولا تستفت فيهم منهم أحدا} روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال. والضمير في قوله {منهم} عائد على أهل الكتاب المعارضين. وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.

٢٣

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٤

{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} قال العلماء عاتب اللّه تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم؛ ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة اللّه عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر؛ فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء اللّه خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله {لشيء} بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شيء.

قوله تعالى: {إلا أن يشاء اللّه}

قال ابن عطية: وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين.

وقوله: {إلا أن يشاء اللّه} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز؛ تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء اللّه؛ أو إلا أن تقول إن شاء اللّه. فالمعنى: إلا أن يذكر مشيئة اللّه؛ فليس

{إلا أن يشاء اللّه} من القول الذي نهي عنه.

قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش. وقال البصريون: المعنى إلا بمشيئة اللّه. فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء اللّه فمعناه بمشيئة اللّه.

قال ابن عطية: وقالت فرقة {إلا أن يشاء اللّه} استثناء من قوله

{ولا تقولن}. قال: وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في {المائدة}.

قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} وفيه مسألة واحدة، وهي الأمر بالذكر بعد النسيان –

واختلف في الذكر المأمور به؛ فقيل: هو قوله

{وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا} قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.

وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص.

وقيل: هو قوله {إن شاء اللّه} [الصافات: ١٠٢] الذي كان نسيه عند يمينه. حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى:

{واذكر ربك إذا نسيت} قال: يستثني إذا ذكره. الحسن: ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس: سنتين؛ ذكره الغزنوي قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم. فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا. السدي: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها.

وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى.

وقيل: اذكره متى ما نسيته.

وقيل: إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه.

وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك؛ فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وهي استفتاح كلام على الأصح، ولست من الاستثناء في المين بشيء، وهي بعد تعم جميع أمته؛ لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. واللّه الموفق.

٢٥

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} هذا خبر من اللّه تعالى عن مدة لبثهم. وفي قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا}. قال الطبري: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر اللّه تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر. فأمر اللّه تعالى أن يرد علم ذلك إليه.

قال ابن عطية: فقوله على هذا {لبثوا} الأول يريد في نوم الكهف، و{لبثوا} الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد صلى اللّه عليه وسلم، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء. مجاهد: إلى وقت نزول القرآن. الضحاك: إلى أن ماتوا.

وقال بعضهم: إنه لما قال {وازدادوا تسعا} لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام.

واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر اللّه تعالى برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة. وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية. وقيل غير هذا على ما يأتي. قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين؛ كما تقول: عندي مائة درهم وخمسة؛ والمفهوم منه خمسة دراهم. وقال أبو علي {وازدادوا تسعا} أي ازدادوا لبث تسع؛ فحذف. وقال الضحاك: لما نزلت

{ولبثوا في كهفهم ثلثمائة} قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام؛ فأنزل اللّه عز وجل {سنين}. وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام؛ فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع؛ إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين. ونحوه ذكر الغزنوي. أي باختلاف سني الشمس والقمر؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. وقرأ الجمهور {ثلثمائة سنين} بتنوين مائة ونصب سنين، على التقديم والتأخير؛ أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف، فتكون {سنين} على هذا بدلا أو عطف بيان.

وقيل: على التفسير والتمييز. و{سنين} في موضع سنة. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وترك التنوين؛ كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد. قال أبو علي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفي مصحف عبداللّه {ثلثمائة سنة}.

وقرأ الضحاك {ثلثمائة سنون} بالواو. وقرأ أبو عمرو بخلاف {تسعا} بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة.

٢٦

قوله تعالى: {قل اللّه أعلم بما لبثوا} قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم، على قول مجاهد. أو إلى أن ماتوا؛ على قول الضحاك. أو إلى وقت تغيرهم بالبلى؛ على ما تقدم.

وقيل: بما لبثوا في الكهف، وهي المدة التي ذكرها اللّه تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا. أي لا يعلم علم ذلك إلا اللّه أو من علمه ذلك {له غيب السماوات والأرض}.

{أبصر به وأسمع} أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة: لا أحد أبصر من اللّه ولا اسمع. وهذه عبارات عن الإدراك. ويحتمل أن يكون المعنى {أبصر به} أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور، واسمع به العالم؛ فيكونان أمرين لا على وجه التعجب.

وقيل. المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال اللّه فيهم.

قوله تعالى: {ما لهم من دونه من ولي} أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون اللّه. ويحتمل أن يعود الضمير في {لهم} على معاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم من الكفار. والمعنى: ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون اللّه يتولى تدبير أمرهم؛ فكيف يكونون اعلم منه، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم.

قوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحدا} قرئ بالياء ورفع الكاف، على معنى الخبر عن اللّه تعالى. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري {ولا تشرك} بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى اللّه عليه وسلم، ويكون قوله {ولا يشرك} عطفا على قوله:

{أبصر به واسمع}. وقرأ مجاهد {يشرك} بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه.

مسألة: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة؛ فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا: هذه عظام أهل الكهف. فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة؛ فسمعه راهب فقال: ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا؛ فقيل له: هذا ابن عم نبينا صلى اللّه عليه وسلم. وروت فرقة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد). ذكره ابن عطية.

قلت: ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى بن مريم عبداللّه ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع اللّه له ذلك فيجعل اللّه حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب {التذكرة}. فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة، بل يموتون قبيل الساعة.

٢٧

قوله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته} قيل: هو من تمام قصة أصحاب الكهف؛ أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات اللّه ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف. وقال الطبري: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه.

{ولن تجد} أنت {من دونه} إن لم تتبع القرآن وخالفته.

{ملتحدا} أي ملجأ

وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم: وهذا آخر قصة أصحاب الكهف. ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف؛ فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم؛ فقال ابن عباس: قد منع اللّه من هو خير منك عن ذلك، فقال: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا} [الكهف: ١٨] فقال: لا انتهي حتى اعلم علمهم، وبعث قوما لذلك، فلما دخلوا الكهف بعث اللّه عليهم ريحا فأخرجتهم؛ ذكره الثعلبي أيضا. وذكر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأل اللّه أن يريه إياهم، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجبريل عليه السلام: كيف أبعثهم؟ فقال: ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع علي بن أبي طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن اللّه تعالى يأمرها أن تطيعك؛ ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف، فقلعوا منه حجرا، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته؛ فرد اللّه على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا: عليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته؛ فقالوا لهم: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ عليكم السلام؛ فقالوا: وعلى محمد رسول اللّه السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا دينه وأسلموا، ثم قالوا: أقرئوا محمدا رسول اللّه منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي. فيقال: إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم اللّه ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة، فأخبر جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما كان منهم، ثم ردتهم الريح فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (كيف وجدتموهم)؟. فأخبروه الخبر؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(اللّهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي). وقيل: إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح؛ فأخبر اللّه تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة؛ ولهذا سألت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل: دخلوا الكهف بعد المسيح؛ فاللّه اعلم أي ذلك كان.

٢٨

قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} هذا مثل قوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الأنعام: ٥٢] في سورة {الأنعام} وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضي اللّه عنه: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول اللّه؛ إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل اللّه تعالى

{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا. واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها}. يتهددهم بالنار. فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون اللّه قال:

(الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات).

{يريدون وجهه} أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبدالرحمن

{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي} وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة.

وروي عن الحسن أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها؛ حكاه اليزيدي.

وقيل: لا تحتقرهم عيناك؛ كما يقال فلان تنبو عنه العين؛ أي مستحقرا.

قوله تعالى: {تريد زينة الحياة الدنيا} أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك؛ ولم يرد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن اللّه نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: ٦٥]. وإن كان اللّه أعاذه من الشرك.

و{تريد} فعل مضارع في موضع الحال؛ أي لا تعد عيناك مريدا؛ كقول امرئ القيس:

فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم؛ لأن {تعد} متعد بنفسه. قيل له: والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم؛ فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ كما قال تعالى:

{فلا تعجبك أموالهم} فأسند الإعجاب إلى الأموال،

والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج: إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.

قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة؛ فأنزل اللّه تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد.

{واتبع هواه} يعني الشرك.

{وكان أمره فرطا} قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان.

وقيل: من الإفراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس؛ وكان هذا من التكبر والإفراط ف في القول.

وقيل: {فرطا} أي قدما في الشر؛ من قولهم: فرط منه أمر أي سبق.

وقيل: معنى {أغفلنا قلبه} وجدناه غافلا؛ كما تقول: لقيت فلانا فأحمدته؛ أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب: واللّه لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم؛ أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين.

وقيل: نزلت {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} في عيينة بن حصن الفزاري؛ ذكره عبدالرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. واللّه اعلم.

٢٩

قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} {الحق} رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق.

وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله {من ربكم}. ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر؛ ليس إلي من ذلك شيء، فاللّه يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.

قوله تعالى: {إنا أعتدنا} أي أعددنا. {للظالمين} أي للكافرين الجاحدين.

{نارا أحاط بهم سرادقها} قال الجوهري: السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة:

يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود

يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة:

هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال ابن الأعرابي: {سرادقها} سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي:

وقال ابن الأعرابي: {سرادقها} سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز.

وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره اللّه تعالى في سورة {والمرسلات}. حيث يقول: {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب} [المرسلات: ٣٠] وقوله: {وظل من يحموم} [الواقعة: ٤٣] قاله قتادة.

وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا.

وروي يعلي بن أمية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها - ثم قال - واللّه لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة) ذكره الماوردي. وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة). وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.

قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف.

قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذي قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران؛ يقال: مهلت البعير فهو ممهول.

وقيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفي الترمذي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله {كالمهل} قال:

(كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه) قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال:

(يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول اللّه تعالى {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} [محمد: ١٥] يقول (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) قال: حديث غريب.

قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، واللّه اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح {المهل} النحاس المذاب.

ابن الأعرابي: المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب.

و{مرتفقا} قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا.

وقيل مهادا. وقال القتبي: مجلسا، والمعنى متقارب؛ وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر:

قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى

ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي:

نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مدبوح

الصاب: عصارة شجر مر.

٣٠

انظر تفسير الآية:٣١

٣١

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفي الكلام إضمار؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط.

و{عملا} نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع {أحسن} عليه.

وقيل: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} كلام معترض، والخبر قوله

{أولئك لهم جنات عدن}. و{جنات عدن} سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة

وقيل: العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه؛ ومنه {جنات عدن} أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن (بكسر الدال)؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المرعى. وعدن بلد؛ قاله الجوهري.

{تجري من تحتهم الأنهار} تقدم.

{يحلون فيها من أساور من ذهب} وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ.

قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا {من ذهب} وقال في الحج وفاطر {من ذهب ولؤلؤا} [الحج: ٢٣] وفي الإنسان {من فضة} [الإنسان: ٢١]. وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) خرجه مسلم.

وحكى الفراء: {يحلون} بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة؛ يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي. وحلي الشيء بعيني يحلى؛ ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة.

وقرئ {فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب} الزخرف: وقد يكون الجمع أساور.

وقال اللّه تعالى {يحلون فيها من أساور من ذهب} قاله الجوهري.

وقال ابن عزيز: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة؛ فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك. قال النحاس: وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره.

قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: وأحدها إسوار.

وقال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور. والتيجان جعل اللّه تعالى ذلك لأهل الجنة.

قوله تعالى: {ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق} السندس: الرفيق النحيف، واحده سندسة؛ قال الكسائي. والإستبرق: ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر:

تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها

فالإستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبي: فارسي معرب. الجوهري: وتصغيره أبيرق.

وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، واللّه اعلم. وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. واللّه اعلم.

روى النسائي عن عبداللّه بن عمرو بن العاص فال: بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم:

(مم تضحكون من جاهل يسأل عالما) فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أين السائل عن ثياب الجنة)؟ فقال: ها هو ذا يا رسول اللّه؛ قال (لا بل تشقق عنها ثمر الحنة) قالها ثلاثا.

وقال أبو هريرة: دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر: أنا أكرم على ولي اللّه منك، أنا ألي جسده وأنت لا تلي. ويقول الآخر: أنا أكرم على ولي اللّه منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر.

قوله تعالى: {متكئين فيها على الأرائك} {الأرائك} جمع أريكة، وهي السرر في الحجال.

وقيل الفرش في الحجال؛ قاله الزجاج. ابن عباس: هي الأسرة من ذهب، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء.

{نعم الثواب وحسنت مرتفقا} يعني الجنات، عكس {وساءت مرتفقا}. وقد تقدم. ولو كان {نعمت} لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا {وحسنت مرتفقا}.

وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع، والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال: إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم) ذكره الماوردي، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال: حدثنا أبو عبداللّه أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: قام أعرابي...؛ فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام. وقد روينا جميع ذلك بالإجازة، والحمد للّه.

٣٢

انظر تفسير الآية:٣٤

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٤

٣٤

قوله تعالى: {واضرب لهم مثلا رجلين} هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله {واصبر نفسك} [الكهف: ٢٨].

واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين،

أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبداللّه بن عبدالأسد بن هلال بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة {الصافات} في قوله {قال قائل منهم إني كان لي قرين} [الصافات: ٥١]، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل اللّه وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...؛ ذكره الثعلبي والقشيري.

وقيل: نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم وأهل مكة.

وقيل: هو مثل لجميع من آمن باللّه وجميع من كفر.

وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه؛ شبههم اللّه برجلين من بني إسرائيل أخوين

أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا.

والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما اللّه تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى؛ وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك؟. قال: اشتريت به من اللّه تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره اللّه تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب.

قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار.

وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللّهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللّهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللّهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث واللّه لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه: واللّه لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له: يا أخي إن الدنيا أحقر عند اللّه من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما اللّه، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم اللّه فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر اللّه تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد اللّه له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن اللّه تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد اللّه له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: {إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين} [الصافات: ٥١] الآية؛ فنادى مناد: يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت {واضرب لهم مثلا}.

بين اللّه تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة {الصافات} في قول {إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون} [الصافات: ٥١].

قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة اللّه حتى عيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها اللّه تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية.

وقد قيل: إن هذا مثل ضربه اللّه تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، واللّه اعلم.

قوله تعالى: {وحففناهما بنخل} أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه {حافين من حول العرش} [الزمر: ٧٥].

{وجعلنا بينهما زرعا} أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع.

قوله تعالى: {كلتا الجنتين} أي كل واحدة من الجنتين،

واختلف في لفظ {كلتا وكلا} هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة: هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير {كل} في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر :

في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده

أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى {كلا} مخالف لمعنى {كل} لأن {كلا} للإحاطة و{كلا} يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم {نحن} اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:

كلا يومي أمامة يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما

فأخبر عن {كلا} بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله {آتت} ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما.

واختلف أيضا في ألف {كلتا}؛ فقال سيبويه: ألف {وكلتا} للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف {في كلتا} قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لأن المعنى كل الجنتين. قال: وفي قراءة عبداللّه {كل الجنتين أتى أكله}. والمعنى على هذا عند الفراء: كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى: {أكلها دائم} [الرعد: ٣٥] وقد تقدم.

{آتت أكلها} تاما ولذلك لم يقل آتتا.

{ولم تظلم منه شيئا} أي لم تنقص.

قوله تعالى: {وفجرنا خلالهما نهرا} أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر.

{وكان له ثمر} قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق {ثمر} بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله {وأحيط بثمره} [الكهف: ٤٢] جمع ثمرة. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر؛ مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو {وكان له ثمر} بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في {الأنعام} نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ {وكان له ثمر} لقطعت لسانه؛ فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ {ثمر} ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه واللّه اعلم؛ لأن قوله {كلتا الجنتين آتت أكلها} يدل على أن له ثمرا.

قوله تعالى: {فقال لصاحبه وهو يحاوره} أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا.

{أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.

٣٥

انظر تفسير الآية:٣٦

٣٦

قوله تعالى: {ودخل جنته} قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها.

{وهو ظالم لنفسه} أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه.

{قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} أنكر فناء الدار.

{وما أظن الساعة قائمة} أي لا أحسب البعث كائنا.

{ولئن رددت إلى ربي} أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه؛ وهو معنى قوله {لأجدن خيرا منها منقلبا} وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام {منهما}. وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة {منها} على التوحيد، والتثنية أولى؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.

٣٧

انظر تفسير الآية:٣٨

٣٨

قوله تعالى: {قال له صاحبه وهو يحاوره} يهوذا أو تمليخا؛ على الخلاف في اسمه.

{أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة.

و{سواك رجلا} أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا.

{لكنا هو اللّه ربي} كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية.

وروي عن الكسائي {لكن هو اللّه} بمعنى لكن الأمر هو اللّه ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون {لكنا} بإثبات الألف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لكن اللّه هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من {أنا} طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف {أنا} في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي:

لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها

أراد: للّه إنك، فأسقط إحدى اللامين من {للّه} وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل:

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي

أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم

{لكنا هو اللّه ربي} وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الألف في {لكنا هو اللّه ربي} في الإدراج جيد؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي {لكن أنا هو اللّه ربي}. وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب {لكنا} في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف. وقال الشاعر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما

وقال الأعشى:

فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا

ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هو اللّه ربي} {هو} ضمير القصة والشأن والأمر؛ كقوله {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: ٩٧] وقوله: {قل هو اللّه أحد} [الإخلاص: ١].

{ولا أشرك بربي أحدا} دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا باللّه تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه؛ وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن اللّه تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه؛ فهو إشراك.

٣٩

انظر تفسير الآية:٤١

٤٠

انظر تفسير الآية:٤١

٤١

قوله تعالى: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه} أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال {ما أظن أن تبيد هذه أبدا} [الكهف: ٣٥] و{ما} في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء اللّه. وقال الزجاج والفراء: الأمر ما شاء اللّه، أو هو ما شاء اللّه؛ أي الأمر مشيئة اللّه تعالى. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء اللّه كان، وما لا يشاء لا يكون.

{لا قوة إلا باللّه} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة اللّه تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.

قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا {ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه}. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة:

(ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة) قلت: بلى يا رسول اللّه، قال

(لا حول ولا قوة إلا باللّه إذا قالها العبد قال اللّه عز وجل أسلم عبدي واستسلم) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى.

وفيه: فقال (يا أبا موسى أو يا عبداللّه بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - ) قلت: ما هي يا رسول اللّه، قال:

(لا حول ولا قوة إلا باللّه). وعنه قال قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة)

قلت: بلى؛ فقال (لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم).

وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم اللّه ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل اللّه تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم اللّه قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء اللّه قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا باللّه قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم اللّه توكلت على اللّه لا حول ولا قوة إلا باللّه يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان) هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له:

(هديت وكفيت ووقيت). وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم اللّه قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا باللّه قالا وقيت وإذا قال توكلت على اللّه قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي). وقال الحاكم أبو عبداللّه في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء) من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه لم يضره عين). وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء اللّه كان فأصابه شيء إلا رضي به.

وروي أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا اللّه ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمري إلى اللّه أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.

قوله تعالى: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} {إن} شرط {ترن} مجزوم به، والجواب {فعسى ربي} و{أنا} فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر {إن ترن أنا أقل منك} بالرفع؛ يجعل {أنا} مبتدأ و{أقل} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و{فعسى} بمعنى لعل أي فلعل ربي.

{أن يؤتيني خيرا من جنتك} أي في الآخرة.

وقيل في الدنيا. {ويرسل عليها} أي على جنتك.

{حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا} أي مرامي من السماء، وأحدها حسبانة؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة.

وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال اللّه تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: ٥]. وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب.

{فتصبح صعيدا زلقا} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض؛ و{زلقا} تأكيد لوصف الصعيد؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها. يقال: مكان زلق (بالتحريك) أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة:

كأنها حقباء بلقاء الزلق

والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشيري.

{أو يصبح ماؤها غورا} أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم:

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

آخر:

هريقي من دموعهما سجاما ضباع وجاوبي نوحا قياما

أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور؛ فحذف المضاف؛ مثل {واسأل القرية} [يوسف: ٨٢] ذكره النحاس. وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا؛ دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:

أغارت عينه أم لم تغارا

وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب:

هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

{فلن تستطيع له طلبا} أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة.

وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.

٤٢

قوله تعالى: {وأحيط بثمره} اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى {أحيط بثمره} أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق اللّه تعالى به إنذار أخيه.

{فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما؛ لأن هذا يصدر من النادم.

وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي في ملكه مال. ودل قوله {فأصبح} على أن هذا الإهلاك جرى بالليل؛ كقوله {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم} [القلم: ١٩] ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها.

{وهي خاوية على عروشها} أي خالية قد سقط بعضها على بعض؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: ٥٢] ويقال ساقطة؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية.

{ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا} أي يا ليتني عرفت نعم اللّه علي، وعرفت أنها كانت بقدرة اللّه ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.

٤٣

قوله تعالى: {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون اللّه} {فئة} اسم {تكن} و{له} الخبر.

{ينصرونه} في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون {ينصرونه} الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم {له}. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول اللّه عز وجل {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: ٤]. وقد أجاز سيبويه الآخر. و{ينصرونه} على معنى فئة؛ لأن معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم.

قوله تعالى: {وما كان منتصرا} أي ممتنعا؛ قاله قتادة.

وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في {آل عمران}. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فيء مثل فيع؛ لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفئات، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب اللّه، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.

٤٤

قوله تعالى: {هنالك الولاية للّه الحق} اختلف في العامل في قوله {هنالك} وهو ظرف؛ فقيل: العامل فيه {ولم تكن له فئة} ولا كان هنالك؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب.

وقيل: تم الكلام عند قوله {منتصرا}. والعامل في قوله {هنالك}: {الولاية}. وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية للّه الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق} بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة {الحق} بالخفض نعتا للّه عز وجل، والتقدير: للّه ذي الحق. قال الزجاج: ويجوز {الحق} بالنصب على المصدر والتوكيد؛ كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية} بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة؛ كقوله

{اللّه ولي الذين آمنوا} [البقرة: ٢٥٧].

{ذلك بأن اللّه مولى الذين آمنوا} [محمد: ١١]. وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة؛ كقوله

{والأمر يومئذ للّه} [الانفطار: ١٩] أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد؛ والملك في كل وقت للّه ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق.

{هو خير ثوابا} أي اللّه خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال؛ أي هو خير من يرجى.

{وخير عقبا} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى

{عقبا} ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.

٤٥

قوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها.

{كماء أنزلناه من السماء فاختلط به} أي بالماء.

{نبات الأرض} حتى استوى.

وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في {يونس} مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له رجل: يا رسول اللّه، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال:

(ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي). وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه اللّه بما أتاه). {فأصبح} أي النبات {هشيما} أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم؛ إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبداللّه بن الزبعرى:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمي بذلك هاشما. {تذروه الرياح} أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف {تذريه الريح}. قال الكسائي: وفي قراءة عبداللّه {تذريه}. يقال: ذرته الريح تذروه ذروا و[تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:

فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق

قوله تعالى: {وكان اللّه على كل شيء مقتدرا} من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه.

٤٦

قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ويجوز {زينتا} وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول اللّه تعالى:

{إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: ١٥]. وقال تعالى:

{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} [التغابن: ١٤].

قوله تعالى: {والباقيات الصالحات} أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات

{خير عند ربك ثوابا} أي أفضل

{وخير أملا} أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا} [الفرقان: ٢٤]. وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم.

واختلف العلماء في {الباقيات الصالحات}؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء اللّه؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي اللّه عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن اللّه تعالى لأقوام.

وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد: اللّه أكبر وسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(استكثروا من الباقيات الصالحات) قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال:

(التكبير والتهليل والتسبيح والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه). صححه أبو محمد عبدالحق رحمه اللّه.

وروى قتادة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال:

(إن المسلم إذا قال سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات). ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(عليك بسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها). وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال:

(إن الحمد للّه وسبحان اللّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة). قال: هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس، إلا أنه قد رآه ونظر إليه.

وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر) قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت: ما غراس الجنة؟ قال:

(لا حول ولا قوة إلا باللّه). وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال:

(يا أبا هريرة ما الذي تغرس) قلت غراسا. قال: (ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة). وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع؛ قال الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات؛ يدل عليه أوائل، الآية؛ قال اللّه تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ثم قال {والباقيات الصالحات} يعني البنات الصالحات هن عند اللّه لآبائهن خير ثوابا، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت علي امرأة مسكينة.. الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله {يتوارى من القوم} [النحل: ٥٩] الآية.

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

(لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه اللّه بهن). وقال قتادة في قوله تعالى: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما} [الكهف: ٨١] قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلاما كلهم أنبياء.

٤٧

قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو

وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب؛ كما قال في آية أخرى {وهي تمر مر السحاب} [النمل: ٨٨]. ثم تكسر فتعود إلى الأرض؛ كما قال: {وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا} [الواقعة: ٦]. وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر {ويوم تسير} بتاء مضمومة وفتح الياء.

و{الجبال} رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {ويوم تسير الجبال} بفتح التاء مخففا من سار. {الجبال} رفعا. دليل قراءة أبي عمرو {وإذا الجبال سيرت}.

ودليل قراءة ابن محيصن {وتسير الجبال سيرا}. واختار أبو عبيد القراءة الأولى {نسير} بالنون لقوله {وحشرناهم}. ومعنى {بارزة} ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان؛ أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها؛ فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير.

وقيل: {وترى الأرض بارزة} أي برز ما فيها من الكنوز والأموات؛ كما قال {وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق: ٤] وقال

{وأخرجت الأرض أثقالها} [الزلزلة: ٢] وهذا قول عطاء.

{وحشرناهم} أي إلى الموقف.

{فلم نغادر منهم أحدا} أي لم نترك؛ يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة:

غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل

أي تركته. والمغادرة الترك؛ ومنه الغدر؛ لأنه ترك الوفاء. وإنما سمى الغديرا لأن الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.

٤٨

قوله تعالى: {وعرضوا على ربك صفا} {صفا} نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا؛ لا أنهم صف واحد. وقيل جميعا؛ كقوله {ثم ائتوا صفا} [طه: ٦٤] أي جميعا.

وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبدالرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إن اللّه تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا اللّه لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب).

قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد للّه.

قوله تعالى: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا

وقيل فرادى؛ دليله قوله {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} [الأنعام: ٩٤]. وقد تقدم. وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم.

{بل زعمتم} هذا خطاب لمنكري البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) قلت: يا رسول اللّه الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: (يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض). {غرلا} أي غير مختونين. وقد تقدم في {الأنعام} بيانه.

٤٩

قوله تعالى: {ووضع الكتاب} {الكتاب} اسم جنس، وفيه وجهان:

أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد؛ قاله مقاتل.

الثاني: أنه وضع الحساب؛ قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة.

والقول الأول أظهر؛ ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبدالرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك

قوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}

قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك؛ والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب؛ ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب اللّه أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول {هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة: ١٩] ثم يدعي بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوي عنقه؛ فذلك قوله {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} [الانشقاق: ١٠] فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إلى اللّه تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك؛ يعني ما كان من ذلك في معصية اللّه عز وجل؛ ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك.

قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا واللّه اعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى: {فتبسم ضاحكا من قولها} [النمل: ١٩]. وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في {النساء} بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى {أحصاها} عدها وأحاط بها؛ وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا.

{ووجدوا ما عملوا حاضرا} أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا

وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا.

{ولا يظلم ربك أحدا} أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله؛ قال الضحاك.

وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه.

٥٠

قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} تقدم. قال أبو جعفر النحاس: وفي هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى

{ففسق عن أمر ربه} ففي هذا قولان:

أحدهما: وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه؛ كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر: وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه

{أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو؛ أي أعداء، فهو اسم جنس.

{بئس للظالمين بدلا} أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة اللّه. أو بئس إبليس بدلا عن اللّه.

واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه؛ فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل إبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله

{أفتتخذونه وذريته أولياء} فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات؛ فهذا أصل ذريته.

وقيل: إن اللّه تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا؛ فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة،

وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن اللّه تعالى أخبر أن لإبليس اتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.

قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ). وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، واللّه اعلم.

قال ابن عطية: وقول {وذريته} ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم اللّه بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم اللّه أكل معه. قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر اللّه ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ باللّه منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الداراني: إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية.

قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان.

قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح؛ وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره. وفي صحيح مسلم عن عبداللّه بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته).

وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبداللّه بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق؛ قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب؛ قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى؛ قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى فتل؛ قال: أنت أنت وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت). وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالمعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من اللّه وليس كما ظنوا.

٥١

قوله تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته؛ أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت.

وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض

{ولا خلق أنفسهم} أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟.

وقيل: الكناية في قوله: {ما أشهدتهم} ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء.

وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي اللّه عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبداللّه محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول: سمعت عبدالحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين.

قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته؛ وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن؛ حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي؛ إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين؛ وتندرج هذه الطوائف في معناهم.

قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض} رد على المنجمين أن قالوا: إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله:

{والأرض} رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا: إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله:

{ولا خلق أنفسهم} رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر {ما أشهدناهم} بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله:

{وما كنت متخذ} يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم. {المضلين} يعني الشياطين.

وقيل: الكفار. {عضدا} أي أعوانا يقال: اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون؛ لأن اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله: {سنشد عضدك بأخيك} [القصص: ٣٥] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل، واللّه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجحدري {وما كنت} بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه: {عضدا} بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وأفصحها. و{عَضْدا} بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و{عُضُدا} بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و{عُضْدا} بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و{عِضَدا} بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك. و{عَضَدا} بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ {عَضِدا} واللغة الثامنة {عِضْدا} على لغة من قال: كتف وفخذ.

٥٢

قوله تعالى: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} أي اذكروا يوم يقول اللّه: أين شركائي؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر {نقول} بنون. الباقون بالياء؛ لقوله: {شركائي} ولم يقل: شركائنا.

{فدعوهم} أي فعلوا ذلك. {فلم يستجيبوا لهم} أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا.

{وجعلنا بينهم موبقا} قال أنس بن مالك:

(هو واد في جهنم من قيح ودم). وقال ابن عباس: (أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا)

وقيل: بين الأوثان وعبدتها، ونحو قوله: {فزيلنا بينهم}

قال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى: {موبقا} قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار.

وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال: {موبقا} (واد من قيح ودم في جهنم). وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم؛ ومنه يقال: أو بقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة: موعد للّهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى:

{وجعلنا بينهم موبقا}. وفيه لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفيه لغة ثالثة: بق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير:

ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه من كل شنعاء موبق

قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة.

٥٣

قوله تعالى: {ورأى المجرمون النار} {رأى} أصله رأي؛ قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها؛ ولهذا زعم الكوفيون أن {رأى} يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس: سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل.

{فظنوا أنهم مواقعوها} {فظنوا }هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

أي أيقنوا؛ وقد تقدم. قال ابن عباس: (أيقنوا أنهم مواقعوها)

وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال.

وفي الخبر: (إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة). والمواقعة ملابسة الشيء بشدة. وعن علقمة أنه قرأ {فظنوا أنهم ملافوها} أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع.

{ولم يجدوا عنها مصرفا} أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب. وقال القتبي: معدلا ينصرفون إليه.

وقيل: ملجأ يلجؤون إليه، والمعنى واحد.

وقيل: ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين.

٥٤

قوله تعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل} يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية.

الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في {سبحان}؛ فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان.

{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن

وقيل: الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافرون أكثر شيء جدلا؛ والدليل على الكافر قوله {ويجادل الذين كفروا بالباطل}

وروي أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول اللّه له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول اللّه له هذه صحيفتك ليس فيها من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول يا رب ولا أقبلهم يا رب أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول اللّه تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول اللّه تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليعلن بعضا يقول لأعضائه لعنكم اللّه فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك اللّه أفتعلم أن اللّه تعالى يُكتم حديثا فذلك قوله تعالى: {كان الإنسان أكثر شيء جدلا}

أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا. وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال: (ألا تصلون؟ فقلت يا رسول اللّه إنما أنفسنا بيد اللّه إن شاء أن يبعثنا بعثنا؛ فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا})

٥٥

قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام

{ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين} أي سنتنا في إهلاكهم إي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال.

وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك...} [الأنفال:٣٢] الآية.

{أو يأتيهم العذاب قبلا} نصب على الحال، ومعناه عيانا قاله ابن عباس. وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر. وقال مقاتل: فجأة وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي {قبلا} بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس: ومذهب الفراء أن {قبلا} جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويحوز عنده أن يكون المعنى عيانا. وقال الأعرج: وكانت قراءته {قبلا} معناه جميعا وقال أبو عمرو: وكانت قراءته {قبلا} ومعناه عيانا.

٥٦

قوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} أي بالجنة لمن آمن {ومنذرين} أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم

{ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم.

ومعنى {يدحضوا} يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها اللّه والإدحاض الإزلاق. وفي وصف الصراط:

(ويضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللّهم سلم قيل: يا رسول اللّه وما الجسر؟ قال: دحض مزلقة أي تزلق فيه القدم) قال طرفة:

أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض

{واتخذوا آياتي} يعني القرآن {وما أنذروا} و{ما} بمعنى المصدر أي والإنذار

وقيل: بمعنى الذي؛ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ {هزوا} أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ وقد تقدم في {البقرة} بيانه.

وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم

وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقالوا للرسول:

{هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: ٣]

{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القرنين عظيم} [الزخرف: ٣١]

و{ماذا أراد اللّه بهذا مثلا} [المدثر: ٣١].

٥٧

قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} أي لا أحد أظلم لنفسه ممن، وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها.

{ونسي ما قدمت يداه} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنقسه وحصل من العذاب؛ والمعنى متقارب.

{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} بسبب كفرهم؛ أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم.

{وإن تدعهم إلى الهدى} أي إلى الإيمان.

{فلن يهتدوا إذا أبدا} نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم؛ وقد تقدم معنى هذه الآية في {سبحان} [الإسراء:١] وغيرها.

٥٨

قوله تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة} أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك} [النساء: ٤٨].

{ذو الرحمة} فيه أربع تأويلات:

أحدها ذو العفو.

الثاني ذو الثواب؛ وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر.

الثالث ذو النعمة.

الرابع ذو الهدى؛ وهو على هذين الوجهين يعم أهل الأيمان والكفر، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر.

{لو يؤاخذهم بما كسبوا} أي من الكفر والمعاصي.

{لعجل لهم العذاب} ولكنه يمهل.

{بل لهم موعد} أي أجل مقدر يؤخرون إليه، نظيره {لكل نبأ مستقر} [الأنعام: ٦٧]، {لكل أجل كتاب} [الرعد: ٣٨] أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة.

{لن يجدوا من دونه موئلا} (أي ملجأ) قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووؤولا على فعول أي لجأ؛ وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة. وقال مجاهد: محرزا. قتادة: وليا. وأبو عبيدة: منجى.

وقيل: محيصا؛ والمعنى واحد والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت؛ منه قول الشاعر:

لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم

وقال الأعشى:

وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي ما ينجو.

٥٩

قوله تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم} {تلك} في موضع رفع بالابتداء. {القرى} نعت أو بدل.

و{أهلكناهم} في موضع الخبر محمول على المعنى؛ لأن المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون {تلك} في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته؛ أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا.

{وجعلنا لمهلكهم موعدا} أي وقتا معلوما لم تعده و{مهلك} من أهلكوا. وقرأ عاصم {مهلكهم} بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء {لمهلكهم} بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج: اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على مضربها.

٦٠

قوله تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه} الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره.

وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه: هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في {المائدة} وآخر {يوسف}. ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. {لا أبرح} أي لا أزال أسير؛ قال الشاعر:

وأبرح ما أدام اللّه قومي بحمد اللّه منتطقا مجيدا

وقيل: {لا أبرح} لا أفارقك. {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي ملتقاهما. قال قتادة: وهو بحر فارس والروم؛ وقال مجاهد.

قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول.

وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم.

وقيل: مجمع البحرين عند طنجة؛ قال محمد بن كعب.

وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية. وقال السدي: الكر والرس بأرمينية.

وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط؛ حكاه النقاش؛ وهذا مما يذكر كثيرا.

وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر؛ وهذا قول ضعيف؛ وحكي عن ابن عباس، ولا يصح؛ فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء.

وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب اللّه عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى اللّه إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم...) وذكر الحديث، واللفظ للبخاري. وقال ابن عباس:

"لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره اللّه أن ذكّرهم بأيام اللّه، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم اللّه من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال: وكلم اللّه نبيكم تكليما، واصطفاه لنفسه، وألقى علي محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالا؛ فقال له رجل من بني إسرائيل: عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي اللّه؟ قال: لا؛ فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث اللّه جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك..." وذكر الحديث.

قال علماؤنا: قوله في الحديث (هو أعلم منك) أي بأحكام وقائع مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى:

(إنك على علم علمكه اللّه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلميه أنت) وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك؛ فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدا طلبا قائلا: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين}.

{أو أمضي حقبا} بضم الحاء والقاف وهو الدهر، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك. والجمع حقاب والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون.

في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال. البخاري: ورحل جابر بن عبداللّه مسيرة شهر إلى عبداللّه بن أنيس في حديث.

قوله تعالى: {وإذ قال موسى لفتاة} للعلماء فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان معه يخدمه، والفتى في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي) فهذا ندب إلى التواضع؛ وقد تقدم هذا في {يوسف}. والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. ويقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام.

وقيل: إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا؛ وهذا معنى الأول.

وقيل: إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد، قال اللّه تعالى: {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم...} [يوسف: ٦٢] وقال: {تراود فتاها عن نفسه...}

قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد، وفي الحديث:

(أنه كان يوشع بن نون) وفي التفسير: أنه ابن أخته، وهذا كله مما لا يقطع به، والتوقف فيه أسلم. {أو أمضي حقبا} قال عبداللّه بن عمر:

(والحقب ثمانون سنة) مجاهد: سبعون خريفا. قتادة: زمان، النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود؛ كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود: وجمعه أحقاب.

٦١

الضمير في قوله: {بينهما} للبحرين؛ قال مجاهد. والسرب المسلك؛ قال مجاهد. وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسراب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله: {نسيا حوتهما} وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حال فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرج من الملح، وقوله:

{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم...} وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري؛

(فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا؛ فذلك قوله عز وجل: {وإذ قال موسى لفتاه...} يوشع بن نون - ليست عن سعيد - قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه؛ حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك اللّه عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر؛ قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما)

وفي رواية (وأمسك اللّه عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر اللّه به، فقال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره})

وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى: {نسيا} فنسب النسيان إليهما؛ وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا.

٦٢

قوله تعالى: {فلما جاوزا} يعني الحوت هناك منسياً - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر اللّه نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين. وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكا في النسيان لأن النسيان التأخير؛ من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ اللّه في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت.

قوله تعالى: {آتنا غداءنا} فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على اللّه الواحد القهار؛ هذا موسى نبي اللّه وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري

(إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل اللّه تعالى {وتزودوا}) وقد مضى هذا في {البقرة}.

واختلف في زاد موسى؛ فقال ابن عباس: كان حوتا مملوحا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل، فقلب المكتل وانسرب الحوت، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى.

وقيل: إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث: (أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم) على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره.

وقال ابن عطية: قال أبي رضي اللّه عنه، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم.

وقوله: {نصبا} أي تعبا، والنصب التعب والمشقة.

وقيل: عنى به هنا الجوع، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط.

٦٣

قوله تعالى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في

{أنسانيه} وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان؛ وفي مصحف عبداللّه

{وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان}. وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت؛ فقال: ما كلفت كثيرا، فاعتذر بذلك القول.

قوله تعالى: {واتخذ سبيله في البحر عجبا} يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى؛ أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله:

{واتخذ سبيله في البحر} تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه:

{عجبا} لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء

قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله:

{واتخذ سبيله} إخبارا من اللّه تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية:

(أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مست قط شيئا إلا حيي) وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيا الحوت؛ فقيل: لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان:

(يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش) وذكر صاحب كتاب العروس: أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي؛ واللّه أعلم.

٦٤

قوله تعالى: {قال ذلك ما كنا نبغ} أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثمَّ؛ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري:

(فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا...) الحديث.

وقال الثعلبي في كتاب العرائس:

(إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه فقال: وأنى بأرضنا السلام؟ ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي؛ ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك، ثم جلسا يتحدثان، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء...) وذكر الحديث على ما يأتي.

{فارتدا على آثارهما قصصا} فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما.

٦٥

قوله تعالى: {فوجدا عبدا من عبادنا} العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر وحكى أيضا هذا القول القشيري، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر؛ بذلك ورد الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله،

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء) هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الأرض؛ قاله الخطابي وغيره. والخضر نبي عند الجمهور.

وقيل: هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضا فان الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس نبي

وقيل: كان ملكا أمر اللّه موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والأول الصحيح؛ واللّه أعلم.

قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا} الرحمة في هذه الآية النبوة

وقيل: النعمة. {وعلمناه من لدنا علما} أي علم الغيب،

ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.

٦٦

انظر تفسير الآية:٦٨

٦٧

انظر تفسير الآية:٦٨

٦٨

{قال له موسى هل أتبعك} هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك؟ وهذا كما في الحديث:

(هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ؟...) وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء...} [المائدة: ١١٢] حسب ما تقدم بيانه في {المائدة}.

في هذه الآية دليل أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله اللّه؛ فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. واللّه أعلم. {ورشدا} مفعول ثان بـ {تعلمني}. {قال} الخضر.

{إنك لن تستطيع معي صبرا} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب، وهو معنى قوله:

{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} والأنبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وانتصب

{خبرا} على التمييز المنقول عن الفاعل.

وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لأن قوله:

{لم تحط}. معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا؛ وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها.

٦٩

قوله تعالى: {قال ستجدني إن شاء اللّه صابرا} أي سأصبر بمشيئة اللّه.

{ولا أعصي لك أمرا} أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله: {ولا أعصي لك أمرا} أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله:{ والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات} [الأحزاب: ٣٥].

وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله:

{ولا أعصي لك أمرا} فاعترض وسأل،

قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه؛ لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف، يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه، فإن ذلك كله مكتسب لنا؛ واللّه أعلم.

٧٠

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض.

٧١

انظر تفسير الآية:٧٣

٧٢

انظر تفسير الآية:٧٣

٧٣

قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها} في صحيح مسلم والبخاري:

(فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لقد جئت شيئا إمرا. قال إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} قال: وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وكانت الأولى من موسى نسيانا) قال:

(وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم اللّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر).

قال علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: ٢٥٥] أي من معلوماته، وهذا من الخضر تمثيل؛ أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم اللّه؛ كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر. ما يشاهده مما بين أيدينا، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم، إذ لا نقص في علم اللّه، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال:

(واللّه ما علمي وما علمك في جنب علم اللّه إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر) وفي التفسير عن أبي العالية: لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد اللّه له أن يريه، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة.

وقيل: خرج أهل السفينة إلى جزيرة، وتخلف الخضر فخرق السفينة، وقال ابن عباس:

لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية، وقال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب اللّه عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم. قال: كذا وكذا قال: صدقت؛ ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.

في خرق السفينة دليل أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرّب بعضه

وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق} بالياء {أهلها} بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في {لتغرق} لام المآل مثل {ليكون لهم عدو وحزنا}. وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني؛ لأن الذي غلب الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم. و{إمرا} معناه عجبا؛ قاله القتبي،

وقيل: منكرا؛ قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة؛ وأنشد

قد لقي الأقران مني نكرا  داهية دهياء إدا إمرا

وقال الأخفش: يقال أمر يأمر {أمر} إذا أشتد والاسم الإمر.

قوله تعالى: {قال} الخضر.

{ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب.

في معناه قولان:

أحدهما: يروى ابن عباس، قال: (هذا من معاريض الكلام).

والآخر: أنه نسي فاعتذر؛ ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره؛ وقد تقدم، ولو نسي في الثانية لاعتذر.

٧٤

في البخاري قال يعلى قال سعيد: (وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين) {قال أقتلت نفسا زكية} لم تعمل بالحنث، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي:

(ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى: {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} قال: وهذه أشد من الأولى. {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}) لفظ البخاري.

وفي التفسير: إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.

قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه؛ واللّه أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور {زاكية} بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر {زكية} بغير ألف وتشديد الياء؛ قيل المعنى واحد؛ قال الكسائي وقال ثعلب: الزكية أبلغ قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت.

قوله تعالى: {غلاما}

اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون وقال الضحاك: حيسون وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى

وقال الجمهور: لم يكن بالغا؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام؛ فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في، صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن اللّه في ذلك؛ فان اللّه تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر

{أقتلت نفسا زكية...} الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن باللّه أبدا. وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية:

شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها

وقال صفوان لحسان:

تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله: {بغير نفس} يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس

{وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين} والكفر والإيمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق.

قوله تعالى: {نكرا} اختلف الناس أيهما أبلغ {إمرا} أو قوله {نكرا} فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب؛ فـ {نكرا} أبلغ،

وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة فـ {إمرا} أبلغ.

قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله: {إمرا} أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و{نكرا} بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع؛ وهذا بين.

٧٥

قوله تعالى: {قال} الخضر. {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب.

قوله تعالى: {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء.

{فلا تصاحبني} كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني.

وقرأ الأعرج {تصحبني} بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ {تصحبني} أي تتبعني وقرأ يعقوب {تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك.

قوله تعالى: {قد بلغت من لدني عذرا} يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي.

ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم ثلاثة؛ فتأمله.

{قد بلغت من لدن عذرا} أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي،

وقرأ الجمهور: {من لدني} بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون {لدن} اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْني} بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون

وروي عن عاصم {لدني} بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور {عذر} وقرأ عيسى {عذرا} بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم {عذري} بكسر الراء وياء بعدها.

مسألة: أسند الطبري قال:

(كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوما: رحمة اللّه علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال {فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}) والذي في صحيح مسلم قال رسو ل اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(رحمة اللّه علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب) قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه: (رحمة اللّه علينا وعلى أخي كذا)

وفي البخاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (يرحم اللّه موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما) الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.

٧٧

قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما} في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: لئاما؛ فطافا في المجالس فـ {استطعما أهلها فأبوا أن يضيقوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض} يقول: مائل قال:

{فأقامه} الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا

{لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(يرحم اللّه موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما).

واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة؛ قال قتادة، وكذلك قال محمد بن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء

وقيل: أنطاكية

وقيل: بجزيرة الأندلس؛ روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء

وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان وحكى السهيلي وقال: إنها برقة الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، وإليها تنسب النصارى؛ وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى واللّه أعلم بحقيقة ذلك.

كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر؛ ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوات؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة؛ منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره.

قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه

{آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع؛ واللّه أعلم.

وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.

في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة. بدليل قوله:

{فأبوا أن يضيفوهما} فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في {هود} والحمد للّه.

ويعفو اللّه عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل؛ فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه؛ فقال:

وإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر

قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية؛ ويرحم اللّه السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.

قوله تعالى: {فوجدا فيها جدارا} الجدار والجدر بمعنى واحد؛ وفي الخبر: (حتى يبلغ الماء الجدر). ومكان جدير بُني حواليه جدار، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت؛ ومنه الجدري.

قوله تعالى: {يريد أن ينقض} أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: (مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل، هذا كلام العرب وأشعارها كثير؛ فمن ذلك قول الأعشى:

أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر:

يريد الرمح صدر أبي براء  ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال آخر:

إن دهرا يلف شملي بجمل  لزمان يهم بالإحسان

وقال آخر:

في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤس إذا أردن نصولا

أي ثبوتا في الأرض؛ من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية؛ فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت:

لو أن اللوم ي نسب كان عبدا  قبيح الوجه أعور من ثقيف

وقال عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وقد فسر هذا المعنى بقوله:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث: (اشتكت النار إلى ربها) وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحاق الإسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما، فإن كلام اللّه عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين؛ لأنه الحق كما أخبر اللّه تعالى في كتابه،

ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا اللّه تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على اللّه تعالى محال؛ قال اللّه تعالى:

{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: ٢٤] وقال تعالى:

{وتقول هل من مزيد}[ق: ٣٠] وقال تعالى:

{إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا} [الفرقان: ١٢] وقال تعالى:

{تدعو من أدبر وتولى} [المعارج: ١٧]

و (اشتكت النار إلى ربها) (واحتجت النار والجنة) وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها.

وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم

(فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط اللّه عليه). هذا في الآخرة.

وأما في الدنيا؛ ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبه سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده) قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.

قوله تعالى: {فأقامه} قيل: هدمه ثم قعد يبنيه.

{قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} فقال موسى للخضر: {قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} لأنه فعل يستحق أجرا، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه} قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان؛ على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الأخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام؛ قال الثعلبي في كتاب العرايس: فقال موسى للخضر

{لو شئت لاتخذت عليه أجرا} أي طعاما تأكله؛ ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة؛ هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: ٨٢] يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول؛ واللّه أعلم.

واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه؛ لأن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام

(إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي). قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة؛ والبناء المرتفع؛ قال جرير:

ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال

يقال منه: وكَنَ يكِنُ إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق.

كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة، والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد؛ فالآيات ما أخبر اللّه تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية؛ على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.

قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي) وقال تعالى: {وخاتم النبيين} [الأحزاب: ٤٠] والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده.

قلت: الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده أبدا اللّه أعلم ٠

اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا؟ على قولين:

[أحدهما] أنه لا يجوز؛ وأن ما يظهر على يديه يجب أ ن يلاحظه بعين خوف المكر، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له؛ وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي اللّه فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به؛ ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: {تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا} [فصلت: ٣٠] ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالخواتيم).

[القول الثاني] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي اللّه تعالى، فجاز أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما للّه سبحانه وتعالى، وأشد خوفا وهيبة؛ فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب؛ فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي اللّه، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لأن فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله: {فانسلخ منها...} [الأعراف: ١٧٥] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم؛ واللّه أعلم.

والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار.

وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد للّه تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث وسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا أثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب؛ فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا؛ فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فواللّه لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللّهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر واللّه لا أصحبكم؛ إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه؛ فانطلقوا بخيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا؛ فأخبر عبيداللّه بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي؛ فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: واللّه ما رأيت أسيرا قط خيرا من خيب؛ واللّه لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر؛ وكانت تقول: إنه لرزق رزقه اللّه تعالى خبيبا؛ فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيث: دعوني أركع ركعتين؛ فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت؛ ثم قال: اللّهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا؛ ثم قال:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان للّه مصرعي

وذلك في ذات إلاله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا؛ فاستجاب اللّه تعالى لعاصم يوم أصيب؛ فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث اللّه على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث اللّه تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى اللّه تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه اللّه تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري: وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة؛ ذكره البيهقي.

ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(بينما رجل بفلاة من أرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبداللّه ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبداللّه لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي وأرد فيها ثلثه)

وفي رواية

(وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل).

قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام:

(لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن؛ فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال؛ قال عليه الصلاة والسلام:

(نعم المال الصالح للرجل الصالح)، قد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية؛ واللّه الموفق للّهداية.

قوله تعالى: {لاتخذت عليه أجرا} فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة {القصص} إن شاء اللّه تعالى. وقرأ الجمهور {لاتخذت} وأبو عمرو {لتخذت} وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب: (لو شئت لأوتيت أجرا) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض.

٧٨

قوله تعالى: {قال هذا فراق بيني وبينك} فعند ذلك قال له الخضر

{هذا فراق بيني وبينك} بحكم ما شرطت على نفسك.

وتكريره {بيني وبينك} وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى اللّه الكاذب مني ومنك؛ أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام للّه، وكان قوله في الجدار لنقسه لطلب شيء من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع.

قوله تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت.

وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر.

٧٩

قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة {براءة}.

وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين؛ إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر.

وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم؛

فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما؛

والثاني أعور،

والثالث أعرج،

والرابع آدر،

والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم؛ والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم؛ ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة: {لمساكين} بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مساكين.

وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك والأظهر قراءة {مساكين} بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم واللّه أعلم.

قوله تعالى: {فأردت أن أعيبها} أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب.

{وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} قرأ ابن عباس وابن جبير (صحيحه) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان (صالحة) و(وراء) أصلها بمعنى خلف؛ فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. الأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام؛ يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا}.

قال ابن عطية: {وراءهم} هو عندي على بابه؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك؛ ومن قرأ {أمامهم} أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان؛ وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ؛ ووقع لقتادة في كتاب الطبري {وكان وراءهم ملك} قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: من {ورائهم جهنم} وهي بين أيديهم؛ وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها؛ قاله الزجاج.

قلت: وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة؛ قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال {من ورائه} وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قُطرُب أن هذا من الأضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل؛ لأن أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا في الأوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لأنه يخلفه إلى وقت وعده؛ وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك؛ قال الفراء: وجوزه غيره؛ والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر اللّه تعالى الخضر حتى عيب السفينة؛ وذكره الزجاج. وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال:

[أحدها] يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال اللّه تعالى: {ومن ورائهم}[الجاثية: ١٠] أي من أمامهم: وقال الشاعر:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

يعني أمامي،

[والثاني] أن وراء في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها

الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما؛ وهذا قول علي بن عيسى.

واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد.

وقيل: الجلندي؛ وقال السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو (هدد بن بدد والغلام المقتول) اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها؛ ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله:

(فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة...) الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة: ٢١٦].

٨٠

قوله تعالى: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} جاء في صحيح الحديث: (أنه طبع يوم طبع كافر) وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا؛ وقد تقدم.

قوله تعالى: {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، وكان اللّه قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة.

وقيل: هو من كلام اللّه تعالى وعنه عبر الخضر؛ قال الطبري: معناه فعلمنا؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كني عن العلم بالخوف في قوله {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه} [البقرة: ٢٢٩]. وحكي أن أبيا قرأ {فعلم ربك} وقيل: الخشية بمعنى الكراهة؛ يقال: فرقت بينهما خشية أن يقتتلا؛ أي كراهة ذلك. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين.

وقرأ ابن مسعود {فخاف ربك} وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع القرآن في جهة اللّه تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و{يرهقهما} يجشمهما ويكلفهما؛ والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه.

٨١

قوله تعالى: {فأردنا أن يبدلهما ربهما} قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال؛ أي أن يرزقهما اللّه ولدا. يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونرل وأنزل.

قوله تعالى: {خيرا منه زكاة} أي دينا وصلاحا. {وأقرب رحما} قرأ ابن عباس {رحما} بالضم، قال الشاعر:

وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم

الباقون بسكونها؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج:

يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا

واختلف عن أبي عمرو، و{رحما} معطوف على {زكاة} أي رحمة؛ قال: رحمه رحمة ورحما؛ وألفه للتأنيث، ومذكره رحم.

وقيل: الرُّحم هنا بمعنى الرَّحِم؛ قرأها ابن عباس {وأصل رحما} أي رحما، وقرأ أيضا {أزكى منه}. وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بُدلا جارية؛ قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى اللّه تعالى على يديه أمة من الأمم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا؛ وفي رواية: أبدلهما اللّه به جارية ولدت سبعين نبيا؛ وقاله جعفر بن محمد عن أبيه؛

قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم؛

ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء اللّه تعالى، فإن قضاء اللّه للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.

٨٢

قوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتم بعد بلوغ) هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الأم.

ودل قوله: {في المدينة} على أن القرية تسمى مدينة؛ ومنه الحديث (أمرت بقرية تأكل القرى...) وفي حديث الهجرة (لمن أنت) فقال الرجل: من أهل المدينة؛ يعني مكة.

قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} اختلف الناس في الكنز؛ فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع؛ وقد مضى القول فيه. وقال ابن عباس:

(كان علما في صحف مدفونة) عنه أيضا قال:

(كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه) وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة، ورواه عثمان بن عفان رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

قوله تعالى: {وكان أبوهما صالحا} ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً.

وقيل: هو الأب السابع؛ قاله جعفر بن محمد.

وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح؛ وكان يسمى كاشحا؛ قال مقاتل اسم أمهما دنيا؛ ذكره النقاش. ففيه ما يدل على أن اللّه تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن اللّه تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى: {إن ولي اللّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: ١٩٦]

قوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} يقتضي أن الخضر نبي؛ وقد تقدم الخلاف في ذلك.

{ذلك تأويل} أي تفسير.

{ما لم تستطع عليه صبرا} قرأت فرقة {تستطيع} وقرأ الجمهور {تسطع} قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف.

وهنا خمس مسائل

الأولى: إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك؛ فقال عكرمة لابن عباس: - لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال

(شرب الفتى من الماء فخلد، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه)

قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون؛ فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الإمام أبو العباس: يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع واللّه أعلم.

الثانية: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين للّه تعالى، وقال في خرق السفينة: {فأرادت أن أعيبها} فأضاف العيب إلى نفسه؟

قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى اللّه تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر اللّه تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه اللّه تعالى أن يريده

وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى اللّه تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله:

{وإذا مرضت فهو يشفين} فأسند الفعل قبل وبعد إلى اللّه تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقصى ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى: {بيدك الخير} [آل عمران: ٢٦] واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة:

(يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني) فإن ذلك تنزُّلُ في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال وقد تقدم هذا المعنى واللّه تعالى أعلم. وللّه تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والأفعال الشريفة جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام: {فأردنا} فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى اللّه تعالى والأشد كمال الخلق والعقل. وقد مضى الكلام فيه في {الأنعام} والحمد للّه.

الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي اللّه عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن اللّه تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين. خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه؛ اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك؛ كما قال تعالى:

{اللّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن اللّه سميع بصيرا} [الحج: ٧٥] وقال تعالى:

{اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: ٢٤١] وقال تعالى:

{كان الناس أمه واحدة فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: ٢١٣] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام اللّه تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله اللّه خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم اللّه تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي...) الحديث.

الرابعة: ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى اللّه عليه وسلم.

وقالت فرقة: حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت.

قال ابن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور؛ واللّه العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه الصلاة السلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد).

قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره.

والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبداللّه بن عمر قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال:

(أرأيتكم ليتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد) قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول اللّه تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال عليه الصلاة والسلام:

(لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه أيضا من حديث جابر بن عبداللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر:

(تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند اللّه وأقسم باللّه ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة)

وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها (هي مخلوقة يومئذ).

وفي أخرى:

(ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وفسرها عبدالرحمن صاحب السقاية قال: نقص العمر. وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث

قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:

(ما من نفس منفوسة) وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ لقوله: (ممن هو على ظهر الأرض أحد) وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم. وقد بين ابن عمر هذا المعنى؛ فقال: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: (ما نفس منفوسة) لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص. فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهد للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله.

وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس له: والصحيح أن الخضر نبي معمر محجوب عن الأبصار؛

وروى محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبداللّه بن شوذب قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم. وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض، فإذا رفع ماتا. وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمد عبدالمعطي بن محمود بن عبدالمعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غاية الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما.

وقد جاء في صحيح مسلم:

(أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس...) الحديث؛ وفي آخره قال أبو إسحاق: يعني أن هذا الرجل هو الخضر.

وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف: بسند يوقفه إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه

(أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قال في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك) وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه في سماعه من الخضر. وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما:

(ما شاء اللّه ما شاء اللّه، لا يصرف السوء إلا اللّه، ما شاء اللّه ما شاء، ما يكون من نعمة فمن اللّه، ما شاء اللّه ما شاء اللّه، توكلت على اللّه، حسبنا اللّه ونعم الوكيل) وأما خبر إلياس فيأتي في {الصافات} إن شاء اللّه تعالى.

وذكر أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد: عن علي رضي اللّه تعالى عنه قال:

(لما توفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، السلام عليكم أهل البيت{ كل نفس ذائقة الموت...} [آل عمران: ١٨٥] - الآية - إن في اللّه خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والألف واللام في قوله: (على الأرض) للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه. ولا جواب عن الدجال.

قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا؛ فعن ابن منبه أنه قال: أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه اللّه تعالى.

وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ وهذا لا يصح وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه اللّه تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام:

(إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة

قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، واللّه أعلم.

الخامسة: قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني؛ قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

٨٣

قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال:

(ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب) وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال:

(اللّهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة) قال ابن إسحاق: فاللّه أعلم أي ذلك كان؟ أقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك أم لا؟ والحق ما قال.

قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه مثل قول عمر؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي:

(أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة) وعنه أنه عبد ملك (بكسر اللام) صالح نصح اللّه فأيده. وقيل: هو نبي مبعوث فتح اللّه تعالى على يديه الأرض. وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة؛ فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها؛ كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد.

واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا؛ فأما اسمه فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني.

وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب بن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير؛ وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام (أن ذا القرنين شاب من الروم) وهو حديث واهي السند؛

قال ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان:

أحدهما: كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام.

والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام.

وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما؛ ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس؛ ومنه قول الشاعر:

فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين.

وقيل: إنما سمي بذلك، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا.

وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها. وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي اللّه تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ فقال

(لاذا ولاذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى اللّه تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين)

واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى.

وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى

وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛ وفد ذكرناه في {البقرة}. وبالجملة فإن اللّه تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر؛ وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: ٣٣] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه

وقيل: لأنه أنقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي

وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا.

وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن.

وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور.

وقيل: لأنه ملك فارس والروم.

٨٤

قوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض} قال علي رضي اللّه عنه:

(سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء) وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال:

(إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه بها هو البحر وإنما أراد اللّه تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم) الحديث.

قوله تعالى: {وآتيناه من كل شيء سببا} قال ابن عباس: (من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد) وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد.

وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق.

وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.

٨٥

قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {فأتبع سببا} مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {فاتبع سببا} بوصلها؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات: ١٠] ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛

قال أبو عبيد: ومثله {فأتبعوهم مشرقين} قال النحاس: وهذا التفريق إن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: ٦٠] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث: لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون.

٨٦

قوله تعالى: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} قرأ ابن عاصم وعام وحمزة والكسائي {حامية} أي حارة. الباقون {حمئة} أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حمأتها. ويجوز أن تكون

{حامية} من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبداللّه بن عمرو: نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الشمس حين غربت؛ فقال:

(نار اللّه الحامية لولا ما يزعها من أمر اللّه لأحرقت ما على الأرض). وقال ابن عباس: (أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {في عين حمئة}؛ وقال معاوية: هي {حامية} فقال عبداللّه بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس) وقال الشاعر وهو تبع اليماني:

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد

الخلب: الطين: والثأط: الحماة. والحرمد. والأسود. وقال القفال

قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال:

{وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا} ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه واللّه أعلم.

قوله تعالى: {ووجد عندها قوما} أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السهيلي. وقال وهب بن منبه:

(كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال اللّه تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فقال ذو القرنين: إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال اللّه تعالى: سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا اللّه تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا اللّه. وألسنة مختلقة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى اللّه تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى اللّه تعالى بصوت واحد: إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامهم يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهى هاويل، وسخر اللّه تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق اللّه تعالى كثيرا لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق اللّه تعالى في الأرض، وليس للّه تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟...) وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية.

قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين} قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من اللّه تعالى.

{إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} قال إبراهيم بن السري: خيره بين هذين كما خير محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقال: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: ٤٢] ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن اللّه تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس: وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل:

{ثم يرد إلى ربه}؟ وكيف يقول: {فسوف نعذبه} فيخاطب بالنون؟

قال: التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء. أما قوله:

{قلنا يا ذا القرنين} فيجوز أن يكون اللّه عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: ٤]، وأما إشكال

{فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه} فإن تقديره أن اللّه تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى:

{إما أن تعذب} وبين الاستبقاء في قوله جل وعز:

{وإما أن تتخذ فيهم حسنا}. قال أحمد بن يحيى: {أن} في موضع نصب في

{إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال:

فسيرا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق

٨٧

انظر تفسير الآية:٨٨

٨٨

قوله تعالى: {قال أما من ظلم} أي من أقام على الكفر منكم،

{فسوف نعذبه} أي بالقتل {ثم يرد إلى ربه} أي يوم القيامة:

{فيعذبه عذابا نكرا} أي شديدا في جهنم.

{وأما من آمن وعمل صالحا} أي تاب من الكفر

{فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم

{فله جزاء الحسنى} بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و{الحسنى} موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند اللّه تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله: {حق اليقين} [الواقعة: ٩٥]، {ولدار الآخرة} [الأنعام: ٣٢]؛ قاله الفراء. ويحتمل أن يريد بـ {الحسنى} الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون {الحسنى} في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق {فله جزاء الحسنى} إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرأ سائر الكوفيين {فله جزاء الحسنى} منصوبا منونا؛ أي فله الحسنى جزاء قال الفراء: {جزاء} منصوب على التمييز

وقيل: على المصدر؛ وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق {فله جزاء الحسنى} منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل {فله جزاء الحسنى} في أحد الوجهين. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى.

٨٩

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.

٩٠

قوله تعالى: {حتى إذا بلغ مطلع الشمس} وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري.

{وجدها تطلع على قوم} المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقال مقاتل وقال قتادة: يقال لهما الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر.

وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام (مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه)؛ ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه؛ واللّه أعلم.

قوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها سترا} أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس سترا؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس،

فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟

قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. ثم قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه واللّه عظام جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا قال: فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.

قلت: وهذه الأقوال تدل على أن مدينة هناك واللّه أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.

٩١

{كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا}

٩٢

{ثم أتبع سببا} تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.

٩٣

قوله تعالى: {حتى إذا بلغ بين السدين} وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان.

روى عطاء الخراساني عن ابن عباس: {بين السدين} الجبلين أرمينية وأذربيجان {وجد من دونهما} أي من ورائهما.

{قوما لا يكادون يفقهون قولا} وقرأ حمزة والكسائي

{يفقهون} بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم.

٩٤

قوله تعالى: {قالوا ياذا القرنين} أي قالت له أمة من الإنس صالحة.

{إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} قال الأخفش: من همز {يأجوج} فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول: {ياجوج} من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة:

لو أن يأجوج ومأجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا

ذكره الجوهري.

وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث.

وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز {يأجوج} فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما {مأجوج} فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة.

واختلف في إفسادهم؛ سعيد بن عبدالعزيز: إفسادهم أكل بني آدم.

وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم.

وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، واللّه أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان).

وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره.

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

(لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل). يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد:

(هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل) ذكره القشيري.

وقال عبداللّه بن مسعود: سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام:

(يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا اللّه لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح) قيل: يا رسول اللّه صفهم لنا. قال:

(هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم اللّه من مكة والمدينة وبيت المقدس). وقال علي رضي اللّه تعالى عنه:

(وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده اللّه كما كان، فيقولون: ننقبه غدا إن شاء اللّه تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكم اللّه تعالى بالنغف في رقابهم). ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده).

قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده اللّه أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد اللّه تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء اللّه تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث اللّه تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم) قال الجوهري شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة؛ وأشكر الضرع امتلأ لبنا.

وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك قاله قتادة.

قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام:

(لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) في رواية

(ينتعلون الشعر) خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى اللّه عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام:

(اتركوا الترك ما تركوكم). وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا اللّه تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا اللّه تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم.

وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء) الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات اللّه وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.

قوله تعالى: {فهل نجعل لك خرجا} استفهام على جهة حسن الأدب {خرجا} أي جعلا وقرئ {خراجا} والخرج أخص من الخراج يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر.

{على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} أي ردما؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد

وقيل: الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ومنه قول عنترة:

هل غادر الشعراء من متمرد

أي من قول يركب بعضه على بعض وقرئ {سدا} بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة اللّه لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا {سدا} بالفتح وقبله {بين السدين} بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح.

في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي اللّه عنه.

٩٥

فيه مسألتان

[الأولى] قوله تعالى: {قال ما مكني قيه ربي خير فأعينوني بقوة} المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه اللّه تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من اللّه تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج.

وقرأ ابن كثير وحده {ما مكنني} بنونين. وقرأ الباقون {ما مكني فيه ربي}

[الثانية] في هذه الآية دليل أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة شروط:

الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء.

الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم

الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم

{فأعينوني بقوة} أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. واللّه تعالى الموفق للصواب.

٩٦

قوله تعالى: {آتوني زبر الحديد} أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان

و{زبر الحديد} قطع الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه.

وقرأ أبو بكر والمفضل {ردما ايتوني} من الإتيان الذي هو المجيء؛ أي جيؤوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر:

أمرتك الخير...

حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور {زبر} بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه.

قوله تعالى: {حتى إذا ساوى} يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه.

{بين الصدفين} قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس؛ (كأنه يعرض عن الآخر) من الصدوف؛ قال الشاعر:

كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام

ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع.

ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال صدفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي {الصدفين} بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه وعمر بن عبدالعزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {الصدفين} بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {الصدفين} بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة {بين الصدفين} بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان.

قوله تعالى: {قال انفخوا حتى إذا جعله نارا}

{قال انفخوا} أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى: {حتى إذا جعله نارا} ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: (كيف رأيته) قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (قد رأيته). ومعنى {حتى إذا جعل نارا} أي كالنار.

قوله تعالى: {قال آتوني أفرغ عليه قطرا} أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ {ائتوني} فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء

وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب.

وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه {وأسلنا له عين القطر}.

٩٧

قوله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا.

وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ؛ قاله وهب بن منبه.

قوله تعالى: {وما استطاعوا له نقبا} لبعد عرضه وقوته.

وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها...) وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده اللّه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد اللّه أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء اللّه فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس...) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى: {فما استطاعوا} بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور.

وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا.

وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده {فما استطاعوا} بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا} بالتاء في الموضعين.

٩٨

قوله تعالى: {قال هذا رحمة من ربي} القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رحمة من ربي}.

{فإذا جاء وعد ربي} أي يوم القيامة.

وقيل: وقت خروجهم.

{جعله دكاء وكان وعد ربي حقا} أي مستويا بالأرض؛ ومنه قوله تعالى: {إذا دكت الأرض} [الفجر: ٢١] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى:

{جعله دكاء} قال اليزيدي: أي مستويا؛ يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الكلبي: قطعا متكسرا؛ قال:

هل غير غاد دك غارا فانهدم

وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ {دكاء} أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دكاء} بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ {دكا} فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض؛ ويحتمل أن يكون {جعل} بمعنى خلق. وينصب {دكا} على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين.

٩٩

قوله تعالى: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} الضمير في {تركنا} للّه تعالى؛ أي تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض.

وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج {يومئذ} أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هو وخوف؛ فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض.

وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم.

قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الأول؛ لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى: {فإذا جاء وعد ربي}. واللّه أعلم.

قوله تعالى: {ونفخ في الصور} والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبداللّه بن عمرو

(.... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل اللّه - أو قال ينزل اللّه - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) وذكر الحديث. وكذا في التنزيل {ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر: ٦٨] ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين

ومنه قوله: {ويوم ينفخ في الصور}. قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن {يوم ينفخ في الصور}. والصور (بكسر الصاد) لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار بالياء لغة فيه.

وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض {يوم ينفخ في الصور} فهذا يغني به الخلق. واللّه أعلم. قات: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيد. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن واللّه عز وجل يحيى الصور. وفي التنزيل {فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: ١٢].

قوله تعالى: {فجمعناهم جمعا} يعني الجن والإنس في عرصات القيامة.

١٠٠

قوله تعالى: { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا }أي أبرزناها لهم.

١٠١

قوله تعالى: {الذين كانت أعينهم} في موضع خفض نعت {للكافرين}. {في غطاء عن ذكري} أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل اللّه تعالى.

{وكانوا لا يستطيعون سمعا} أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام اللّه تعالى، فهم بمنزلة من صم.

١٠٢

قوله تعالى: {أفحسب الذين كفروا} أي ظن. وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن {أفحسب} بإسكان السين وضم الباء؛ أي كفاهم.

{أن يتخذوا عبادي} يعني عيسى والملائكة وعزيرا.

{من دوني أولياء} ولا أعاقبهم؛ ففي الكلام حذف. وقال الزجاج: المعنى؛ أفحسبوا أن ينفعهم ذلك.

١٠٣

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٤

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٥

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِاْلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر.

روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي

{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} أهم الحرورية؟ قال: لا؛ هم اليهود والنصارى. وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب؛ والحرورية الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا؛ فهم الأخسرون أعمالا، وهم

{الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} في عبادة من سواي. قال ابن عباس: (يريد كفار أهل مكة). وقال علي: (هم الخوارج أهل حروراء. وقال مرة: هم الرهبان أصحاب الصوامع). وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له: أنت وأصحابك.

قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك:

{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم} وليس من هذه الطوائف من يكفر باللّه ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي اللّه عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية.

و{أعمالا} نصب على التمييز. و{حبطت} قراءة الجمهور بكسر الباء. وقرأ ابن عباس {حبطت} بفتحها.

قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} قراءة الجمهور {نقيم} بنون والعظمة. وقرأ مجاهد بياء الغائب؛ يريد فلا يقيم اللّه عز وجل،

وقرأ عبيد بن عمير {فلا يقوم} ويلزمه أن يقرأ {وزن} وكذلك قرأ مجاهد {فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن}. قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة.

قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم (فلا نقيم لَهُمْ يوم القيامة وزنا). والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة؛ كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ؛ واللّه أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى اللّه عليه وسلم:

(إن أبغض الرجال إلى اللّه تعالى الحبر السمين) ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن) وهذا ذم. وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به؛ وقد ذم اللّه تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: ١٢] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان، والقيام بوظائف الإسلام؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما. وقد مضى في {الأعراف} هذا المعنى؛ وتقدم فيها ذكر الميزان، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة. وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة:

(تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض) فدل هذا على أن الأشخاص توزن؛ ذكره الغزنوي.

١٠٦

قوله تعالى: {ذلك جزاؤهم} {ذلك} إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء

{جزاؤهم} خبره. {جهنم} بدل من المبتدأ الذي هو {ذلك}.

{بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا} و{ما} في قوله: {بما كفروا} مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية؛ وقد تقدم.

١٠٧

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} قال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها وقال أبو أمامة الباهلي: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس؛ فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(من آمن باللّه وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة جاهد في سبيل اللّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول اللّه أفلا نبشر الناس؟ قال:

(إن في الجنة جاهد في سبيل اللّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول اللّه أفلا نبشر الناس؟ قال:

(إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وقال مجاهد: والفردوس البستان بالرومية. الفراء: هو عربي. والفردوس حديقة في الجنة. وفردوس اسم روضة دون اليمامة. والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش.

١٠٨

قوله تعالى: {خالدين فيها} أي دائمين.

{لا يبغون عنها حولا} أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل؛ قال أبو علي. وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها. قال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى: {خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}.

١٠٩

قوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} نفد الشيء إذا تم وفرغ؛ وقد تقدم.

{ولو جئنا بمثله مددا} أي زيادة على البحر عددا أو وزنا. وفي مصحف أُبي {مدادا} وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب {مددا} على التمييز أو الحال. وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: ٨٥] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر} الآية.

وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح؟ ! فقال اللّه تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات اللّه تعالى قليلة، قال ابن عباس: {كلمات ربي} أي مواعظ ربي.

وقيل: عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فوائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما؛ وقال الأعشى:

ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم

فعبر باللبات عن اللبة. وفي التنزيل

{نحن أولياؤكم} [فصلت: ٣١]

و{إنا نحن نزلنا الذكر} [الحجر: ٩]

{وإنا لنحن نحيي ونميت} [الحجر: ٢٣] وكذلك

{إن إبراهيم كان أمة} [النحل:١٢٠] لأنه ناب مناب أمة.

وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى. وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب. وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفه ثواب من قال لا إله إلا اللّه. ونظير هذه الآية: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه} [لقمان: ٢٧]. وقرأ حمزة والكسائي {قبل أن ينفد} بالياء لتقدم الفعل.

١١٠

قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} أي لا أعلم إلا ما يعلمني اللّه تعالى، وعلم اللّه تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا اللّه.

{فمن كان يرجو لقاء ربه} أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه

{فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول اللّه إني أعمل العمل للّه تعالى، وأريد وجه اللّه تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(إن اللّه طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه) فنزلت الآية. وقال طاووس قال رجل: يا رسول اللّه! إني أحب الجهاد في سبيل اللّه تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه! إني أتصدق وأصل الرحم أصنع ذلك إلا للّه تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسو اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم يقل شيئا، فأنزل اللّه تعالى {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.

قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال. وقد تقدم في سورة {هود} حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس وقد تقدم في سورة {النساء} الكلام على الرياء، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية. وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} إنه لا يرائي بعمله أحدا.

وروى الترمذي الحكيم رحمه اللّه تعالى في (نوادر الأصول) قال: حدثنا أبي رحمه اللّه تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبدالواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: حديث سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ما الذي أرى بوجهك؟ قال:

(أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي) قلت: ما هو يا رسول اللّه؟ قال:

(الشرك والشهوة الخفية) قلت: يا رسول اللّه! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال:

(يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) قلت: والرياء شرك هو؟ قال: (نعم). قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال:

(يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر) قال عبدالواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم؛ أما تقرأ {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.

وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال:

(كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء). وقالا: سمعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:

(من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك) ثم تلا {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.

قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في {النساء}. وقال سهل بن عبداللّه: وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر اللّه عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. {والذين يؤتون ما آتوا} [المؤمنون: ١٠] الآية؛ يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم؛ وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا؛ قيل لها: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين اللّه تعالى سوى وجه اللّه تعالى والدار الآخرة فهو رياء. وقال علماؤنا رضي اللّه تعالى عنهم: وقد يقضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به؛ كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبداللّه المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبداللّه؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم؛ فقال يا أبا عبداللّه سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين.

وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك؟ ! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الأشعث، بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء؛ فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته؛ وقد تقدم في {النساء} دواء الرياء من قول لقمان؛ وأنه كتمان العمل، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه اللّه تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشرك، قال:

(هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات).

وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر {فمن كان يرجو لقاء ربه} فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء. وقال عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(أوحى إلي أنه من قرأ {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له). وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء)

وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال:

"إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك

{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} إلى آخر السورة فإن اللّه تعالى يوقظك متى شئت من الليل"؛ ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي اللّه تعالى عنه.

وفي مسند الدرامي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال:

من قرأ آخر سورة الكهف لساعة أن يقوم من الليل قامها؛ قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول: لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران، ومواصلة الإخوان؛ وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا}.

﴿ ٠