٣

قوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} قال عبداللّه بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد.

وروي أن رجلا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} فنفض يده من البنيان، وقال: واللّه لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب.

{اقترب} أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم.

{للناس} قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: {إلا استمعوه وهم يلعبون} إلى قوله: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون}.

وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ يدل على ذلك ما بعد من الآيات؛ ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت؛ وموت كل إنسان قيام ساعته؛ والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.

وقال الضحاك: معنى {اقترب للناس حسابهم} أي عذابهم يعني أهل مكة؛ من لأنهم استبطؤوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس؛ لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير.

{وهم في غفلة معرضون} ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان:

أحدهما: {وهم غفلة معرضون} يعني بالدنيا عن الآخرة.

الثاني: عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم. وهذا الواو عند سيبويه بمعنى {إذ} وهي التي يسميها النحويون واو الحال؛ كما قال اللّه تبارك وتعالى: {يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} [آل عمران: ١٥٤].

قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} {محدث} نعت لـ {ذكر}. وأجاز الكسائي والفراء {محدثا} بمعنى ما يأتيهم محدثا؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع {محدث} على النعت للذكر؛ لأنك لو حذفت {من} رفعت ذكرا؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزل اللّه تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى اللّه عليه وسلم ويعظهم به. وقال: {من ربهم} لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى اللّه عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال اللّه تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر} [الغاشية: ٢١]. ويقال: فلان في مجلس الذكر.

وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قال الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية

{هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: ٣] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى:

{ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين} [القلم: ٥١ - ٥٢] يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال:

{قد أنزل اللّه إليكم ذكرا. رسولا} [الطلاق: ١٠ - ١١].

{إلا استمعوه} يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى اللّه عليه وسلم أو من أمته.

{وهم يلعبون} الواو واو الحال يدل عليه

{لاهية قلوبهم} ومعنى {يلعبون} أي يلهون.

وقيل: يشتغلون؛ فإن حمل تأويله على اللّهو احتمل ما يلهون به وجهين:

أحدهما: بلذاتهم.

الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله حلى الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين:

أحدهما: بالدنيا لأنها لعب؛ كما قال اللّه تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد: ٣٦].

الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل

وقيل: يستمعون القرآن مستهزئين.

قوله تعالى: {لاهية قلوبهم} أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر اللّه، متشاغلة عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و{لاهية} نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله:

{خاشعة أبصارهم} [القلم: ٤٣]

و{ودانية عليهم ظلالها} [الإنسان: ١٤] و{لاهية قلوبهم} قال الشاعر:

لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل

أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء {لاهية قلوبهم} بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى؛ إلا استمعوه لاهية قلوبهم.

{وأسروا النجوى الذين ظلموا} أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: {الذين ظلموا} أي الذي أشركوا؛ فـ {الذين ظلموا} بدل من الواو في {أسروا} وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم؛ ولا يوقف على هذا القول على {النجوى}. قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبداللّه فبنو بدل من الواو في انطلقوا.

وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا.

وقيل: على حذف القول؛ التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول؛ مثل {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} [الرعد: ٢٣ - ٢٤]. واختار هذا القول النحاس؛ قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: ٣]. وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم؛ ولا يوقف على هذا الوجه على {النجوى} ويوقف على الوجه المتقدمة الثلاثة قبله؛ فهذه خمسة أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث؛ وهو حسن؛ قال اللّه تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم} [المائدة: ٧١]. وقال الشاعر:

بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض

وقال آخر:

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة: {أسروا} هنا من الأضداد؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه.

قوله تعالى: {هل هذا إلا بشر مثلكم} أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون. وما علموا أن اللّه عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم.

{أفتأتون السحر} أي إن الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم سحر، فكيف تجيؤون إليه وتتبعونه؟ فأطلع اللّه نبيه عليه السلام على ما تناجوا به.

و{السحر} في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة.

{وأنتم تبصرون} أنه إنسان مثلكم مثل: {وأنتم تعقلون} لأن العقل البصر بالأشياء.

وقيل: المعنى؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر.

وقيل: المعني؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق؛ ومعنى الكلام التوبيخ.

﴿ ٣