|
١٦ قوله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علما} أي فهما؛ قاله قتادة. وقيل: علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال: {وعلمناه صنعة لبوس لكم} [الأنبياء: ٨٠]. وقيل: صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذي آتاهما اللّه النبوة والخلافة في الأرض والزبور. {وقالا الحمد للّه الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد اللّه المؤمنين. {يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: ١١]. وقد تقدم هذا في غير موضع. قوله تعالى: {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} قال الكلبي: كان لداود صلى اللّه عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء؛ وقال ابن العربي؛ قال: فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد؛ فخص اللّه سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال ابن عطية: داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا؛ وهذا نحو قوله: {العلماء ورثة الأنبياء} ويحتمل قوله عليه السلام: {إنا معشر الأنبياء لا نورث} أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ {زكريا} على أشهر الأقوال فيه؛ وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه: إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف. قلت: قد تقدم هذا المعنى في {مريم} وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام: {إنا معشر الأنبياء لا نورث} فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره: ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه؛ فإن اللّه سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. واليهود تقول ألف وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلى اللّه عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة. قوله تعالى: {وقال يا أيها الناس} أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم اللّه {علمنا منطق الطير} أي تفضل اللّه علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية: كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي: السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك اللّه الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول: السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخي: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي اللّه. قال إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان: احذر يا هدهد! فقال: يا نبي اللّه! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال: هدهد ما هذا؟ قال: ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي اللّه. قال: ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال: يا نبي اللّه إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا اللّه يا مذنبين؛ فمن ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتله. وقيل: إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوام؛ روي عن أبي هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حي ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى اللّه الوحشة، فآنسه اللّه تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب اللّه عز وجل: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته} [الحشر: ٢١] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {العزيز الحكيم} [البقرة: ١٢٩]. وهدرت حمامة عند سليمان فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمري عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن. وقال كعب: وحدثهم سليمان، فقال: الغراب يقول: اللّهم العن العشار؛ والحدأة تقول: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: ٨٨]. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان. وقال مكحول: صاح دراج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: ٥]. وقال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (الديك إذا صاح قال اذكروا اللّه يا غافلين). وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ: {الحمد للّه رب العالمين} [الفاتحة: ٢] إلى آخرها فيقول: {ولا الضالين} [الفاتحة: ٧]) يمد بها صوته كما يمد القارئ. قال قتادة والشعبي: إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله: {علمنا منطق الطير} والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي: وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، واللّه جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له: أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان. |
﴿ ١٦ ﴾