|
٤٠ قوله تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. {في سدر مخضود} أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قال ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقد ذكر اللّه في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة توذي صاحبها؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وما هي} قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى اللّه عليه وسلم: {أو ليس يقول "في سدر مخضود" خضد اللّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر}. وقال أبو العالية والضحال: نظر المسلمون إلى وج {وهو واد بالطائف مخصب} فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة: إن الحدائق في الجنان ظليلة فيها الكواعب سدرها مخضود وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: {في سدر مخضود} وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة {النجم} عند قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} {النجم: ١٤} وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى: {وطلح منضود} الطلح شجر الموز واحده طلحة. قال أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي: بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والأحبالا فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: {طلع منضود} بالعين وتلا هذه الآية {ونخل طلعها هضيم} {الشعراء: ١٤٨} وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو {وطلع منضود} ثم قال: {لها طلع نضيد} {ق: ١٠} فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قال القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد - {وطلح منضود} فقال علي رضي اللّه عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ {وطلع} ثم قال: {لها طلع نضيد} {ق: ١٠} فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قول. والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة: خلت سبيل أتى كان يحسبه ورفعته إلى السجفين فالنضد وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها. قوله تعالى: {وظل ممدود} أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا} {الفرقان: ٤٥} وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمر بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد: غلب العزاء وكنت غير مغلب دهر طويل دائم ممدود وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: (وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم {وظل ممدود}). {وماء مسكوب} أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه. يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها. قوله تعالى: {وفاكهة كثيرة} أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم {لا مقطوعة} أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء {ولا ممنوعة} أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: {ولا ممنوعة} أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال اللّه تعالى: {وذللت قطوفها تذليلا} {الإنسان: ١٤}. وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. واللّه أعلم. قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: {ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة} قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل: {وفرش مرفوعة} دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: {هن لباس لكم}. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني ادم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} قال: {منهن البكر والثيب}. وقالت أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها: سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا عربا أترابا} فقال: (يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن اللّه بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء) أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيد عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رفعه إنا أنشأناهن إنشاء قال: (هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا). وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله إنا أنشأناهن إنشاء الآية قال: (هن عجائز الدنيا أنشأهن اللّه خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ليس هناك وجع). عربا جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد: وفي الخباء عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر هي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: عربا قال: (كلامهن عربي). وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم عربا بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. أترابا على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: أترابا أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. لأصحاب اليمين قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين. قوله تعالى: ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين رجع الكلام إلى قوله تعالى: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين أي هم ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: ثلة من الأولين يعني من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (هم جميعا من أمتي). وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان من الأمم الماضية ونصف من هذه الأمة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و ثلة رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الأمة على القول الثاني. |
﴿ ٤٠ ﴾