ÓõæÑóÉõ ÇáúãõãúÊóÍöäóÉö ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ËóáÇóËó ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð سورة الممتحنة ١ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} عدَّى اتخذ إلى مفعولين وهما {عدوكم أولياء}. والعدو فعول من عدا، كعفو من عفا. ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد.روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي اللّه عنه قال: بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: {ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها} فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {يا حاطب ما هذا؟} قال لا تعجل علي يا رسول اللّه، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان: كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (صدق). فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق. فقال: {إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فأنزل اللّه عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش. وكان في الكتاب: أما بعد، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم باللّه لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره اللّه بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن اللّه وليه وناصره. ذكره بعض المفسرين. وذكر القشيري والثعلبي: أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبدالعزى رهط الزبير بن العوام. وقيل: كان حليفا للزبير بن العوام، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتجهز لفتح مكة. وقيل: كان هذا في زمن الحديبية؛ فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أمهاجرة جئت يا سارة). فقالت لا. قال: (أمسلمة جئت) قالت لا. قال: (فما جاء بك) قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (فأين أنت عن شباب أهل مكة) وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني عبدالمطلب وبني المطلب على إعطائها؛ فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة. وكتب في الكتاب: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي. وفي رواية: عليا والزبير والمقداد. وفي رواية: أرسل عليا وعمار بن ياسر. وفي رواية: عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فأضربوا عنقها) فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع فقال علي: واللّه ما كذبنا ولا كذبنا! وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا واللّه لأجردنك ولأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها - فخلوا سبيلها ورجحوا بالكتاب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأرسل إلى حاطب فقال: (هل تعرف الكتاب؟) قال نعم. وذكر الحديث بنحو ما تقدم. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم.السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار. وقد مضى ذلك في غير موضع. من ذلك قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران: ٢٨]. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم [آل عمران: ١١٨]. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء [المائدة: ٥١]. ومثله كثير. وذكر أن حاطبا لما سمع يا أيها الذين آمنوا غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان. قوله تعالى: تلقون إليهم بالمودة يعني بالظاهر؛ لأن قلب حاطب كان سليما؛ بدليل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لهم: (أما صاحبكم فقد صدق) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. والباء في بالمودة زائدة؛ كما تقول: قرأت السورة وقرأت بالسورة، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي. ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف؛ معناه تلقون إليهم أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك تسرون إليهم بالمودة أي بسبب المودة. وقال الفراء: تلقون إليهم بالمودة من صلة أولياء ودخول الباء في المودة وخروجها سواء. ويجوز أن تتعلق بـ لا تتخذوا حالا من ضميره. و أولياء صفة له، ويجوز أن تكون استئنافا. ومعنى تلقون إليهم بالمودة تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم؛ وقاله الزجاج. الرابعة: من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم؛ كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين.إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا؟ اختلف الناس فيه؛ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الإمام. وقال عبدالملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض. ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لأن حاطبا أخذ في أول فعله.فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي: يكون نقضا لعهده. وقال أصبغ: الجاسوس الحربي يقتل، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان، فأمر به أن يقتل؛ فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه! فأم به النبي صلى اللّه عليه وسلم فخلى سبيله. ثم قال: (إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان). وقوله: وقد كفروا حال، إما من لا تتخذوا وإما من تلقون أي لا تتولوهم أو توادوهم، وهذه حالهم. وقرأ الجحدري لما جاءكم أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق. قوله تعالى: يخرجون الرسول استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أو حال من كفروا. وإياكم أن تؤمنوا باللّه ربكم تعليل لـ يخرجون المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا باللّه أي لأجل إيمانكم باللّه. قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقيل: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي شرط وجوابه مقدم. والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي * فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. ونصب جهادا وابتغاء لأنه مفعول. وقوله: تسرون إليهم بالمودة بدل من {تلقون} ومبيب عنه. والأفعال تبدل من الأفعال، كما قال تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب} {الفرقان: ٦٨}. وأنشد سيبويه: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقيل: هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة، فيكون استئنافا. وهذا كله معاتبة لحاطب. وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه. كما قال: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب ومعنى {بالمودة} أي بالنصيحة في الكتاب إليهم. والباء زائدة كما ذكرنا، أو ثابتة غير زائدة. قوله تعالى: {وأنا أعلم بما أخفيتم} أضمرتم {وما أعلنتم} أظهرتم. والباء في {بما} زائدة؛ يقال: علمت كذا وعلمت بكذا. وقيل: وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون، فحذف من كل أحد. كما يقال: فلان اعلم وأفضل من غيره. وقال ابن عباس: وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد. {ومن يفعله منكم} أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم {فقد ضل سواء السبيل} أي أخطأ قصد الطريق ٢ قوله تعالى: {إن يثقفوكم} يلقوكم ويصادفوكم؛ ومنه المثاقفة؛ أي طلب مصادفة الغرة في المسايفة وشبهها. وقيل: {يثقفوكم} يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم. {وودوا لو تكفرون} بمحمد؛ فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم. ٣ قوله تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم} لما اعتذر حاطب بأن له أولادا وأرحاما فيما بينهم، بين الرب عز وجل أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة إن عصي من أجل ذلك. {يفصل بينكم} فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكافرين النار. وفي {يفصل} قراءات سبع: قرأ عاصم {يفصل} بفتح الياء وكسر الصاد مخففا. وقرأ حمزة والكسائي مشددا إلا أنه على ما لم يسم فاعله. وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد مشددة. وروي عن علقمة كذلك بالنون مخففة. وقرأ قتادة وأبو حيوة {يفصل} بضم الياء وكسر الصاد مخففة من أفصل. وقرأ الباقون {يفصل} بياء مضمومة وتخفيف الفاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، واختاره أبو عبيد. فمن خفف فلقوله: {وهو خير الفاصلين} {الأنعام: ٥٧} وقوله: {إن يوم الفصل} {الدخان: ٤٠}. ومن شدد فلأن ذلك أبين في الفعل الكثير المكرر المتردد. ومن أتى به على ما لم يسم فاعله فلأن الفاعل معروف. ومن أتى به مسمى الفاعل رد الضمير إلى اللّه تعالى. ومن قرأ بالنون فعلى التعظيم. {واللّه بما تعملون بصير}. ٤ انظر تفسير الآية ٥ ٥ قوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم} لما نهى عز وجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار؛ أي فاقتدوا به وأتموا؛ إلا في استغفاره لأبيه. والأسوة ما يتأسى به، مثل القدوة والقدوة. ويقال: هو أسوتك؛ أي مثلك وأنت مثله. وقرأ عاصم {أسوة} بضم الهمزة لغتان. {والذين معه} يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين. وقال ابن زيد: هم الأنبياء {إذ قالوا لقومهم} الكفار {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون اللّه} أي الأصنام. وبرآء جمع بريء؛ مئل شريك وشركاء، وظريف وظرفاء. وقراءة العامة على وزن فعلاء. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق {براء} بكسر الباء على وزن فعال؛ مثل قصير وقصار، وطويل وطوال، وظريف وظراف. ويجوز ترل الهمزة حتى تقول: برا؛ وتنون. وقرئ {براء} على الوصف بالمصدر. وقرئ {براء} على إبدال الضم من الكسر؛ كرخال ورباب. والآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله. وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر اللّه ورسوله. {كفرنا بكم} أي بما آمنتم به من الأوثان. وقيل: أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق. {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا} أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم {حتى تؤمنوا باللّه وحده} فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين؛ فإنه كان عن موعدة منه له قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأببه، ثم بين عذره في سورة {التوبة}. وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} {الحشر: ٧} وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله. وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه. وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم؛ وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلم توالوهم. {وما أملك لك من اللّه من شيء} هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ أي ما أدفع عنك من عذاب اللّه شيئا إن أشركت به. {ربنا عليك توكلنا} هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه. وقيل: علم المؤمنين أن يقولوا هذا. أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على اللّه وقولوا: {ربنا عليك توكلنا} أي اعتمدنا {وإليك أنبنا} أي رجعنا {وإليك المصير} لك الرجوع في الآخرة {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أي لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا. {واغفر لنا} ذنوبنا {ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}. ٦ انظر تفسير الآية ٧ ٧ قوله تعالى: {لقد كان لكم فيهم} أي في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء. {أسوة حسنة} أي في التبرؤ من الكفار. وقيل: كرر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدة؛ وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه. {ومن يتول} أي عن الإسلام وقبول هذه المواعظ {فإن اللّه هو الغني} أي لم يتعبدهم لحاجته إليهم. {الحميد} في نفسه وصفاته. ولما نزلت عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين فعلم اللّه شدة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: {عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} وهذا بأن يسلم الكافر. وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وخالطهم المسلمون؛ كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وقيل: المودة تزويج النبي صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح تزويج النبي صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ وكانت تحت عبداللّه بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة. فأما زوجها فتنصر وسألها أن تتابعه على دينه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية. فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها؛ فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص. قال فزوجها من نبيكم. ففعل؛ وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار. وقيل: خطبها النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها؛ فساق عنه المهر وبعث بها إليه. فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى اللّه عليه وسلم ابنته: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. {يقدع} بالدال غير المعجمة؛ يقال: هدا فحل لا يقدع أنفه؛ أي لا يضرب أنفه. وذلك إذا كان كريما. ٨ قوله تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} هذه الآية رخصة من اللّه تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} {التوبة: ٥}. وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه؛ قال الحسن. الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقاله أبو صالح، وقال: هم خزاعة. وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل؛ فأذن اللّه في برهم. حكاه بعض المفسرين. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم: هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال: {نعم} خرجه البخاري ومسلم. وقيل: إن الآية فيها نزلت. روى عامر بن عبداللّه بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت، إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطا وأشياء؛ فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل اللّه تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}. ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده. قوله تعالى: {أن تبروهم} {أن} في موضع خفض على البدل من {الذين} ؛ أي لا ينهاكم اللّه عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم. وهم خزاعة، صالحوا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا؛ فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم؛ حكاه الفراء. {وتقسطوا إليهم} أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة. وليس يريد به من العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل؛ قاله ابن العربي. قال القاضي أبو بكر في كتاب الأحكام له: استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر. وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوبه، وإنما يعطيك الإباحة خاصة. وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك؛ فتلا هذه الآية عليهم. ٩ قوله تعالى: {إنما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم في الدين} أي جاهدوكم على الدين {وأخرجوكم من دياركم} وهم عتاة أهل مكة. {وظاهروا على إخراجكم} أي عاونوا على إخراجكم وهم مشركو أهل مكة {أن تولوهم} {أن} في موضع جر على البدل على ما تقدم في {أن تبروهم}. {ومن يتولهم} أي يتخذهم أولياء وأنصارا وأحبابا {فأولئك هم الظالمون}. ١٠ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات} لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة؛ فبين أحكام مهاجرة النساء. قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية بعد؛ فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يردها. وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ ردها علينا للشرط، فقال صلى اللّه عليه وسلم: {كان الشرط في الرجال لا في النساء} فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية: ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، حتى أنزل اللّه تعالى في المؤمنات ما أنزل؛ يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك. وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبداللّه، قال زيد بن حبيب. كذا قال الماوردي: أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ. وقال المهدوي: وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف. وهي امرأة حسان بن الدحداح، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل: إنها سعيدة زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة. والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة.واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما؛ فقالت طائفة منهم: قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ اللّه ردهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان. وهذا يدل على أن للنبي صلى اللّه عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقره اللّه على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظا، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين اللّه تعالى خروجهن عن عمومه. وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني: أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. قوله تعالى: {فامتحنوهن} قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ فلذلك أمر صلى اللّه عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاث أقوال: الأول: قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف باللّه أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا؛ بل حبا للّه ولرسوله. فإذا حلفت باللّه الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها؛ فذلك قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}. الثاني: أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه؛ قاله ابن عباس أيضا. الثالث: بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات} {الممتحنة: ١٢} قالت عائشة رضي اللّه عنها: ما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال اللّه: {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} {الممتحنة: ١٢} رواه معمر عن الزهري عن عائشة. خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما؛ فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز. وهذا مذهب الكوفيين. وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك. وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنصف الدية، وقال (أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما) قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بريء ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ. قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها. فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود. قوله تعالى: اللّه أعلم بإيمانهن أي هذا الامتحان لكم، واللّه اعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر. فإن علمتموهن مؤمنات أي بما يظهر من الإيمان. وقيل: إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن أي لم يحل اللّه مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة.وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة. والصحيح الأول، لأن اللّه تعالى قال: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار. واللّه اعلم. وقال أبو عمر: لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار. واللّه المستعان. قوله تعالى: وآتوهم ما أنفقوا أمر اللّه تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد، لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال. ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا. فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له. وللشافعي في هذه الآية قولان: أحدهما: أن هذا منسوخ. قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض. وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان: أحدهما يعطي العوض، والقول ما قال اللّه عز وجل، وفيه قول آخر أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض. فإن شرط الإمام رد النساء كان الشرط ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض، لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل. أمر اللّه تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الإمام، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف. وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد؛ فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق. والأمر كما قاله. قوله تعالى: ولا جناح عليكم أن تنكحوهن يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة. فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال ولها التزوج. إذا آتيتموهن أجورهن أباح نكاحها بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك. وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف [البقرة: ٢٣١]. وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو ولا تمسكوا مشددة من التمسك. يقال: مسك يمسك تمسكا؛ بمعنى أمسك يمسك. وقرئ ولا تمسكوا بنصب التاء؛ أي لا تتمسكوا. والعصم جمع العصمة؛ وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر؛ وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات؛ ثم نسخ ذلك في هذه الآية. فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة. وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبداللّه بن المغيرة؛ فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما. فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك، فأبي معاوية من ذلك. وكانت عند طلحة بن عبيداللّه أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من نساء الكفار، فحبسها وزوجها خالدا. وزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها. ذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال: أسلمت زينب بنت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم في الهجرة الأولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبدالعزى مشرك بمكة. الحديث. وفيه: أنه أسلم بعدها. وكذلك قال الشعبي. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته فأسلم فردها عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: بالنكاح الأول؛ ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين. وقال الحسن بن علي: بعد سنتين. قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول اللّه عز وجل: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [البقرة: ٢٢٨] يعني في عدتهن. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة. وقال ابن شهاب الزهري رحمه اللّه في قصة زينب هذه: كانقبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة التوبة بقطع العهود بينهم وبين المشركين. واللّه اعلم. قوله تعالى: بعصم الكوافر المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه. وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما. وهذا قول بعض أهل العلم. ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة. فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم - مالك بن أنس. وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم، واحتجوا بقوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر. دوقال الزهري: ينتظر بها العدة. وهو قول الشافعي وأحمد. واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت. قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار؛ كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول اللّه عز وجل: ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ثم بينت السنة أن مراد اللّه من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة. وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار؛ وليس بشيء. وقد تقدم.هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما؛ إذ لا عدة عليها. كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم: انقطعت العصمة بينهما. وحجته ولا تمسكوا بعصم الكوافر وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي. ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة. فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف. ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة. وهو قول مجاهد. وكذا الوثني تسلم زوجته، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها؛ كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما؛ على حديث ابن شهاب. ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما. قال يزيد بن علقمة: أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي اللّه عنه؛ وهو قول طاوس. وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل عليها إلا بخطبة. قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين. وكان هذا حكم اللّه مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة؛ قاله ابن العربي. ذلكم حكم اللّه أي ما ذكر في هذه الآية هو حكم اللّه. يحكم بينكم واللّه عليم حكيم. تقدم في غير موضع. ١١ قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} في الخبر: أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم اللّه؛ وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا}. وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: حكم اللّه عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} فكتب إليهم المسلمون: قد حكم اللّه عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به، فأنزل اللّه عز وجل: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا}. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ذلكم حكم اللّه يحكم بينكم} أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا. وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة. وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد. وقالا: ومعنى {فعاقبتم} فاقتصصتم. {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} يعني الصدقات. فهي عامة في جميع الكفار. وقال قتادة أيضا: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة {التوبة}. وقال الزهري: انقطع هذا عام الفتح. وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري. قوله تعالى: {فعاقبتم} قراءة العامة {فعاقبتم} وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج {فعقبتم} مشددة. وقرأ مجاهد {فأعقبتم} وقال: صنعتم كما صنعوا بكم. وقرأ الزهري {فعقبتم} خفيفة بغير ألف. وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة {فعقبتم} بكسر القاف خفيفة. وقال: غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد. يقال: عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. وقال القتبي {فعاقبتم} فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو. وقال ابن بحر: أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين. {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} قال ابن عباس: يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء. وعنه يعطى من صدق من لحق بنا. وقيل: أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم. قال الأعمش: هي منسوخة. وقال عطاء: بل حكمها ثابت. وقد تقدم جميع هذا. القشيري: والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما هاجر عمر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبدالعزى، كانت تحت هشام بن العاص. وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب. وشهبة بنت غيلان. فأعطاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. {واتقوا اللّه} احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به. ١٢ قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن ألا يشركن. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمتحن بقول اللّه تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين} إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {انطلقن فقد بايعتكن} ولا واللّه ما مست يد رسول اللّه يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: واللّه ما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره اللّه عز وجل، وما مست كف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كف امرأة قط؛ وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن {قد بايعتكن كلاما}. وروي أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن. وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن. وروي أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن. ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما ينبغي التعويل على ما في الصحيح. وقالت أم عطية: لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكن؛ ألا تشركن باللّه شيئا. فقلن نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت؛ ثم قال: اللّهم اشهد. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه. روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قال: {على ألا يشركن باللّه شيئا} قالت هند بنت عتبة وهي منتقبة خوفا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد: واللّه إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط - فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ولا يسرفن} فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان: هو لك حلال. فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم وعرفها وقال: {أنت هند} ؟ فقالت: عفا اللّه عما سلف. ثم قال: {ولا يزنين} فقالت هند: أو تزني الحرة! ثم قال: {ولا يقتلن أولادهن} أي لا يئدن الموؤودات ولا يسقطن الأجنة. فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر. ثم قال: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بن أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف} قيل: معنى {بين أيديهن} ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين {أرجلهن} فروجهن. وقيل: ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع وقيل: المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور. وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى. وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت: واللّه إن البهتان لأمر قبيح؛ ما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق!. ثم قال: {ولا يعصينك في معروف} قال قتادة: لا ينحن. ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم: هو إلا يخمشن وجها. ولا يشققن جيبا، ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم. وروت أم عطية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ذلك في النوح. وهو قول ابن عباس. وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم {ولا يعصينك في معروف} فقال: {هو النوح}. وقال مصعب بن نوج: أدركت عجوزا ممن بايع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فحدثتني عنه عليه الصلاة والسلام في قوله: {ولا يتعصينك في معروف} فقال: {النوح}. وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الآية: {يبايعنك على إلا يشركن باللّه شيئا - إلى قوله - ولا يعصينك في معروف} قال: {كان منه النياحة} قالت: فقلت يا رسول اللّه، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية؛ فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إلا آل فلان}. وعنها قالت: أخذ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع البيعة إلا ننوح؛ فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنه أبي سيرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. وقيل: إن المعروف ها هنا الطاعة للّه ولرسوله؛ قال ميمون بن مهران. وقال بكر بن عبداللّه المزني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن. الكلبي: هو عام في كل معروف أم اللّه عز وجل ورسول به. فروي أن هندا قالت عند ذلك: ما جلستا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.ذكر اللّه عز وجل ورسول عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة خصالا شتى؛ صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الأمر. وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم أكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا. ونحو منه قول عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس: {وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت} فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.لما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في البيعة: {ولا يسرقن} قالت هند: يا رسول اللّه إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي؟ قال {لا إلا بالمعروف} فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم: {لا} أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة. قال ابن العربي وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ولا يضبط عليه بقفل فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصي به وتُقطع يدها بذلك. قال عبادة بن الصامت: أخذ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما أخذ على النساء: {إلا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوا في معروف أمركم به}. معنى {يعضه} يسحر. والعضه: السحر. ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: {ولا يأتين ببهتان} إنه السحر. وقال الضحاك: هذا نهى عن البهتان، أي لا يعضهن رجلا ولا امرأة. {ببهتان} أي بسحر. واللّه اعلم. {يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} والجمهور على أن معنى {ببهتان} بولد يفترينه بين أيديهن {ما أخذته لقيطا.} وأرجلهن {ما ولدته من زنى. وقد تقدم. قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف قال: إنما هو شرط شرطه اللّه للنساء. واختلف في معناه على ما ذكرنا. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم وينهى عنه؛ فيدخل فيه النوح وتخريق الثياب وجز الشعر والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. وهذه كلها كبائر ومن أفعال الجاهلية. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) فذكر منها النياحة. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار). وعنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة). وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل: يا أمير المومنين، المرأة المرأة! قد وقع خمارها. فقال: إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه اللّه. أما تخصيص قوله: في معروف مع قوة قوله: ولا يعصينك ففيه قولان: أحدهما: أنه تفسير للمعنى على التأكيد؛ كما قال تعالى: قال رب احكم بالحق [الأنبياء: ١١٢] لأنه لو قال احكم لكفى. الثاني: إنما شرط المعروف في بيعة النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للإشكال. روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (أتبايعوني على إلا تشركوا باللّه شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا) قرأ آية النساء. وأكثر لفظ سفيان قرأ في الآية (فمن وفى منكم فأجره على اللّه ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره اللّه فهو إلى اللّه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له منها). وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب؛ فنزل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} - حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ - : أنتن على ذلك)؟ فقالت: امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول اللّه؛ لا يدري الحسن من هي. قال: {فتصدقن} وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. لفظ البخاري. قال المهدوي: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا؛ والأمر بذلك ندب لا إلزام. وقال بعض أهل النظر: إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة. ١٣ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب اللّه عليهم} يعني اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم فنهوا عن ذلك. {قد يئسوا من الآخرة} يعني اليهود قاله ابن زيد. وقيل: هم المنافقون. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. قال ابن مسعود: معناه أنهم تركوا العمل للآخرة وآثروا الدنيا. وقيل: المعنى يئسوا من ثواب الآخرة، قاله مجاهد. {كما يئس الكفار} أي الأحياء من الكفار. {من أصحاب القبور} أن رجعوا اليهم؛ قال الحسن وقتادة. قال ابن عرفة: وهم الذين قالوا: {وما يهلكنا إلا الدهر} {الجاثية: ٢٤}. وقال مجاهد: المعنى كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. وقيل: إن اللّه تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار؛ وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعة وغيره. قال ابن عباس: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا} أي لا توالوهم ولا تناصحوهم؛ رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة. يريد أن كفار قريش قد يئسوا من خير الآخرة كما يس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة اللّه تعالى. وقال القاسم بن أبي بزة في قوله تعالى: {قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} قال: من مات من الكفار يئس من الخير. واللّه اعلم. |
﴿ ٠ ﴾