٤ قوله تعالى: {إن تتوبا إلى اللّه} يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. {فقد صغت قلوبكما} أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى اللّه عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال: {فقد صغت قلوبكما} ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في {المائدة} في قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} {المائدة: ٣٨}. وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: {فقد صغت قلوبكما} جزاء للشرط، لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما. قوله تعالى: {وإن تظاهرا عليه} أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرع، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: واللّه إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. {فإن اللّه هو مولاه} أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. {وجبريل وصالح المؤمنين} قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي اللّه عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر} {العصر: ٢}، قاله الطبري. وقيل: {صالح المؤمنين} هم الأنبياء، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: {صالح المؤمنين} ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: لما اعتزل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! واللّه لقد علمت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول اللّه، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإني أظن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، واللّه لئن أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه؛ فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: {ما يبكيك يا ابن الخطاب} ؟ قلت يا نبي اللّه، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: {يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا} قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول اللّه، ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن اللّه معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد اللّه - بكلام إلا رجوت أن يكون اللّه عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} {التحريم: ٥}. {وإن تظاهرا عليه فإن اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقلت: يا رسول اللّه، أطلقتهن؟ قال: {لا}. قلت: يا رسول اللّه، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: {نعم إن شئت}. فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزلت؛ فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول اللّه، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: {إن الشهر يكون تسعا وعشرين} فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} {النساء: ٨٣}. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ وأنزل اللّه آية التخيير. قوله تعالى: {وجبريل} فيه لغات تقدمت في سورة {البقرة}. ويجوز أن يكون معطوفا على {مولاه} والمعنى: اللّه وليه وجبريل وليه؛ فلا يوقف على {مولاه} ويوقف على {جبريل} ويكون {وصالح المؤمنين} مبتدأ {والملائكة} معطوفا عليه. و {ظهير} خبرا؛ وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبداللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه تعالى: {فإن اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( {وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون {وجبريل} مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ظهير وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على مولاه. ويجوز أن يكون جبريل وصالح المؤمنين معطوفا على مولاه فيوقف على المؤمنين ويكون والملائكة بعد ذلك ظهير ابتداء وخبرا. ومعنى ظهير أعوان. وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى: وحسن أولئك، رفيقا [النساء: ٦٩]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم [المعارج: ١١]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبداللّه قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى اللّه عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ فقال: يا رسول اللّه، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: واللّه لا نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: يا أيها النبي قل لأزواجك حتى بلغ للمحسنات منكن أجرا عظيما {[الأحزاب: ٢٨] الحديث. وقد ذكراه في سورة الأحزاب. |
﴿ ٤ ﴾