٣

قوله تعالى: {يا أيها المدثر} أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي {المتدثر} على الأصل.وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبداللّه وكان من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه:

{فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض}. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

{فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر} في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال: {ثم تتابع الوحي}. خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو {أقرأ}. فقال: سألت جابر بن عبداللّه أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو {أقرأ} فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى اللّه عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل اللّه عز وجل: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر} ) خرجه البخاري وقال فيه:

(فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر} ).

ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى اللّه عليه وسلم من عقبة {بن ربيعة} أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت: {يا أيها المدثر} وهذا باطل.

وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال اللّه تعالى: {قم فانذر} أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.

وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما؛ فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: {يا أيها المدثر}. وقال عكرمة: معنى {يا أيها المدثر} أي المدثر بالنبوة وأثقالها.

ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.

قوله تعالى: {يا أيها المدثر}: ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة {المزمل}. ومثله قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد: {قم أبا تراب} وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي اللّه عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم.

ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: {قم يا نومان} وقد تقدم.

{قم فأنذر} أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.

وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة.

وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. {وربك فكبر} أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: {وربك فكبر} أي وصفه بأنه أكبر.

قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه.

وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {قولوا اللّه أعلى وأجل} وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: {اللّه أكبر} وحمل عليه لفظ النبي صلى اللّه عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: {تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح للّه تخليصا له من الشرك، وإعلانا باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك. قلت: قد تقدم في أول سورة {البقرة} أن هذا اللفظ {اللّه أكبر} هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: {وربك فكبر} قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: {اللّه أكبر} فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من اللّه تعالى؛ ذكره القشيري.

الفاء في قوله تعالى: {وربك فكبر} دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في {فأنذر} أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة.

﴿ ٣