٥

قوله تعالى: {الذي خلق فسوى} قد تقدم معنى التسوية في {الانفطار} وغيرها. أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج. وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن أكثر قامته. ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه.

وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الأمهات.

وقيل: خلق الأجساد، فسوى الأفهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف.

{الذي قدر فهدى} قرأ علي رضي اللّه عنه السلمي والكسائي {قدر} مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكل. {فهدى} أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها.

وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا.

وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله {فهدى} قالوا: عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى؛ كما قال في {طه}: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: ٥٠] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له.

وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها.

وقيل {قدر فهدى}: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها؛ فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه، ولا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ ك قوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: ٨١].

ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان؛ ك قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}. [الشورى: ٥٢]. أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الإيمان.

وقيل: {فهدى} أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من {قدر} أنه من التقدير؛ ك قوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: ٢].

ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك؛ أي ملك الأشياء، وهدي من يشاء.

قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته.

قوله تعالى: {والذي أخرج المرعى} أي النبات والكلأ الأخضر. وقال الشاعر:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا

{فجعله غثاء أحوى} الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش. وكذلك الغثاء {بالتشديد}. والجمع: الأغثاء، قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء؛ كما قال:

كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل

وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا. وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى: الأسود؛ أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة: السواد؛ قال الأعشى:

لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب

وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة. وتصغير أحوى أحيو؛ في لغة من قال أسيود.

ثم قيل: يجوز أن يكون {أحوى} حالا من {المرعى}، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد؛ والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت؛ حكاه الكسائي، وقال:

وغيث من الوسميّ حُوٍّ تلاعه تبطنته بشيظم صلتان

ويجوز أن يكون {حوى} صفة لـ {غثاء}. والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه؛ والرطب إذا يبس أسود. وقال عبدالرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه اللّه تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

﴿ ٥