٣ قوله تعالى: {والضحى. والليل إذا سجى} قد تقدم القول في {الضحى}، والمراد به النهار؛ لقوله: {والليل إذا سجى} فقابله بالليل. وفي سورة {الأعراف} {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف: ٩٧] أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: {وأن يحشر الناس ضحى} [طه: ٥٩]. وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. و {سجا} معناه: سكن؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى: فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا وقال الراجز: يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج وقال جرير: ولقد رمينك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواجيو قال الضحاك: {سجا} غطى كل شيء. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه؛ وقال ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {سجا} استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: {سجا} سكن؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: {والضحى. والليل إذا سجا}: يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: {الضحى}: يعني نور الجنة إذا تنور. {والليل إذا سجا}: يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: {والضحى}: يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {والليل إذا سجا}: يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء. قوله تعالى: {ما ودعك ربك} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه اللّه وودعه؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا؛ فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فأنزل اللّه عز وجل {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى}. وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت) قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {ما ودعك ربك وما قلى}. هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: (فلم يقم ليلتين أو ثلاثا) أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: (هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت) فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فنزلت {والضحى}. وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو؛ فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: {ما ودعك ربك وما قلى}. وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم -: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: (يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني) قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: (يا خولة دثريني) فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال: (أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة). وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: (سأخبركم غدا). ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء اللّه} [الكهف: ٢٣] فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت {ما ودعك ربك وما قلى}. وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: (وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم). فنزل جبريل بهذه السورة؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ما جئت حتى اشتقت إليك) فقال جبريل: (أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور) ثم أنزل عليه {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: ٦٤]. {ودعك} بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه {ودعك} بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: {وما قلى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض؛ فإن فتحت القاف مددت؛ تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقريه قرى وقرأء. ويقلاه: لغة طيء. وأنشد ثعلب: أيام أم الغمر لا نقلاها أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وقال امرؤ القيس: ولست بمقلي الخلال ولا قال وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية؛ كما قال عز وجل: {والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات} [الأحزاب: ٣٥] أي والذاكرات اللّه. |
﴿ ٣ ﴾