١١

قد تقدم القول في الميزان في {الأعراف والكهف والأنبياء}. وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسانات والسيئات. ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجوع.

وقيل: موازين، كما قال:

فلكل حادثة لها ميزان

وقد ذكرناه فيما تقدم. وذكرناه أيضا في كتاب {التذكرة}

وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبدالعزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه

{عيشة راضية} أي عيش مرضي، يرضاه صاحبه.

وقيل: {عيشة راضية} أي فاعلة للرضا،وهو اللين والانقياد لأهلها. فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضا، كالفرش المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي اللّه أتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع كهيئتها، ومثل الشجرة فرعها، كذلك أيضا من الارتفاع، فإذا أشتهى ولي اللّه ثمرتها تدلت إليه، حتى يتناولها ولي اللّه قاعدا وقائما، وذلك قوله تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة: ٢٣]. وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان، جرى معه نهر حيث شاء، علوا وسفلا، وذلك قوله تعالى: {يفجرونها تفجيرا} [الإنسان: ٦]. فيروى في الخبر

(إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه).

فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها، فهي فاعلة للرضا، وهي أنزلت وانقادت بذلا وسماحة.

{فأمه هاوية} يعني جهنم. وسماها أما، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد

وسميت النار هاوية، لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار. وقال قتادة: معنى

{فأمه هاوية} فمصيره إلى النار. عكرمة: لأنه يهوي فيها على أم رأسه. الأخفش: {أمه}: مستقره، والمعنى متقارب. ووقال الشاعر:

يا عمرو لو نالتك أرماحنا كنت كمن تهوي به الهاوية

والهاوية: المهواة. وتقول: هوت أمه، فهي هاوية، أي ثاكلة، قال كعب بن سعد الغنوي:

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يؤدي الليل حين يؤوب

والمهوي والمهواة: ما بين الجبلين، ونحو ذلك. وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض.

{وما أدراك ما هيه} الأصل {ما هي} فدخلت الهاء للسكت. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن {ما هي نار} بغير هاء في الوصل، ووقفوا بها. وقد مضى في سورة الحاقة بيانه.

{نار حامية} أي شديدة الحرارة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

(ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم) قالوا: واللّه إن كانت لكافية يا رسول اللّه. قال:

(فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها).

وروي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه قال: إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه، لأنه وضع فيه الحق، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خف ميزان من خف ميزانه، لأنه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا.

وفي الخبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

(أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله، فيقول ذلك مات قبلي، أما بربكم؟ فيقولون لا واللّه، فيقول إنا للّه وإنا إليه راجحون! ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية). وقد ذكرناه بكماله في كتاب {التذكرة}، والحمد للّه.

﴿ ١١