سُورَةُ النَّصْرِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَلاَثُ آياَتٍ سورة النصر ١ {إذا جاء نصر اللّه والفتح} النصر: العون مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. وقال الشاعر: إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وأنصري أرض عامر ويروى: إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وأنصري أرض عامر يقال: نصره على عدوه ينصره نصرا؛ أي أعانه. والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه. وتناصروا: نصر بعضهم بعضا. ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبري. وقيل: نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له. وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور. وقيل: فتح سائر البلاد. وقيل: ما فتحه عليه من العلوم. و {إذا} بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر اللّه؛ لأن نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك. ٢ قوله تعالى: {ورأيت الناس} أي العرب وغيرهم. {يدخلون في دين اللّه أفواجا} أي جماعات: فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان. فكانوا يسلمون أفواجا: أمة أمة. قال الضحاك: والأمة: أربعون رجلا. وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون؛ فسر النبي صلى اللّه عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ: {إذا جاء نصر اللّه والفتح} وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين اللّه أفواجا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمين، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية). وروى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمين) وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجا. والثاني: معناه أن اللّه تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار. وروى جابر بن عبداللّه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: {إن الناس دخلوا في دين اللّه أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا} ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي: وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم؛ فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: {إن الناس دخلوا في دين اللّه أفواجا، وسيخرجون من دين اللّه أفواجا}. ٣ قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل؛ عن ابن عباس: {بحمد ربك} أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح. {واستغفره} أي سل اللّه الغفران. وقيل: {فسبح} المراد به: التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. {واستغفره} أي سل اللّه الغفران مع مداومة الذكر. والأول أظهر. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إذا جاء نصر اللّه والفتح} إلا يقول: {سبحانك ربنا وبحمدك، اللّهم اغفر لي} وعنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: {سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك، اللّهم اغفر لي}. يتأول القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت أم سلمة: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: (سبحان اللّه وبحمده، استغفر اللّه وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - "إذا جاء نصر اللّه والفتح" إلى آخرها). وقال أبو هريرة: اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه. ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ما يبكيك يا عم؟) قال: نعيت إليك نفسك. قال: (إنه لكما تقول) ؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صلى اللّه عليه وسلم. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (صدقتما، نعيت إليّ نفسي). وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة: {إذا جاء نصر اللّه والفتح} فقالوا: أمر اللّه جل وعز نبيه صلى اللّه عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم حضور أجله، فقال: {إذا جاء نصر اللّه والفتح}، فذلك علامة موتك. {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. فقال عمر رضي اللّه عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. والمعنى الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال له عبدالرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: {إذا جاء نصر اللّه والفتح}. فقلت: إنما هو أجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: واللّه ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه: (رب اغفر في خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللّهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير). فكان صلى اللّه عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم اللّه به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال. وقيل: الاستغفار تَعَبُدٌ يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا. وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: {واستغفره} أي استغفر لأمتك. قوله تعالى: {إنه كان توابا} أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر من قوله: (سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه}. فقال: {خَبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه، فقد رأيتها: "إذا جاء نصر اللّه والفتح" - فتح مكة - "ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا"). وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع؛ ثم نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: ٣] فعاش بعدهما النبي صلى اللّه عليه وسلم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: ١٢٨] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه} فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في {البقرة} بيانه، والحمد اللّه. |
﴿ ٠ ﴾